يتم التساؤل، وعلى نطاق واسع عن تراجع القصة القصيرة في الأدب الإماراتي وتخمين العوامل التي تلاقت لتصنع ذلك التراجع وتدفع روادها إلى التخلي الطوعي عن كتابتها بعد مرور عقدين من الكتابة القصصية التي ابتدأت بنضح ووعي أسلوبي وفكري منذ بداية السبعينات وتوقفت فجأة عند مطلع التسعينات، بدءًا بعبد الله صقر الذي أصدر أول مجموعة قصصية (الخشبة) سنة 1975، وصمت طويلاً بعد الخشبة، ولم يصدر بعدها أي مجموعة ورقية مكتفياً بنشر مقاطع شعرية متفرقة في تويتر - حسب ما صرّحه لنا في لقائنا معه في الندوة التي انعقدت في نادي القصة، في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، بتاريخ: 2019/‏‏ 2/‏‏28 وحين بادرنا بالسؤال عن أسباب الصمت أجابنا: (كانت لي بالطبع تجارب أدبية أخرى، بعضها لم يرتقِ للنشر، وعموماً لي إصدار آخر هو (اغتراب في زمن مشلول) يعود إلى العام 1975 ذاته، ودائماً ما أستدعي أفكاري في فترة السبعينات، لكني لا أريد أن أبقى عالقاً فيها).
ثم يخامرنا سؤال في تجربة شيخة الناخي التي أصدرت مجموعتين في سنة 1992: (الرحيل) و(رياح الشمال) ثم توقفت. والسؤال في التجارب الأكثر عطاءً وغزارة مثل قصص الأديب محمد المر المنشورة في الثمانينات، حيث فترة حماسه وعطائه الغزير، فلقد أصدر بين عامي 1982 و1989 اثنتي عشرة مجموعة قصصية.
وتجارب أخرى أغنت الساحة الأدبية بوعيها ونضجها الإبداعي كتجربة عبد الحميد أحمد، وعبد العزيز الشرهان، سلمى مطر سيف، سعاد العريمي، ومريم جمعة فرج وغيرهم ممن أسسوا لفن القصة، ثم وكأنهم اتفقوا فجأة على تركها وبشكل جماعي، فمنهم من انتقل إلى جنس أدبي آخر، ومنهم من ترك الكتابة بشكل حاسم ونهائي مخلّفاً وراءه ظاهرة الهجرة من الكتابة إلى المجهول الذي يفتح باباً على التوقع والاحتمال والأسئلة.
بتلك العتبة الاستهلالية حول غياب رواد القصة في الإمارات ممن برزت لهم مجموعات قصصية قبل اتخاذ قرار الغياب في أواخر القرن الماضي، تنامى إلى أذهاننا تجريد فكرة أخرى تنبثق من تلك العتبة: (ماذا عن سؤالنا حول الكاتب الإماراتي الذي كتب قصة واحدة أو قصتين ثم انطفأ أو رحل نهائياً إلى مجال آخر في الأدب والفنون؟).
لعلّ الغاية من محاولة إنجازنا لهذا الأثر المتواضع - وأعني إعداد وجمع القصص اليتيمة في الإمارات - هي إشباع حاجة السؤال عن البدايات الأدبية في الإمارات، ومن ثم خدمة المهتمّين بتاريخ السّاحة الأدبيّة الإماراتيّة، والملمّين خاصّة بتحوّلاتها السّرديّة، إذ يُعنى الكتاب بالنّاتج القصصيّ في جنس القصّة لرعيلها الأوّل، ممّن برزت أسماؤهم في عوالم الأدب، وصاروا يمثّلون رموزاً ثقافيّة في المشهد الإماراتيّ، فلقد كانت بداياتهم أوائل الثمانينات في الكتابة مع القصّة، خاضوا غمارها واختبروا عوالمها في زمن كان لها فيه السّبق، لينصرفوا عنها جهة مشاريعهم الشّعريّة والفنية انصرافا كلّيّا، قبل أن تأخذ تجاربهم القصصيّة ما يتوجّب من مراكمة وما تستحقّه من تكثيف وقبل أن تتوضّح معالمها.
وفضلاً عن الشّعراء فإنّ الكتاب يحمل بين طيّاته أسماء ترك أصحابها بصمتهم في عوالم فنّيّة مختلفة، كالتّشكيل والمسرح. ولعلّ السّمة المميّزة لما في الكتاب من قصص هو يُتمها، بالنّظر إلى اكتفاء أصحابها بنصّ واحد، أو بعدد محدود من النّصوص القصصيّة لم يرتق على المستوى الكمّيّ بما يكفل ضمّه في مجموعة قصصيّة واحدة.

رصد انطباعي
يمكننا القول على سبيل الانطباع أن هنالك ملامح عامة للقصص اليتيمة المنشورة في الكتاب:
- لغة قصصية تستفيد ضمنياً من لغة الشعر، والسينما، واللوحات والتشكيل.
- تفاعل جنس القصة بالشعر بصراحة ووضوح، كما في قصة الهنوف محمد التي أرفقت خاتمة قصتها بقصيدة مستوحاة منها وتدور في نفس فلك الفكرة.
- بما أن الكتابة القصصية كانت في بداية نشأتها فمن الطبيعي أن تكون النصوص المنشورة أقرب إلى السيرة المجزوءة من الذاكرة، قد لا تحتمل فكرة الإشباع أو الاكتمال، فهي في محاولة البحث عن صيغ فنية ترتكز عليها.
- نلاحظ بروز القصة القصيرة جداً من حيث معيار الحجم وتكثيف المضمون عند تجارب بعض الكتاب، مثل: حبيب الصايغ، أحمد راشد ثاني، عادل خزام، موزة حميد. ما يعزز التساؤل حول تاريخ وامتداد القصة القصيرة جداً في الإمارات. يقابله أيضاً التأثر بالسرد القصصيّ الكلاسيكي الطويل في تجربة الكاتب أحمد العسم.
- الحداثة وما لعبته من أثر كبير في النضج وإحداث التحول القصصي من التقليدية. برز ذلك في مسلك طرح الفكرة والمضمون، والبناء، واللغة، والشكل القصصي الذي قد تنهار فيه أحد دعائم عناصر القص المتعارف عليه، فثمة قصص بلا أسماء، وأخرى يتماهى فيها الزمن ويظل مجهولاً بلا ملامح، ولا يشير فيها الكاتب إلى موقع جغرافي بعينه.
- الاستفادة من ثيمة كسر الزمان في السينما، والانتقال بعين الكاميرا، كما في قصة الكاتب والإعلامي عادل خزام.
- هل يمكننا القول أن هنالك آثر للكابوسية ؟ وبالأخص في قصتي: إبراهيم الملا، وإبراهيم الهاشمي.
- القلق الرمزي من التصاعد الحضاري السريع، القلق من الآخر الغريب الذي يسهم في إحداث تحولات ثقافية واجتماعية واقتصادية، والخوف على المدينة الحالمة البسيطة وإنسانها. برز ذلك بوضوح في قصة الكاتب عبد العزيز جاسم.
- اشتراك أغلب القصص في سوريالية الرؤية والهاجس من القادم والمأمول، والشعور بأن ثمة سارق للأحلام ومبعثر لأمل الطريق، ثم القلق من العواقب المفاجئة من خلف الحُجب.
- الترميز والأفكار الفلسفية المغلّفة بجو فانتازي كما في قصة الكاتب علي العبدان، حيث أنسنة الرموز المهمشة في عالم المخطوطات ومنحها بعداً حيوياً يتحرك في السرد، لتأخذ بعد زمن دور المتن، ثم انتهاءً بالمآل الحزين لكل ما له صلة بالمجتمع الورقيّ، والخاتمة التي تشي بالقلق الراهن على الإرث الإبداعي من التطورات المزاجية للعالم الإلكتروني.
وستتعدد الملامح والإشارات العامة حسب تعدد القراء وتراكم الذائقة، لا شك في ذلك. وهذا من نطمح إليه، أن يصل القارئ إلى قراءة أولية لتطور الحالة التجريبية التي جعلت الأديب الإماراتي يهجر القصة وينفتح على خيارات أخرى من الأجناس الأدبية.

الرعاية الصحفية للقصة
حرصنا قدر المستطاع على أن تكون القصص غير منشورةٍ في كتابٍ آخر خلافَ هذا الكتاب، خاص أو مشترك. لذلك فقد اقتصرت المصادرُ على التَّواصل مع الكاتب نفسهِ، من خلال مهاتفتهِ أو مراسلتهِ أو اللقاءِ المباشر بهِ، أو من خلال إشارةِ الكاتبِ نفسه إلى ما نُشِر من نتاجه في الدَّورياتِ والمجلاتِ الأدبيةِ القديمةِ في الإمارات، وتَخويلنا بالبحثِ عنها وإضافتها إلى هذه المجموعة. ولعل ذلك يحيلنا إلى استنتاج أحد العوامل التي ارتبطت بتراجع القصة في الإمارات ألا وهو تخلي الصحف اليومية والمجلات الورقية في العصر الحالي عن تبني القصة القصيرة واحتواء أصواتها المتجددة في الساحة الثقافية بعد أن كانت القصة ابنة الجريدة التي تربت في كنفها وتم تعزيز روادها مادياً ومعنوياً سواء بصرف مكافآت على منشوراتهم أو الاعتناء القرائي والنقدي بما يُنشر من نصوص، كل تلك الرعاية الصحفية للقصة - حتى البدايات الأولى للألفية الجديدة - بدت تتلاشى في وقتنا الحالي، وبدت تتشكّل في المشهد عزلة القاص الرصين والحريص الذي يقلق ويظن أن ما يكتبه لا يرتقي لمستوى النشر، وهذا يحيلنا إلى تجربة عبد الله صقر كمثال، حين أوردنا قوله في أول المقال - فهو يظن رغم (الخشبة) في العميقة والناضجة أن كل ما يكتبه الآن لا يرقى للنشر.
يقابل تلك العزلة زحف النشر الإلكتروني وفوضى النصوص في السوشيال ميديا الذي من شأنه أن فتح الآفاق الضاجّة بسهولة النشر، وطفرة بعض الكتابات التي تعاني أزمة في الوعي الفكري واللغوي والفنّي، ويتم تداولها على نطاق واسع بين القرّاء، ما أنتج اختلافاً في قيمة ما يُنشر، وانعدام تقييم النصوص، وافتقاد مساحات المواكبة النقدية، ناهينا عن هموم انعدام الحق الفكري، والمردود المادي في النشر عبر التواصل الاجتماعي، الذي كان يتحصّل عليه المبدع كمكافأة في النشر الورقي.

لماذا البحر؟
أخذنا من البحر مّده، مدّه العميق المتفائل. وطرحنا الجزْر المؤسس للغياب، ولأن بحر الخليج يومئ لنا كجيل جديد بأفق من الأمل، البحر امتداد للمغامرة السندبادية، رمز الحكايات وهجرتها، وامتداد الميلاد القصصي في الإمارات الذي يكسر صخور الصمت، البحر أيقونة الاحتجاج والمجازفة في التجارب، في حين أنه رئة الصبر والإذعان، معبد المناجاة العميقة التي يواجه بها السارد صرخة العالم وانكسارات الحقيقة.

14 أديباً إماراتياً
استدعاء لتجربة إنتاج كتاب: القصة اليتيمة في الإمارات إعداد وجمع: لولوة المنصوري/‏ محسن سليمان تقديم: عبد الفتاح صبري منشورات دار العنوان الإماراتية 2019 الكتاب يضم قصصاً منشورة لأربعة عشر أديباً إماراتياً وهم:
أحمد راشد ثاني، حبيب الصايغ، عبد العزيز جاسم، عادل خزام، الهنوف محمد، أحمد العسم، سالم بو جمهور، هاشم المعلّم، إبراهيم الملا، إبراهيم سالم، إبراهيم الهاشمي، مسعود أمر الله، موزة حميد، علي العبدان.