يعتقد قدامى الإغريق أن الكون لم يظهر في أول الأمر، بل كان هناك نوع من الوجود الأعمى (الكاوس chaos) ذرات وأشياء متناثرة لا يجمعها جامع، تتصادم وتتفرق، ثم تجتمع لتتصادم من جديد، كأنما مشحونة بالكراهية، وفجأة ولد إيروس (أو الحب) فصارت الذرات والأشياء يقترب بعضها من بعض بعناق وشغف. ومن هذا العناق ولد الكون، وصار له شكل واتخذت المجرات والنجوم والكواكب مداراتها الرتيبة المستقرة. كيف ولد الحب؟ لا أحد يعرف. من أبواه؟ لا أحد يعرف. كل ما يعرف عنه أنه انبثق من الكراهية، بعد أن ضاق من عنف صدامها، وانفلاتها من كل مسار، وتمردها على كل قانون، فهو بداية القوانين التي تمسك بمكوّنات الوجود.
لو ترجمنا هذه الأسطورة إلى لغة هذه الأيام لقلنا إن الحب ظاهرة مجهولة، ولدت من الكراهية لتوقف الانهيار الكوني، ولو لم يظهر الحب من كراهية الأشياء وتنافرها لما ظهر الكون، بمعنى أن عناصر الكون (الماء والهواء والنار والتراب) التي كانت في حالة كراهية تتنابذ وتتصادم، صارت تتلاقى وتتلاحم في حالة من الوئام، حتى حلّ بينها السلام والانسجام.
والوجود البشري لا يختلف عن الوجود الكوني، فكان في حالة عماء وكراهية، إلى أن انبثق الحب فأخذ يتماسك، ولا يزال حتى اليوم يحاول أن يتمسك بالحب، والحب لا يزال عاجزاً عن إنجاز مهمته. لكن كيف تدرك أن الآخر يحبك؟ لو سألت رجلاً: كيف تعرف أن زوجتك تحبك؟ لما قدم لك جواباً مقنعاً. تبتسم لك؟ ما أكثرهن مبتسمات! تهيئ لك ثيابك؟ عمال المصابغ أتقن. أتقدم لك طعامك؟ الطباخون أمهر. ترتّب لك منزلك؟ عاملات المنازل أشطر. تقول لك إنها تحبك؟ هناك الأشطر في القول وأمهر.
ليس ثمة شيء «يثبت» لك حب الآخر. وليس أمامك سوى «الإيمان» فقط بأن الآخر يحبك. فإذا آمنت بحب الآخر لك، تكون قد استدرجته إلى ساحة الحب الرحيبة، وقيّدته بخيوط الحب الذي تبديه نحوه. فإن فشلت العلاقة فلن تكون أول من يفشل في علاقته، وإن نجحت جنيت النشوة وراحة البال. فالداخل الذي «يؤمن» بالوفاق وحده ينتج الحب.
من جهة أخرى تقول الأسطورة إن إله الحب يملك أنواعاً من السهام، من السهم الذهبي، الذي يصل الحب فيه إلى حدّ الهيام، إلى السهم الحديدي الذي يمنع من دخول الحب إلى القلب. معنى هذا أن الكراهية لاطية قريباً جداً من الحب. ولأسباب كثيرة يتغيّر الداخل تغيّراً كبيراً بحيث يفضي الشيء إلى نقيضه، فبين الحب والكراهية جدلية شديدة التعقيد، تستعصي على الحصر والتحديد. هناك من يقول إن التغيّر يحصل من الداخل إلى الخارج، وهناك من يقول: يبدأ التغيّر من الخارج إلى الداخل. ولهم في ذلك مطارحات معقدة وعميقة. ولكن سواء كان المنشأ داخلياً أو خارجياً فإن التفاعل قائم بين الطرفين، حتى أن الفرويدية تجعل هناك صراعاً أبدياً دائماً بين المنازع البيولوجية الداخلية وما تواضع عليه المجتمع، ما أقرّته التقاليد. ومن هذا الصراع تنشأ أزمات كثيرة وخطيرة في نفسية الفرد، ويتبادل الحب والكراهية إضفاء المعالم السلوكية على الفرد، حتى لو كان المجتمع متقدماً.
مواجهة في الخارج
رأي دركهايم أن كل ظاهرة، مهما تراءت فردية، لا بد من دراستها اجتماعياً، يظل رأياً فيه الكثير من السدادة، فحتى ظاهرة التوحّد لا تنفصل عن المحيط الاجتماعي. ولكن ماذا في الخارج؟
يبدو أن الثنائية الزرادشتية تظل تلاحقنا، ففي الخارج، سلسلة لا تنتهي من تناقضات مفرزات السلوك البشري: الحق والباطل، والخير والشر، والجمال والقبح، والحكمة والحماقة، والشجاعة والجبن والعدالة والظلم والعفة والتهتك، والتصوّف والمجون والتعاون والتنابذ والمساعدة والاستغلال والحرية والاستبداد والملكية الاجتماعية والملكية الفردية والتطرف والاعتدال... باختصار إن «الأنا» يقف في مواجهة الآخر، أي في مواجهة سلسلة من الثنائيات الضدية التي لا آخر لها، والمولدة للكراهية. ما دام المجتمع في خضم هذه الثنائيات الضدية، فالمتوقع أن ينهار بعد مدة غير مديدة. لكن سقراط يرى أن المجتمع يستمر لأن هناك أنواعاً من الحب لا مهرب منها، فهي حتمية من دون أي شك. هناك الحب المحتاج والحب المانح والحب المتكافئ. هذه الأنواع الثلاثة من الحب منيعة وتصمد فترة طويلة من الزمن أكثر من غيرها. فالحب المحتاج هو حب الأبناء للآباء، وهو ليس عابراً. والنوع الثاني هو الحب المانح، وهو حب الآباء للأبناء، وهو أيضاً يستمر لمدة طويلة، فالغراب يدفعه الحب إلى أن يظن أن ابنه أجمل المخلوقات. أما النوع الثالث فهو الحب المتكافئ ويكون بين الأصدقاء، وهو الأرقى، ولذلك فضل سقراط الصداقة على أي شيء، فحتى بين الزوج والزوجة يجب أن تكون هناك علاقة من الصداقة فلا يستعلي أحدهما على الآخر، فيدوم الزواج.
لو نظرنا في هذه الأنواع لوجدنا أنها هي التي تمسك المجتمع من التخبط والانهيار. لكن هناك حباً آخر يفضله سقراط على كل أنواع الحب، وهو حب الحكمة. فيرى أن أي حب تنقصه الحكمة يفشل ويهرب من الصدور، وفي بعض الأحيان يتحوّل إلى كراهية. هذا الخارج المزدحم بالثنائيات الضدية، شجع بعضهم على القول إن كل أنواع الحب تأتي من العلاقة مع الخارج، حتى الحب المانح أو الحب المحتاج أو الحب المتكافئ من صنع المجتمع، وما الحب والكراهية إلا من جملة الثنائيات الضدية التي أوجدها المجتمع، ويشيرون إلى أن الميثولوجيا تخبرنا أنه مرت فترة من الزمن كان الآباء يولمون أبناءهم للضيوف، مما يدل أن المجتمع هو الذي أنشأ الحب، بحكم الضرورة الحياتية، ليتغلب على الكراهية. إن الحب ينخرط في النضال كرهاً لا اختياراً. فهو مثلاً لا يمكن أن يقف إلا إلى جانب الحق ما دامت الكراهية تتمسك بالباطل، ولا يمكنه إلا أن يكون مع الخير، لأن الكراهية مجلبة دائماً للشرور. لكن الفرق بين الحب والكراهية أن الحب يبتكر الحلّ والكراهية تبتكر المشكلة، وبمقدار ما يعشق الحب العدالة تعشق الكراهية الإجحاف والظلم. وبمقدار ما يتمسك الحب بالحرية تتمسك الكراهية بالعبودية والاستغلال والاستبداد والتسلط، وبمقدار ما يتمسك الحب بالسلم تلجأ الكراهية إلى الفتن والحروب.
من ينابيع الأدب
وقد رأى الأدباء في الأسرة ينبوعاً ثرّاً لأدبهم، فمعظم الروايات تتحدث عن «أسرة» أو فرد من أسرة، ولشدة ما وجدوا من ثنائيات ضدية، لاحظوا أن هذا النمط من اعتماد الزوجين على الحب الزوجي سبب كبير في تخلف المجتمع، فهوجمت المؤسسة الزوجية بأقسى ما يكون من الشدة، كما في «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير و«آنا كارنينا» و«موت إيفان إيليتش» و«لحن لكروتزر» لليو تولستوي، واستفاد المسرح الحديث من الثنائيات الضدية في المؤسسة الزوجية وهاجمها، كما في مسرحية «اميدية» ليوجين يونسكو... بل وصل الحد لدى بعضهم إلى إدانة الإنسان كمخلوق أعجز من أن يجد نظاماً لحياته.
الأيديولوجيات
على أن أخطر الأخطار في تأريث الكراهية ودحر الحب، تلك الأيديولوجيات التي تنشأ مع التاريخ، دينية أو سياسية أو اجتماعية، وسوى ذلك من أنواع الاستقطاب العنصري أو الطبقي أو السياسي. وكل أيديولوجية تدعي الأخوة والمساواة والحرية. وربما يكون ذلك داخل تجمعات هذه الأيديولوجيات، بينما خارج هذه التجمعات الأيديولوجية لا نجد سوى الكراهية لكل من لا ينضوي تحت لواء الشعارات التي تطرحها. وقد اكتظ القرن التاسع عشر بالأيديولوجيات حتى سمّي قرن الأيديولوجيات. إن الصراع الأيديولوجي، أو ما سماه هنتغنتون «صدام الحضارات» يفرز الكراهية باستمرار، ويثير الفتن والاشتباكات والحروب. إنها فكرية ولكنها أشبه بالجيوش التي تتضامن فيما بينها، وتكنّ العداء، وتدعي الحقيقة، ولا يرى «الآخر» منها سوى شرورها، وروح العداء والكراهية. إن الأيديولوجيات خير مثال على اجتماع الحب والكراهية، مثل الضرّة وضرتها، فكل واحدة تحب ابنها وتكره ابن الأخرى.
الدولة والسلطة
المجتمع معادلة ثلاثية، التكوينات المدنية ومؤسسات الدولة، وبينهما مؤسسات القضاء. وتتصارع المطالب المدنية مع سلطات الدولة التي تحاول الاستيلاء على كل شيء، بينما تسعى المنظمات المدنية للاحتفاظ بهيبتها وقرارها. وبين الطرفين هناك السلطة القضائية التي تصدر الأحكام فيما بين الطرفين. أي فساد في الدولة أو القضاء يعني انهيار المنظمات المدنية، والأرجح أن تكون الدولة المرشح الأكبر للفساد، فتفسد القضاء والمجتمع المدني معاً.
على الرغم من كل هذا نلاحظ أن الدولة انتبهت إلى السلم الأهلي وأولته عنايتها، فأنشأت، بحكم سلطانها وقدرتها المالية: المسارح ودور الفنون ومعاهد الموسيقى، على أمل تحقيق السلم الاجتماعي، فتحول دون أن يعكر أحدٌ لها جوّاً أو يعرقل مشروعاً. إن المجتمع المدني أعجز من أن يقوم بهذه المهمة، أو المهمات، فتركها للدولة.
في الشرق قصّرت الدولة في مجال الآداب والفنون، فلم تبن المسارح ولا دوراً للفنون، فكان التخلف نتيجة، والاستبداد ضريبة، بينما سارع الغرب إلى استخدام هذه الوسائل. والفرق بسيط، هو أن الشرق يتقبل الولاء بالرياء، بينما الغرب يربط الولاء بالأداء، للأسرة أو المدينة أو الحزب أو الدولة.
المجتمع المدني
انتبه المجتمع المدني لما تفعله السلطة السياسية من أعمال تزيد من قوتها، فقام هو أيضاً بتدعيم وسائله، فرأى أن كثرة الأعياد والمهرجانات، تجعل الناس العاديين أكثر ألفة، وأقرب إلى التعامل بالحب لا بالكراهية. إن الأعياد والمهرجانات تشيع الفرح بين الناس، والفرح طريق الحب. المغيظ لا يعرف الفرح، وبالتالي لا يتعامل بالحب، بل بالحسد والكراهية. ولهذا السبب اخترع المجتمع المدني الأعياد والمهرجانات وأكثر منها فهو أعظم وسيلة على الإطلاق في استنبات الحب، على نطاق واسع. أوجدت الدولة اليونانية المسارح الكثيرة، فأوجد المجتمع المدني الكثير من المناسبات الاحتفالية والأعياد الدينية والرياضية والثقافية... بحيث تكون له سلطة لا تقل عن سلطة الدولة. والخلاف يحلّ لدى القضاء وحده، وتكون السلطة طرفاً في الخصام. وفي أواخر العصور الوسطى ظهرت مؤسسات مدنية أمثال أغابي agape وكاريتاس caritas وقد استخلصت الأغابي من الأفخارستيا، وتُكرَس لأرواح الراحلين الذين يؤمنون بالخلاص، وتقام المآدب بحسب هذا المفهوم. أما الكاريتاس فتعني الحب البشري أو الإحسان البشري philanthropy وغايتها المساعدة المادية والتأهيل المهني، كما كثرت دور الأيتام وملاجئ العجزة. لكن المافيات وأصحاب الأغراض الإرهابية، أيضاً شكلوا جمعيات «خيريّة» مشابهة، بل زادوا في تنويعها لجني الثمار لمشاريعهم. وهذا متوقع، فالكراهية تستخدم كل أساليب الحب لأغراضها.
اللوياثان الجديد
اللوياثان الجديد/ القديم هو «المصلحة» التي تشمل الجميع: الأفراد والجماعات المؤسسات والمنظمات والفئات والطبقات والدول. وتتسع مساحتها باتساع طموح صاحبها، حتى تصل إلى أطراف الدنيا أو الكون. فلا حدّ لها، مولّدة الكراهية باستمرار. الحب إيمان، لا يحتاج إلى عقد، بينما المصلحة بكل أنواعها، إن لم ترتبط بعقد تحوّلت إلى مولّد كراهية. فلولا العقد لكانت مساحة المياه الإقليمية أضعاف ما هي اليوم، وشملت المصلحة القومية جهات الأرض الأربع أو الثماني، كما في الإمبراطوريات القديمة. فالقاعدة أن نجعل الحرية للحب والقيود لكل ما يمكن أن ينتج الكراهية.