نورا محمد (القاهرة) - أكملت تعليمي الجامعي، والتحقت بوظيفة عامة بدأت الإعداد لعش الزوجية ببطء شديد حسب إمكاناتي المحدودة، وقد تخطيت الخامسة والعشرين، ولم تكن لي طوال تلك السنين أي علاقات مع الجنس الآخر لأسباب كثيرة منها أنني ملتزم بأمور ديني بحكم نشأتي وتربيتي وانشغالي بإنجاز المراحل التعليمية لأنني من أسرة فقيرة، وكل ما كان يهمني هو الخروج من هذه المرحلة، فلم ألتفت إلى ما كان يفعله أقراني ولم أحاول أن أكون مثلهم ولم يبهرني ما كانوا يخوضونه من بطولات وهمية وقصص حب ومغامرات عشق، بل اعتبرتها من التفاهات ومن سفاسف الأمور وما زلت عند رأيي وقناعتي لم تتزحزح. المشكلة التي واجهتني عندما بدأت البحث عن عروس هي عدم معرفتي بأي فتاة كي أتقدم لها، وهذا كان أصعب ما في الأمر لأنني أريد زوجة بمواصفات تتفق مع طباعي وتتفهم أحوالي، وليس بالضرورة كما يريد الشباب بأن تكون ملكة جمال أو ثرية أو ما شابه ذلك، وإنما يكفيني الالتزام الأخلاقي والتوافق وقبول إمكاناتي المادية المحدودة وعندما أفصحت عن رغبتي ضحكت زميلتي التي تكبرني بضعف عمري تقريباً ملء فمها عندما رأت حيرتي في الاختيار، وقالت إن البنات أكثر من الهم على القلب وستجد حولك سيلاً منهن يرغبن، بل يتمنين الارتباط بك، وتلك السيدة نعتبرها مثل أمنا جميعاً غاية في الاحترام ونموذجاً في الأخلاق ولا مثيل لها من الناحية الإنسانية، ودائماً تهتم بنا وبأحوالنا ونشكو إليها ما يدور في صدورنا ونستفيد من خبرتها وتجربتها في الحياة، ولذلك كانت هي أول من أسررت إليه برغبتي في الزواج بعد أفراد أسرتي. في اليوم التالي مباشرة انتحت بي جانباً ورشحت لي فتاة من جيرانها وأكدت لي أنها على خلق ودين ومن أسرة ملتزمة، كما أريد ووافقت على أن أراها قبل الحديث رسمياً ورتبت هي هذه المسألة وجاءت بها إلى العمل عندنا من دون أن تدري، وعندما رأيتها وجدتها فعلاً، كما قالت وتم أيضاً ترتيب لقاء أسري بعد ذلك وتوجهت لزيارتهم للتعارف، لكنني صدمت لأول وهلة من المستوى الذي يعيشون فيه فهم يقيمون في منطقة راقية جداً تجمع علية القوم والوجهاء والأثرياء وأثاث المسكن يدل على العراقة وتصببت عرقاً وأنا أضع قدمي بالداخل وتعللت بأن ذلك بسبب حرارة الجو والرطوبة. أبوها رجل ذو هيبة ووقار، جلس وقد وضع ساقاً فوق الأخرى بعد أن رحب بي، وجاءت خادمة تقدم لي مشروباً مثلجاً، ثم جاءت أم الفتاة التي يبدو عليها أنها من هوانم الزمن الماضي. في البداية دار الحديث عن أشياء عامة، ثم تطرقت به زميلتي إلى الهدف الذي جئت من أجله، وإن كنت قد اتخذت قراري من اللحظة الأولى بعدم الاستمرار في تلك الخطوة لأن الفارق بيننا كبير، ولا يمكن أن تقبل فتاة تعيش في هذا المستوى الراقي الهبوط لتعيش معي في الحضيض، وقد كان ظني في محله لأن أول سؤال استقبلته من والد الفتاة كان عن محل إقامتي، ولم يخف أثر الجواب الرافض المستنكر على وجهه، ثم السؤال الثاني عن إمكاناتي المادية، وكانت الإجابة مني بصراحة كافية ليمط الرجل شفتيه ويحاول أن يخفي مشاعره وتوقف بعد ذلك عن توجيه الأسئلة إليَّ وفهمت منها أن لديه على الأقل تحفظات إن لم يكن رفضاً تاماً إلى هذا الحد قبل أن نكمل المشوار، وكان خلوقاً وهو يطلب مني فسحة من الوقت للرد وودعتهم وأنا لا أحب أن أعرف النتيجة ولا أريد أن أسال عنها، فهي معروفة سلفاً وهذا ما أكدته زميلتي في اليوم التالي، وهي تقدم أسفها فقط كنت عاتباً عليها لأنها لم تقدر المسافة التي بيني وبين هؤلاء بشكل صحيح، فقالت إن ذلك لم يدر بخيالها على الإطلاق وما حسبت له حساباً معتقدة أن هذه الفوارق يجب أن تكون قد ذابت في هذا العصر. شخص مثلي لديه حساسية مفرطة في كل تعاملاته كان لابد أن يتوقف مع نفسه فيما هو آت وأن يقدر لرجله قبل الخطو موضعها، فلا يجوز تكرار الأخطاء وبالأحرى يجب الاستفادة منها وقررت أن أتريث في اتخاذ أي قرار، ومنحت نفسي فرصة بعض الوقت، وإن لم يكن ذاك الموقف قد سبب لي أي جرح ولا يزيد على وصفه بالموقف المحرج ليس إلا ولا يستحق المبالغة من جانبي ولا الوصول به إلى حد الأزمة وبالفعل انتهى خلال أيام. وجاءت التجربة الثانية، وكانت فتاة تمت لنا بصلة قرابة، ولكن بعيدة جداً أعرف أباها وأمها، أما هي فلم أكن أعرفها ولم أرها من قبل لأنهم يقيمون في مدينة بعيدة عنّا وشددنا الرحال إليهم بعد أن تمت الاتصالات والاتفاقات المبدئية، وكان الوضع مختلفاً عن التجربة الأولى، فهؤلاء من جلدتنا ونفس مستوانا الاجتماعي وأيضاً الاقتصادي وإن كانوا أحسن حالاً منا بقليل، وهو ما لا يعتد به ولا يمثل فارقاً جوهرياً. أعرف أن الفتيات يحاولن التجمل في فترة الخطوبة من أجل إظهار أفضل ما عندهن، ليس فقط من الجمال، وإنما أيضاً من الطباع والمبالغة في الأحوال والأوضاع، لكن خطيبتي تجاوزت ذلك إلى الكذب محاولة إظهار نفسها وأسرتها في مستوى أعلى على غير الحقيقة وتختلق مواقف عندما تعيد تكرارها تقولها بشكل مختلف تماماً مما يؤكد أنها مكذوبة وعندما أذكرها بما قالته من قبل ترتبك ثم تحاول الهروب من الموقف بان تلك واقعة أخرى أو تحاول أن تصلح من روايتها بما يتفق مع ما أذكرها به لكن تكرار تلك الأكاذيب التي أصبحت مستمرة أشعرني بالقلق، ومع ذلك تغاضيت وأقنعت نفسي بأنه مع الأيام والعشرة لن تكون كذلك لأنها ليست بحاجة إلى تلك الحكايات ويمكننا تجاوز هذه العقبة المؤقتة التي قد تكون مبالغة في التجمل وصلت إلى الكذب. التطور الذي حدث جاء عندما أردنا أن نتفق على الأثاث والمسكن وحياتنا المقبلة فوجدتها تبالغ أيضاً في المطالب بشكل تعجيزي حتى أنني اعتبرته نوعاً من الرفض المتأخر، ولكن عندما ناقشناه اكتشفت أنه نوع من التمرد على الواقع الذي تعيشه وتعبير عن أحلامها في المستقبل الذي تتمناه وما تلك الأكاذيب التي كانت تلجأ إليها إلا من هذا القبيل، فالفتاة لديها طموح وخيالات في حياة رغدة، وليس لديها استعداد للكفاح أو تحمل المشقة الحياتية المعتادة وهذا يعني أنها لا يمكن أن تتأقلم مع ظروفي والأغرب أنني وجدت تأييداً لها من أمها وأبيها ولم أجد أمامي أي خيار سوى أن أضع ظروفي أمامهم بصراحتي المعهودة، وعليهم أن يختاروا وقد اختاروا حياة الأحلام ورفضوا الواقع، لكن العجب أنني شعرت بسعادة بالغة لهذه النتيجة لأنني تخلصت من كابوس ثقيل مثل الجبل، فلم أتخيل نفسي زوجاً لفتاة بهذه المواصفات. بعد هذه التجربة تقربت من زميلتي التي تقاربني في العمر، وحاولت أن تخفف عني مع أنني لم أكن في أزمة ولا مشكلة، لكنها دخلت من هذا الباب معتقدة أنني متأثر بالتجربة ومجروح بالفشل، لكن كما قلت إنني سعيد بالخروج والخلاص منها ورغم أنني لم اشتك فقد واصلت أسلوبها وطلبت مني أن أصاحبها إلى محطة الباصات لتغادر إلى منزلها أو لشراء بعض الاحتياجات، ويمنعني الحياء من الرفض واستمرت على هذا النهج، وهي تحاول أن تستدرجني إلى مغامرة عاطفية مصطنعة بعيدة عن المشاعر الحقيقية وألمحت كثيراً وتجاهلت تلميحاتها حتى جاءت تخبرني صراحة بأنها ستتم خطبتها اليوم وبكل براءة قدمت لها التهنئة، فوجدتني أمام شخصية أخرى غير التي عرفتها خلال الشهرين الماضيين ومن قبلهما عدة سنوات من الزمالة في العمل تكشفت حقيقتها وخرج قاموس مفرداتها الحقيقي الطبيعي الذي غلب التطبع فانهالت عليّ بكل أنواع الشتائم تصفني بعدم الإحساس وأنني لا أستحق واحدة بمثل مواصفاتها وأنني الخاسر من هذا التبلد. أصابتني الصدمة بالخرس فلم أعرف كيف أرد عليها ولا كيف يمكن حتى أن أدافع عن نفسي ووقفت مذهولاً فاقد التركيز معدوم التفكير وأنا فقط أنظر إليها مشدوها وانسحبت من أمامي وبعدها علمت أنه لم يكن هناك عريس ولا شيء، وإنما كانت محاولة لاصطيادي، وما كانت ثورتها إلا لأنها فشلت في تحقيق مأربها. وعندما كانت التجربة الرابعة لم تكن على الفتاة التي وقع عليها الاختيار أي ملاحظة من الملاحظات السابقة، فلا هي ولا أسرتها من علية القوم ولم يبالغوا في المطالب، وأيضاً لم يكونوا بذاك التدني في التعامل، لكنها كانت تفتقد ما هو أهم من كل الصفات، وما يجب أن تتحلى به كل فتاة كانت تفتقد حياء الأنثى تتحدث في موضوعات مخجلة وعالية الصوت وثرثارة ولا تتوقف عن الكلام وتهتم بموضوعات تافهة وضحكتها مجلجلة وتوحي بأنها مستهترة ومن الطبيعي أن يطمع فيها الذي في قلبه مرض ويلتفت إليها الغافل ويتهمها الحليم وتذهب إليها الظنون تجذب الأنظار بطريقة سيرها، ومع هذا كله فإنها ترفض الاستجابة للنصائح وإن استجابت فيكون للحظات ثم تعود إلى عادتها القديمة من دون أن تدري وكانت النهاية الطبيعية إنهاء الخطوبة التي لم تستمر إلا شهرين. الحياة لا تقف على مثل تلك الأحداث ومضيت أبحث عن عروس مناسبة كأنني أبحث عن جوهرة في قاع البحر أو عن المستحيل مع أنني ليس لي أي شروط إلا أن تكون مثل أمهاتنا وأخواتنا والنساء اللاتي نعرفهن ووجدت العروس بعد تمحيص وفحص وتدقيق وتحر ومعرفة خلوها من كل العيوب التي كانت في سابقاتها تمت الخطبة وها أنا أخيراً أهتدي إلى ضالتي المفقودة، لكنها عندما علمت أنني تعرضت لتلك الخطوبات ولم أخبرها بها اختلقت مشكلة وأنهت الخطوبة من جانبها لأنها ترى أنني خدعتها ولم أخبرها بكل تفاصيل حياتي مع أنني لم أكن متعمداً لذلك أبداً، ولم تحن الفرصة للحديث عنه وعندما كنت صريحاً مع السادسة رفضت قبل أي خطوة ورأت أن العيوب في أنا، وليس في كل هؤلاء الفتيات أعلنت تخوفها صراحة من الارتباط بي. تخطيت الثلاثين وما زلت أبحث عن عروس وقررت أن أتوقف عن البحث لعلَّ الصدفة تسوق لي من أبحث عنها وتكون بلا عيوب.