لم يكن بناء الدولة الاتحادية بتكويناتها ومؤسساتها ومرافق الخدمة والإنتاج فيها إلى جانب تركيز الشيخ زايد، طيب الله ثراه، على بناء المواطن المتمكن الذي يتابع المسيرة في كافة المجالات العلمية والثقافية والفكرية والاقتصادية، رجلاً كان أم امرأة. لم تكن هذه المسيرة لتشغله، رحمه الله، عن قضايا أمته العربية من محيطها إلى خليجها لأن فكره كان مع أحداثها المتلاحقة، وعينه ترقب كل حدث في أي موقع ليكون فيما بعد جزءاً منه، وعاملاً فعالاً فيه، إما من خلال حكمته ورأيه، أو من خلال يده المبسوطة لأشقائه.إلا أن حدثاً عربياً كبيراً جرى يوم السبت السادس من أكتوبر عام 1973 وجد الشيخ زايد، رحمه الله، نفسه وسط هذا الخضم لأنه كان كثيراً ما يتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي، وأرضنا المغتصبة، ومعركة الكرامة العربية، ففي هذا اليوم كان - طيب الله ثراه - في زيارة رسمية لبريطانيا وعرف من سياق الأخبار أن حرباً نشبت اليوم بين مصر وسورية من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، وما جال في خاطره إلا أمر واحد، وهو أن إسرائيل هي من تقوم بهذه الحرب على البلدين كما تعودنا عليها منذ أن احتلت سيناء والجولان في حرب يونيو عام 1967، وما كان منه بدافع القلق والحرص على أشقائه، إلا أن يرفع سماعة الهاتف ويتصل بالرئيسين المصري أنور السادات، والسوري حافظ الأسد ليسمع منهما ما يطمئنه ويعيد الراحة إلى نفسه بأنهما اتفقا معاً للقيام بهذه المعركة لتحرير أراضيهما المحتلة منذ ست سنوات، وبدورهما سمع الرئيسان من الشيخ زايد القائد العربي ما يشد من أزرهما، ويتطلع إلى نصرهما في معركة الكرامة العربية كما كان يسميها، رحمه الله، وليؤكد لهما أن زايد معكما في المعركة، وأن دولة الإمارات ستقدم كل دعم للأشقاء في هذه الحرب.

مقره بلندن خلية عمل
أمضى الشيخ زايد، طيب الله ثراه، ليلته يتابع أخبار الحرب على جبهتي قناة السويس والجولان بكل اهتمام وترقب، وفي اليوم التالي بدأ، طيب الله ثراه، خطوات متتالية لترجمة موقف الدعم نحو أشقائه، وكان أول ما قام به أن التقى السفراء العرب كافة لدى بريطانيا، وتحدث إليهم بروحه العربية أن ساعة تحرير الأرض المحتلة حانت، وهي معركة الأمة العربية بأسرها وليست معركة مصر وسورية، وحث السفراء على الاتصال بحكوماتهم، ونقل موقفه إليهم، وضرورة إعلان تأييدها للأشقاء في حربهم وتقديم ما يمكنهم من دعم مادي ومعنوي لتحقيق أهداف هذه الحرب التي طال انتظارنا لها.كإعلامي يقظ، وجد الشيخ زايد، طيب الله ثراه، أن الإعلام الغربي أخذ في نسج أخباره من وجهة نظر إسرائيلية بعيدة عن الواقع، فما كان منه إلا أن يطلب إرسال عدد من الصحفيين والمراسلين من دول أوروبية مختلفة على نفقته الخاصة إلى القاهرة ودمشق لينقلوا الخبر من وجهة نظر صحيحة، من خلال ما يرون على الجبهتين بعيداً عن البوق الإعلامي الإسرائيلي والغربي.
وليطمئن، طيب الله ثراه، على الموقف السياسي الغربي، والذي تجسده بريطانيا من هذه الحرب، وعدم وقوفها مع إسرائيل كما عودونا سابقاً قام الشيخ زايد، يرافقه الشيخ مبارك بن محمد وزير الداخلية، رحمهما الله، بزيارة وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية سير، أليك دوجلاس هيوم الذي أكد له أن بريطانيا لا تقف مع إسرائيل في هذه الحرب لأنها ما زالت ترفض أي مباحثات للانسحاب وتسوية الأمور مع الدولتين، وزيادة من حرص الشيخ زايد طيب الله ثراه، على سلامة الموقف البريطاني التقى في اليوم التالي رئيس الوزراء ادوارد هيث الذي كرر الموقف نفسه.
ومن خلية العمل المتواصل في مقره في لندن طلب شحن غرف عمليات جراحية ميدانية مستعملة ومتنقلة بلغت أكثر من عشرين غرفة إلى الجبهتين أتبعها بوحدة توربين كهربائي إلى سورية، بعد أن بلغه قصف محطة الكهرباء في دمشق.
وتكتمل سلسلة فعالياته العربية، قلباً وروحاً بلقائه ممثلي عدد من البنوك انتهت بحصوله على قرض بـ 100 مليون دولار من لندن ميدلاند بنك بضمان شحنات نفط أبوظبي وتم تحويله إلى مصر، لتغطية ثمن قطع غيار للطائرات الحربية المصرية بناء على طلب قائد سلاح الجو المصري اللواء حسني مبارك من الرئيس السادات.

مشاركته بعد عودته للإمارات
كان الشيخ زايد، طيب الله ثراه، مهتماً بالشأن العربي في أي موقع، إلا أن احتلال إسرائيل لسيناء والجولان منذ 6 سنوات كان يؤرقه، وكان ينتقد الموقف العربي وضعف الجامعة العربية في التأثير الفعلي في الأحداث التي شهدها الوطن العربي، وكان، طيب الله ثراه، يترقب عملاً عربياً ما في هذه البقعة العربية مع استعداده للمشاركة بما يملك من سلاح، وكان، طيب الله ثراه، قد ذكر في حديث قبل شهرين من حرب أكتوبر، وتحديداً يوم 8 أغسطس 1973:
(إننا جزء من الأمة العربية، وإذا جند العرب كل طاقاتهم من أجل المعركة فإننا سنكون معهم لأنهم أشقاؤنا. أما بالنسبة لاستخدام البترول، فإننا لن نتردد في استخدامه عندما يجمع العالم العربي على استخدام هذه الوسيلة لاستعادة الحقوق المغتصبة).
وعندما يتطرق الشيخ، زايد طيب الله ثراه، إلى هذا الأمر تحديداً قبل شهرين من حدوثه فإنه يقوله من واقع حدسه الصادق ورؤيته الثاقبة التي جعلته يعالج أموراً بالغة الصعوبة، وتحتاج إلى قرار صعب، لكنه شجاع.
ومن أبوظبي تابع،طيب الله ثراه، مؤتمر وزراء النفط العرب في الكويت لبحث الدعم العربي للجبهتين المصرية والسورية والذي لم تكن نتائجه بما يرضيه من خلال الإعلان عن خفض للتصدير بنسبة 5% فما كان منه، طيب الله ثراه، إلا أن طلب هاتفياً من وزير البترول والثروة المعدنية الموجود في الكويت د. مانع سعيد العتيبة أن يدعو إلى مؤتمر صحفي هناك، ويعلن فيه قطع النفط بالكامل عن الولايات المتحدة، وأي دولة أخرى تقف مع المعتدي المحتل تجسيداً لمقولته التي رسخت في عقول وقلوب أبناء أمتنا العربية: «ليس البترول العربي أغلى من الدم العربي».

ما قيل في هذا الموقف
من هذا الموقف الجريء الذي لا يعرف الخوف، وهي أبرز وأروع صفات الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وما رسخ في ذاكرتي في حينه، أن الإعلام الغربي أجمع على أن رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة فتح جبهة ثالثة إلى جانب الجبهتين المصرية والسورية. واندهاش العالم من استخدام سلاح البترول لأول مرة في تاريخ الحروب التي شهدها العالم.
وتساءل الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، بخوف، كيف لدولة الإمارات وهي بلد صغير أن تعرض مصالحها للخطر وهي تقطع البترول عن الدول التي تساند إسرائيل، واتخذت قرار الحظر ضد أكبر دولة في العالم؟.

المؤتمر الصحفي للشيخ زايد
بعد صلاة التراويح مساء يوم السبت 24 رمضان، الموافق 20 أكتوبر 1973 عقد في قصر البحر في أبوظبي مؤتمر صحفي مع الشيخ زايد، طيب الله ثراه، ضم عدداً من الصحفيين الأجانب من 7 دول وإعلامنا المحلي بحضور الوزيرين سيف غباش، والشيخ أحمد بن حامد، رحمهما الله، وكان لي شرف تغطية وإدارة المؤتمر عن تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من أبوظبي، وكان، طيب الله ثراه، كما علمنا أن نترك الباب مفتوحاً لكل سؤال مهما كان دون تدخل مع أي صحفي، كما كان يصغي بانتباه له دلالته لكل سؤال بعد ترجمته وكذلك الرد المترجم لكل صحفي يسأل.
وقد ابتدأ، طيب الله ثراه، المؤتمر مباشرة بعد كلمتي القصيرة ترحيباً بالحضور قائلاً:
«لقد أصدرت قرار قطع النفط لإيماني أني أؤدي واجبي كاملاً تجاه أهلي وقومي. إن الولايات المتحدة في موقفها ضد العرب ومساندتها لإسرائيل تقف ضد العدالة، ونحن لا نسعى إلى الحرب، ولكننا نريد فقط استعادة حقوقنا المسلوبة، كما أننا ندافع الآن عن أرضنا التي عشنا عليها آلاف السنين، وأكلنا من خيرها. إننا بهذه الحرب قد واجهنا المستحيل، واستطعنا، بحمد الله، أن نكسر هذا المستحيل، والعالم كله يقف معنا الآن لأننا أصحاب حق».
ومن خلال ترجمة ما افتتح به، طيب الله ثراه، المؤتمر همس لي صحفي إيطالي بجواري أن رئيس الإمارات يتحدث بلغة من يخوض الحرب. وفي سؤال لصحفي باكستاني حول إمكان حدوث مواجهة مع دولة كبرى، مثل الولايات المتحدة بسبب قرارك، وهل كان هذا القرار، وأنتم دولة صغيرة على أساس دراسة مسبقة؟. جاء رد الشيخ زايد، طيب الله، ثراه سريعاً من فكره وحسه القومي لأنه لا يحتاج إلى رد بكلمات دبلوماسية، كما اعتاد زعماء كثيرون في العالم فأجابه القائد، طيب الله ثراه: «إن العدو لم يترك لنا الوقت لندرس ونخطط ونتأكد مما إذا كان قرارنا سليماً أو غير سليم، إننا كالعائلة التي تجلس في دارها، ثم يأتيها من يهاجمها فهل يمكن لهذه العائلة، وهي تواجه الخطر أن تجلس لتخطط وتدرس؟ إنني أقول... ليس هناك ما هو أكثر من الموت، فالموت في أعماق البشر منذ أن خلق الله الإنسان وهو بيد الله وليس بيد دولة صغيرة أو كبيرة. إن إسرائيل تطلق صواريخها على الأرض العربية منذ سنين والولايات المتحدة تساندها وتدعمها بالسلاح والمال من الخزائن الأميركية كل يوم وبلا حساب، فإلى متى نخاف ونحسب ونخطط ونخشى الخطر».
وفي إجابته، طيب الله ثراه، على سؤال لمندوب الحياة اللبنانية حول إمكان القيام بخطوات أخرى ضد المصالح الأميركية مع تصاعد العمليات العسكرية على جبهات القتال، قال: «لكل حادث حديث، ونحن الآن في حرب نراقب الموقف دقيقة بدقيقة، وهناك مثل عربي يقول اغتنموا الفرصة لأنها تمر كمر السحاب، وإذا لم نواجه العدو فقد تضيع الفرصة، والمفاجأة يلزمها مفاجأة، وفي الحرب لا وقت للضياع».وفي رده على سؤال مندوب صحيفة الأهرام في الكويت عن إمكان وصف ما حصل بأنه الوحدة العربية التي يتحدث عنها دائما ويعيشها الآن، قال القائد العربي، طيب الله ثراه: «هذه هي البوادر التي كنا نتمناها ونتطلع إليها، وقد تمت منها بادرة واحدة، واستوعبت الدول العربية هذه البادرة، ونأمل أن تأتي بوادر أخرى وتتحقق، إن ما نراه الآن هو الأمة العربية تقف موقفاً واحداً، ووحدتنا هي النصر الكبير».
وبعد ذلك جاء الرد المفاجأة عل سؤال مندوب اطلاعات الإيرانية من دبي في أن وزراء النفط العرب قرروا في اجتماعهم في الكويت خفض الإنتاج فقط بنسبة 5% إلا أنك قطعت النفط بالكامل وهل تنتظر من القادة العرب الذين يملكون النفط أن يوافقوا على خطوتك؟ قال الزعيم الذي ما عرف التردد أو الخوف: «قرار وزراء النفط أشار لنسبة خمسة بالمائة كحد أدنى، وأبوظبي لم ولن تخرج عن إجماع الأمة العربية وقد رأينا أنها نسبة ضئيلة، وقرارنا لا يطبق على الدول الصديقة، نحن ضد من يساند العدوان الإسرائيلي، ولقد أصدرنا القرار على الولايات المتحدة لأننا نؤمن بأهمية هذه الخطوة إيماناً كاملاً، وإذا كنا على صواب، فإننا نأمل أن تحذو الدول العربية حذونا».
وفي هذه اللحظة يدخل الى مجلس المؤتمر الصحفي مستشار وزارة الإعلام حاملاً خبراً مكتوباً قدمه لراعي المؤتمر،طيب الله ثراه، يفيد بأن المملكة العربية السعودية قررت قطع النفط كاملاً عن الولايات المتحدة، فيطلب منه قراءته على الحضور قال لهم بعدها: «لقد جاء الرد على السؤال بأسرع مما كنت أتصور، وأتوجه بالشكر إلى أخي جلالة الملك فيصل على هذه الوقفة المشرفة».
وكان القائد الحكيم بعيد الرؤية في كل كلمة يقولها. وفي نهاية المؤتمر والجميع وقوف للمغادرة سألته المراسلة الأميركية كريستينا الجالسة عن يمينه والقادمة من مكتبها في بيروت حول كيفية توفير المال بعد قطع النفط للصرف على المشاريع الكثيرة في دولة الامارات الحديثة، والتي لم تكمل عامها الثاني، فأجابها، طيب الله ثراه: «إن آباءنا وأجدادنا كانوا يعتمدون على أكل التمر، ونحن لسنا بعيدين عنهم في الزمن
ونحن مستعدون لأن نأكل التمر مثلهم إذا تطلبت الظروف ذلك من أجل مساعدة أشقائنا في معركة الكرامة العربية بالسلاح الذي نملك».
فما كان منها إلا أن تصفق عالياً، وهي تسمع مني ترجمة ما قاله الزعيم الذي كتب فصلاً متكاملاً في صنع التاريخ من خلال أشرف المواقف التي صدق فيها قول العالم شرقه وغربه في أن رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة فتح جبهة ثالثة إلى جانب مصر وسورية، مستخدماً سلاح النفط الذي يملكه ولأول مرة في تاريخ الحروب المعاصرة.