أحمد السعداوي (أبوظبي)

سيف بن مصبح القيزي الفلاسي، واحد من أقدم وأشهر صنّاع السفن التراثية في دولة الإمارات، بحسب عدد من خبراء التراث الذين عاصروه، وحزنوا لرحيله عن دنيانا الأربعاء الماضي، بعد أن قدم الكثير لصناعة السفن بأنواعها في الدولة عبر أكثر من 70 عاماً قضاها في هذه المهنة بدءا من تصليح السفن والمراكب في سنوات عمره المبكرة، وكمتخصص في صناعة أنواع عدة من هذه السفن بجودة عالية شهد لها الجميع، ما أعطاه مكانة متميزة في هذا المجال، اعتماداً على خبرته التي اكتسبها بنفسه عبر سنوات طويلة من العمل، وإتقانه لما ورثه عن الآباء والأجداد الذين عملوا في هذه الصناعة في «زمن لوّل»، حتى حصل على لقب «الأستاذ» من قبل الكثيرين.

في سن السابعة
يقول بدر عبدالحكيم، الذي رافقه في رحلة عمله طوال الخمسة وعشرين عاماً الأخيرة، إن الفقيد كان يحرص على متابعة السفن التي كانت تُصنع بمصنعه الذي يحمل اسمه حتى الفترات الأخيرة من حياته «مصنع القيزي للسفن» حتى تخرج بنفس مستوى الجودة الذي عرف عنه قبل عشرات السنين، وهذا سر التقدير الذي حظى به من الجميع سواء من أعلى المسؤولين في الدولة أو جميع العاملين في صناعة السفن.
يذكر عبدالحكيم، أن القيزي، بدأ يتعلم صناعة السفن في سن السابعة من عمره، على يد عمه «درويش بن مصبح القيزي»، حيث انتقل للعيش معه وتربى في بيته بعد وفاة والده، لافتاً إلى أن القيزي كان قد ولد بمنطقة «أم هرير» في دبي وبدأ رحلته في صناعة السفن في عشرينيات القرن الماضي ليصبح أشهر «جلاف» عرفته الإمارات متخصصاً في صناعة السفن بأنواعها لأغراض الصيد أو التجارة أو الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، ومن أبرز أنواع تلك السفن التي برع في صناعتها وازداد الطلب عليها، هي «الجالبوت، البوم، الهوري، صمعا، بقارة، الشوع، السنبوك».
ويذكر عبدالحكيم، أنه تعلم من الراحل الكثير عن «الجلافة» بكل تفاصيلها، كما تعلم كثيرون صناعة السفن على يديه، كونه ذا سمعة طيبة في كافة أنحاء الإمارات، فكان أستاذاً بحق للكثيرين، كما كان رحمه الله «صاحب خير»، بمعنى أنه لم يكن يرد طالباً ويراعي ظروف من كان يتعامل معهم، فإذا جاءه شخص لعمل صيانة لمركبه يقوم بكل المطلوب وينتهي من العمل على أفضل وجه ولا يطلب منه شيئاً.

سيرة حسنة
وأوضح عبدالحكيم، أن بداية معرفته به، كانت حين دخل سباقات التجديف قبل 25 عاماً، وذهب إليه طالباً منه قارب تجديف، بعدما نصحه البعض بالذهاب إلى ورشته، كونه صاحب خبرة كبيرة في صناعة قوارب التجديف والقوارب الشراعية، حيث طلب منه المساعدة في صناعة القارب، وبقى معه مدة شهر ونصف بشكل يومي بناء على طلب الوالد القيزي حتى يتقن المهنة جيداً، ومن هنا بدأت العلاقة التي امتدت 25 عاماً رأى منه خلالها الكثير من السمات الحسنة، ومنها أنه كان لديه مجلس في الورشة الخاصة به يستقبل فيه الكثيرين بعد صلاة العشاء، كما كان يطمئن على الأفراد الذين يعرفهم وعلى القوارب التي يصنعها ويطلب من الآخرين أن لا يترددوا في طلب أي إضافات أو صيانة لهذه القوارب، فلم ير منه طوال هذه الفترة إلا كل خير سواء له أو لكل من تعامل معه، وكان دائم الابتسام والترحاب بالآخرين وأفاد الكثيرين رحمه الله، وترك من بعده سيرة حسنة سوف تتناقلها الأجيال في المجتمع الإماراتي خاصة من جانب المهتمين بالحياة البحرية وصناعة السفن بأنواعها، بفضل دوره في نشر هذه الصناعة التراثية بين كثير من الأجيال المتتابعة.
براعة الفلاسي
الخبير في التراث البحري، محمد صابر المزروعي، أورد من ناحيته، أننا كنا نلقبه بـ«الأستاذ»، كونه بارعاً في صناعة السفن بصورة فاقت الكثيرين من أقرانه وحافظ على هذه السمعة الطيبة طوال حياته، وله كثير من المواقف المشهودة مع شيوخنا وكبار رجال الدولة، ومن السفن المتميزة التي صنعها مؤخراً، سفينة غوص كبيرة معروضة في المتحف التراثي بالشارقة، ومع ظهور التكنولوجيا الحديثة وبدء الاعتماد على السفن والطرادات المصنوعة بشكل غير يدوي سواء من الفيبر أو غيره من المواد، ركز الراحل غالبية عمله في الأعوام الأخيرة على صناعة السفن الخاصة بالسباقات البحرية التي تشهدها مختلف مناطق الدولة.

بصمة كبيرة
يرى فهد الحمادي، المتخصص في عدة حرف بحرية ومنها صناعة القوارب والسفن، أن سمعة القيزي الذائعة الصيت في هذا المجال جاءت من حرفيته العالية وحرصه على تلبية ما يطلب منه في صناعة السفن ببراعة، مراعياً اتجاهات الريح وطريقة صنع السفينة، سواء كانت مخصصة للإبحار قرب السواحل أو الأماكن البعيدة، وإذا كانت تستعمل في نقل الأفراد والبضائع أو صيد السمك والغوص بحثاً عن اللؤلؤ، حيث يختلف تصميم كل سفينة بحسب الغرض منها، وهو ما كان يقوم به الفقيد بنفسه قبل بدء عمليات التصنيع. وعبر هذا التاريخ الطويل من إجادة العمل والأخلاص، ترك الفقيد بصمة كبيرة في عالم صناعة السفن التراثية، تجعله واحداً من أبرز الذين عملوا في هذا المجال.