عصام أبو القاسم (الشارقة)

يعد صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، أحد أبرز محققي المصنفات والمدونات التاريخية المعاصرين، خاصة ما تعلق منها بالجغرافية العربية، ولعقود زمنية عدة ظل سموه يقرأ ويراجع ويحقق في مصادر ومراجع ومكتبات في مختلف أنحاء العالم، شغفاً بالمعرفة التاريخية الواثقة والمثبتة، ومن سنة لأخرى، منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أخذ سموه يرفد المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات، قارئاً وفاحصاً، سِيَر الشخصيات التاريخية والمدائن والوقائع، بلا كلل أو ملل، طارحاً الأسئلة والملاحظات، محققاً ومدققاً، موظفاً كل الإمكانات، لأجل معرفة تاريخية أمينة ودقيقة.
ومنذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، قدم صاحب السمو حاكم الشارقة العديد من المؤلفات حول موضوعات تاريخيّة عدة، فيها ما خص دولة الإمارات وبها ما تعلق بمنطقة الخليج العربي، ولعل في الوقوف على مساهمة سموه في تصويب المعلومة الخاطئة التي تفيد بأن «البحار العربي أحمد بن ماجد هو الذي دل المستكشف البرتغالي فاسكو دا غاما على الطريق من الساحل الشرقي لأفريقيا إلى الهند»، ما يعكس جانباً من المنهجية التي يتبعها سموه في مراجعة وتدقيق المعلومات التاريخية.

البحث عن الأدلة
لقد أصدر سموه قبل نحو عقدين كتابه الموسوم «بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد»، في الشارقة، تحديداً في سنة 2000م، واستعاد سموه، في المقدمة، محاضرة له، كأستاذ لتاريخ الخليج العربي الحديث في جامعة الشارقة، ويورد أنه ذكر للطلاب (أن الذي أوصل «فاسكو دا غاما» من الساحل الشرقي الأفريقي إلى الهند هو غجراتي من الهند وليس البحار العربي أحمد بن ماجد).
وسمع سموه بعد محاضرته أن بعضاً من أساتذة التاريخ يرفضون ذلك المنطق ويتشبثون برأيهم بأن أحمد بن ماجد هو الذي أوصل فاسكو دا غاما إلى الهند. كما علم سموه أن منهج وزارة التربية والتعليم في المدارس الحكومية في الدولة يتضمن تلك «الفكرة الخاطئة»، ومن هنا قرر تصحيح تلك المعلومة بالإثباتات العلمية الموثقة.
تحقق سموه من أن جميع المؤرخين البرتغاليين في القرن السادس عشر اتفقوا ان «فاسكو دا غاما» استفاد من مساعدة «مرشد غجراتي» عندما أبحر من شرق افريقيا إلى الهند 1498م، وهي الرحلة التي كانت بمثابة مدخل بحري لأوروبا إلى الشرق. يقف صاحب السمو حاكم الشارقة على وصف المؤرخين لمرشد فاسكو دا غاما ويلحظ انهم استخدموا «عبارات متشابهة».
في مطلع بيانه يحيل إلى المؤرخ «كاستانهيدا» (1500 - 1559م)، ويعد من أشهر المؤرخين البرتغاليين، وله مصنف: «تاريخ اكتشاف وغزو الهند»، الذي وصف مرشد فاسكو دا غاما، قائلاً: «مرشد غجراتي يسمى كاناكا، وترجع كلمة كاناكا إلى اللغة السنسكريتية وهي لغة الهند الأدبية القديمة، وتعني كلمة ganak، إحدى الطوائف الاجتماعية عند الهندوس والتي تضم المنجمين والمتخصصين بالفلك ومؤلفي التقويم».
كما يلفت سموه إلى المؤرخ البرتغالي الأعرق «باروس» (1496 -1570)، ولقد وصف مرشد فاسكو دا غاما، في كتابه،decada primeiro da asia، بالقول: زار فاسكو دا غاما عدداً من «المور» والذين كانوا في مملكة غجرات.. ومن بينهم رجال معينون يسمون بناينة من نفس المجموعة غير النصرانية من مملكة كامبي، أناس متدينون جداً من مذهب التناسخ.. هؤلاء الناس أظهروا ايماءات لبعض التعاليم المسيحية والتي كانت في الهند منذ زمن سانت توماس.. ومن بينهم كان «مور» من شعب غجرات يدعى المعلم كانا».
ويخلص سموّه مما تقدم إلى أن «باروس» وصف «المرشد» بأنه من المسيحيين، اعتماداً على ما يصدر عنه من «الإيماءات المسيحية».
أما المؤرخ الثالث، فهو «فاريا أي سوزا» (1590 - 1649)، الذي وصف مرشد فاسكو دا غاما، قائلاً: «المعلم المسلم كانا، غجراتي المولد».
وثمة مصدر رابع يلفت إليه سموه، وهو الفيلسوف البرتغالي دامياو دي غويس (1502- 1574)، الذي وصف «المرشد»، قائلاً: «مرشد غجراتي مسلم جيد».
وبعد استعراضه لهذه الأوصاف التي وردت في المصادر التاريخية البرتغالية التي تجمع على أن المشرشد (غجراتي هندي)، يخلص صاحب السمو حاكم الشارقة إلى وصف المرشد قائلاً: «هو غجراتي، وإنه من طائفة كاناك إحدى الطوائف الهندوسية».
لكن، وكما يرد في كتاب سموه، لم يقتنع كثير من المؤرخين العرب بهذه الحقائق، وأصروا على اتهام أحمد بن ماجد بإيصال البرتغاليين إلى الهند. ويذكر سموه كتاباً صدر تحت عنوان «أحمد بن ماجد» للدكتور (إبراهيم خوري)، دحض فيه تلك الاتهامات، التي صدرت عن مؤرخين من أمثال قطب الدين محمد النهروالي الحنفي الذي توفى 988هجرية، الذي ذكر أن أحمد بن ماجد رافق كبير الفرنج (فاسكو دا غاما) وعاشره في السكر فعلمه الطريق في حال سكره..».
ويدفع خوري هذا القول مبيناً أن وثيقة النهروالي، عدا كونها مكتوبة بعد ثمانين عاماً تقريباً من وصول البرتغاليين إلى الهند، هي أيضا، نقلت معلوماتها عن «ابن الديبع» الذي أنجز مصنفاً بعنوان «الفضل المزيد في تاريخ أهل زبيد»، بعد مرور خمس سنوات على رحلة فاسكو دا غاما الأولى، ولكن «ابن الديبع»، وهو عاصر الأحداث البرتغالية، لا يذكر فاسكو دا غاما ولا أحمد بن ماجد.
وبعد تعداد ملاحظات خوري واتفاقه معها يضيف صاحب السمو كتاباً ربما لم يطلع عليه الخوري، وهو «تحفة المجاهدين في ذكر أحوال البرتغال الملاعين» لزين الدين المعبري المليباري المتوفى سنة 991 هجرية، ويقول سموه: «لم يذكر المليباري أي شيء عن أحمد بن ماجد، لكن للأسف عندما قام محمد سعيد الطريحي بتحقيقه والتعليق عليه، زج باسم أحمد بن ماجد في التعليقات والشروح».
كما يستعيد سموه موقف المستشرق الفرنسي غبرييل فران (1864 - 1935م) الذي قام بتحليل ونشر «وثيقة النهروالي»، مؤيداً ما جاء فيها. ويستغرب سموه موقف المستشرق الفرنسي، ويعبر عن ذلك قائلاً إن فران (ذكر يوميات رحلة فاسكو دا غاما الأولى في الطبعة الثانية «لهيركولانو» حيث تذكر اليوميات ان المرشد كان مسيحياً، كما انه ذكر ما كتبه «كاستنهيدا»، و«دي غويس»، و»باروس»، لكنه تجنب ذكر أن المرشد (كان غجراتياً بالولادة أو الأصل)، كما جاء في تلك الكتب».

البيان
كان صاحب السمو حاكم الشارقة قضى إجازته الصيفية، في سنة إنجاز البيان، في قراءة الكتب حتى يعثر على معلومة عن «المرشد» الذي أوصل فاسكو دا غاما إلى الهند، فعثر على كتاب عنوانه «فاسكو دا غاما»، من تأليف البروفسير إيدغر برستيج، من جامعة لندن، يذكر برستيج فيه ما يلي: (وباحتجاز الخادم الخاص للسلطان، حصلنا على مرشد غجراتي حسبناه مسيحياً). ويشير برستيج إلى انه حصل على تلك المعلومات من «اليوميات»، التي حكت وقائع الرحلة الأولى لفاسكو دا غاما 1497 - 1499، والتي طبعت بوساطة «ديوغو كوبك» عام 1838، وترجمها «أي. جي. رفنستين» عام 1869.ويتتبع صاحب السمو حاكم الشارقة، سيرة يوميات الرحلة الأولى لفاسكو دا غاما، في المكتبات والمصادر المختلفة، ليتحقق من أصالتها، ويخلص من تقصيه في الأمر إلى أن المخطوطة في الأصل تخص دير سانتا كروز، في البرتغال، وقد نقلت مع مخطوطات ثمينة أخرى إلى المكتبة العامة في «أوبورتو» في البرتغال كذلك. ولقد ذهب إلى المكتبة العامة في مدينة أوبورتو البرتغالية، واطلع على مخطوطة يوميات الرحلة في مكتبتها العامة، ليصل إلى ما كان يبحث عنه، كما تفضل سموه بنشر ترجمة عربية لجزء منها في كتابه عينه.