ماريو فارغاس يوسا.. مشاغب البيرو
تبقى روايته “حفلة التيس”، من ترجمة الفلسطيني صالح علماني والتي صدرت عن دار المدى الدمشقية عام 2001، هي الأبرز في صنيع هذا الروائي الإشكالي والمثير للجدل، سواء في طريقة سلوكه مدافعاً عن الحرية بالمعنى السياسي المباشر للكلمة أو على المستوى الأدبي، وذلك من بين ما صدر له بالعربية وهو قليل لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، قياساً بما يتجاوز الثلاثين كتاباً: رواية ومسرحاً وممارسة نقدية. لقد شغل ماريو فارغوس يوسا، (28 مارس بيرو 1936)، العالم عندما خاض الانتخابات الرئاسية في بلاده، سنة 1990 ضد رئيس يميني فاسد اضطر إلى الفرار من البيرو فيما بعد، ليس لأن كاتباً يخوض الانتخابات، حيث من عادة المثقفين في بلاد العالم الثالث الاكتفاء بمراقبة الحراك السياسي أكثر من رغبتهم في دفع ثمن الخوض فيه. في الوقت نفسه، يعتبر يوسا واحداً من المنافحين عن الحرية السياسية بكل مستوياتها، إلا أنه كان قديماً من جهة اليمين ومدعوماً من أبرز القوى اليمينية في بلاده، مثلما في أميركا اللاتينية والولايات المتحدة.
هو الذي بدأ شاعراً فاشلاً، ثم تحوّل إلى الكتابة الروائية والصحفية، التي قبل أن يستقر فيها، عُرف عنه خوض العديد من المغامرات. لقد اشترك غير مرة في سباقات السيارات من ذلك النوع الذي يعرِّض حياة المرء للخطر، كما عُرف عنه ميله إلى النزق عند سلوكه مع أبناء جيله من الكتّاب إلى حدّ الاعتداء بالضرب على غابرييل غارسيا ماركيز إثر خلاف بينهما تعلّق بالثورة الكوبية.
وأكثر ما يثير الانتباه في شخصية الرجل هو السلوك السياسي الذي يمكن القول إنه لم يخل من التصدع أو التخبّط إلى حدّ أربك مناصريه قبل خصومه، بحيث إنه كان بارعاً في خلق الخصوم واستحداث المعارك السياسية التي كان يدوّرها ويتحكم بخيوطها عبر الصحافة، إذ كان ماريو فارغاس يوسا يدرك تماماً أن خصومه سيقرأون ما يكتب قبل أنصاره مهما كان موقفه المعلن من هذا الأمر أو ذاك. لكن سيرته تخلو من انتمائه إلى حزب بعينه على الرغم من أن الجميع يتفق على أن منابع أفكاره قد تغذت من الفكر اليميني إجمالاً، وبطبيعة الحال، فقد كانت إشكالياته غالباً ما تتم مع اليسار في أميركا اللاتينية بحجة أن القارة بأكملها تحولت إلى سجن سياسي بعد وصول اليسار إلى السلطة. وعلى الرغم من تهافت خطابه وهزيمته السياسية في البيرو إلا أن هذا الكاتب استمر في ممارسة دوره بوصفه مثقفاً نقدياً مدافعاً عن الحرية. إنما من وجهة نظره هو وبناء على خبراته الشخصية، التي لم تكن قليلة الشأن أبداً، في العيش في أميركا اللاتينية الملتهبة والمتقلبة خلال النصف الأخير من القرن العشرين وما شهدته من أحداث وشخصيات، هي أحداث وشخصيات روائية حقاً.
التاريخ ملهماً
يُسجَّل لماريو فارغاس يوسا، ذلك الخطاب الروائي “الأصيل”، الذي حققه في أعماله الأدبية. وربما من المفيد قليلاً مقارنة “مائة عام من العزلة” لماركيز مع “حفلة التيس”، ففي حين تقوم بنية الرواية الماركيزية على جملة أحداث لم تحدث أو يُلهم بها التاريخ وظلت في سياق تطور الواقعية السحرية، فإن يوسا في “حفلة التيس” يذهب إلى أحداث واقعية تماماً ويجعل من التاريخ أستاذاً وملهماً.
لقد اختار يوسا جمهورية الدومينيكان خلال مرحلة من مراحل تاريخها عندما حكمها ديكتاتور في القرن التاسع عشر، ويوظف كل ما يمنحه إياه تاريخ الدومينيكان وتاريخ شخصية هذا الديكتاتور ليحقق اختراقاً في الواقعية السحرية ذاتها، آخذاً إياها نحو “مناطق” أخرى لم تستكشفها هذه الواقعية من قبل.
يشعر القارئ، مع هذا العمل أن أهمية يوسا روائياً تكمن فيه. وبذكاء شديد يوجه يوسا نقداً لاذعاً، بل مرّاً لشخصية الديكتاتور بوصفه فكرة تتحقق دائماً في التاريخ البشري عموماً، وتاريخ أميركا اللاتينية تحديداً، إنما بسوداوية شديدة تجبر القارئ على نوع من الضحك العميق، خاصة في تلك المقاطع التي يتناول فيها مرض الديكتاتور وعجزه الإنساني، والأخلاقي بما هو سابق على ذلك، عن مواجهة عجزه الجسدي. إنما دون الخروج على الواقعية، حتى لكأنه يريد أن يقدم درساً لأحد ما في كل الأزمنة وليس في زمن بعينه آخذاً ديكتاتور الدومينيكان بوصفه نموذجاً لهذه الظاهرة الإنسانية.
أيضاً، وبمعنى ما فالرواية تكشف عبر شخصياتها وأحداثها التاريخية عن الميكانيزمات الاجتماعية والتاريخية وكل ما من شأنه أن يسهم في إيجاد هذه الظاهرة والتعامل معها كما لو أنها ظاهرة طبيعية تماماً، أي أن الرواية تنطوي كذلك على فضيحة للمجتمعات التي أنجزت مشروعها التحرري والخلاص من المستعمر لتستقر نهائياً في أحضان هذه الظاهرة ثم ليترحم الناس على عهد الاستعمار الذي ولّى والذي أصبح بمثابة يوتوبيا. والأرجح أن ثقافة يوسا وسعة اطلاعه هي التي مكنته من أن ينجز هذا الأثر الأدبي بكل تفاصيله الدقيقة وحياكته حدثاً تلو الآخر، بل تطريز تفاصيل الشخصية الروائية حبّة في إثر أخرى.
يشعر القارئ أن الشخصية تولد أمامه مع الحدث والحوار وتتكشف عن ما هو غير متوقع شيئاً فشيئاً، خاصة ما تنطوي عليه من أبعاد نفسية وإنسانية. بدءاً من لحظاتها الأولى يجد المرء نفسه بصدد الحديث عن مجتمع بأكمله مريض ومتفسخ ومتهالك وفقد وجوده وتعيّنه في الواقع بإزاء شخصية الديكتاتور الذي نقل مرضه إلى بنيات المجتمع كافة. بالتأكيد، فقد خلق يوسا انزياحاً عن التاريخ لكنه ظلّ لصيقاً به ويعيد كتابته بواقعية هي أيضاً واقعية سحرية لكنها واقعية يوسا وليست واقعية ماركيز.
وهذا كله يجعل تصنيف “حفلة التيس” كعمل سياسي بامتياز غير بعيد عن الحقيقة، بل إن أعماله كلها قائمة على فكرة سياسية تكاد تكون واحدة وتتمثل بموقفه النقدي من كل ما يجري سياسياً في أميركا اللاتينية إجمالاً لكن المحرّك التخييلي الروائي هنا ليس هو الحلم البوليفاري بوحدة أميركا اللاتينية كما في أعمال الروائيين اليساريين أو الذين جنحوا باتجاه اليسار. يصعب على المرء أن يلتقط أي فكرة توحي بذلك خلال “حفلة التيس” أو سواها من أعمال يوسا بالعربية، لكن وبارتداد نحو مواقفه السياسية المعلنة وطبيعة حراكه الثقافي النقدي فإن يوسا بالفعل هو روائي يميني وليس بسياسي يميني. حيث إن اليمين واليسار كمفهومين يختزلان الواقع السياسي في الثقافة الناطقة بالإسبانية أكثر مما هو حاضر في الثقافة العربية.
هنا، ربما من النافل التذكير بأن موقف يوسا ضد اليسار كان لصالح حكومات وديكتاتوريين لاتينيين لم تتخلص منهم شعوبهم إلا بدءاً من أواخر الثمانينات، ومع نضج المجتمعات ونمو الطبقة المتوسطة التي فرضت الانتخابات قانونياً وانتزعت عبرها قوى اليسار السلطة، في حين لم يكن تاريخ تلك الحكومات اليمينية السابقة في الحكم سوى تاريخ انتهاك حقوق الإنسان، الأمر الذي يستغربه أي متابع لمواقف يوسا السياسية التي ربما توحي بتصدع فكري ما، لكنها معبرة إلى حدّ بعيد عن شخصيته، بكل تناقضاتها لكن بمعزل عن إبداعه الذي يشير إلى موهبة روائية كبيرة بالفعل، حتى إن القول بأن “حفلة التيس” من أهم روايات أميركا اللاتينية هو قول يخلو من أية مبالغة أو تطرف.
وبالطبع فإن فارغاس يوسا لا يختزل أدب أميركا اللاتينية فيه وفي ما أنجز على المستوى الإبداعي لكنه ميزته الأساسية، بحسب الناطق بلسان نوبل للآداب، “إنه كاتب متميز وأحد أعظم الأدباء في الدول الناطقة بالإسبانية، إنما الآن له ما يخصه على مستوى تحقيق إنجاز إبداعي يخص يوسا وحده ويجعله مختلفاً عن سواه من مبدعي أميركا اللاتينية وليس ممن حازوا نوبل للآداب سابقاً، بل كذلك مَن لم يفوزوا بها. ومنقولاً إلى العربية وبصدد مقارنة بسيطة، فإن منجز يوسا على أهميته قد لا يساوي منجز خورخي لويس بورخيس مثلاً لا حصراً، مثلما أنه ليس الكاتب الروائي المتميز الوحيد في الثقافة الناطقة بالإسبانية.
في امتداح الترجمة
في “امتداح الخالة” للمترجم علماني أيضاً وعن دار النشر الدمشقية نفسها، ثمة الكثير من التفاصيل سواء في الأحداث أو رسم الشخصيات مما يذكِّر بشخصيات وأحداث “حفلة التيس”، لكن كما لو أن ما كتبه ماريو فارغاس يوسا روائياًً، إنما هو مسعى إلى استكمال “حفلة التيس” أو ما يمكن القول إنه تمارين في الكتابة الروائية كلها كانت تبشّر بتلك الرواية العظيمة في صفحاتها التي تتجاوز الأربعمئة، لكنها الأخاذة بالفعل. صحيح أنها قد تكون بعيدة عن التاريخ، لكن كما لو أن يوسا يدرِّب مخيلته الروائية بالفعل على إعادة تدوير المادة الخام للتاريخ، حدثاً وشخصية، فهما في “امتداح الخالة” أكثر وفاء للواقعية السحرية وأكثر قرباً إلى ما أنجزته على صعيد المخيلة الروائية، غير أنها تبقى تخييلية تماماً ومن إبداع مخيلة يوسا ومقدرتها الإيجابية على الاحتيال على ما هو تاريخي، دون أن يثير الكاتب أي تساؤلات حول التاريخ إلى حين كتابته “حفلة التيس”.
ولكن، ما يجعل المرء في شك بصدد هذا الأمر هو أنه ما من “استراتيجية” واضحة في ترجمة فارغاس يوسا إلى العربية. فما أنجزه صالح علماني، إذ يترجم ثلاثة أعمال أو أكثر للرجل، لم يكن سوى ما هو نابع من ثقافته الشخصية ومقدرته المختلفة على فعل الترجمة، وإثرائه المكتبة العربية بعدد واسع من الأعمال السردية الصادرة بالإسبانية. وهنا فإن من حق هذا الرجل بالتنويه بترجماته ليوسا وسواه ونقل أعمالهم إلى العربية بهذا التميز في لغة الترجمة أقلّها وكذلك لمبادراته في إنجاز ترجمات عبر سنوات طوال ماضية جعلت منه بحق واحداً من ألمع المترجمين العرب عن الإسبانية.
لا عثرات تنتاب السرد، وتقريباً، لا غموض معيقاً لمخيلة القراءة في أن تنمو وتمتد، بل يلحظ المرء أن بوسعه أن يعيد قراءة “حفلة التيس” حتى بعيداً عن فوز صاحبها بنوبل وباستمتاع يجعله يحمل جميلاً تجاه هذا المترجم.