إبراهيم الملا (الشارقة)
«مظلة التسامح والتعايش»، هكذا تبدو شجرة الرولة عندما يدور الحديث عن تراث التعايش مع الآخر المتأصل في وجدان وسلوك الإماراتيين، فساحة الرولة تعتبر ملتقى للناس، ومكان لممارسة عاداتهم وتقاليدهم المرتكزة على قيم التسامح والتعايش مع الآخر.
في عمق هذا المفهوم تقف شجرة الرولة بكل رمزيّتها في الذاكرة التاريخية للوطن، الشجرة التي تنطوي في مضامين اسمها، وفي أنماط رسمها، على أنوثة حانية، هي أنوثة الأم التي تستدعي أطفالها إلى ظل شفيف، وعطر أليف، فتحيلهم إلى مواطن عشق ووصل، وتبعث فيهم ذاك الوهج القديم، وذلك الضوء العتيق، في أفواج مزدانة، وأهازيج رنّانة، يتعانق فيها الوجد مع الذكرى، ويتمازج في أعطافها الصمت والصخب.
شجرة المحبّة
ارتوت «الرولة» من ماء المحبة، فكان قطافها ورداً وسحراً وغيمة خضراء، لوّنت قلوب أهل الشارقة منذ ما يزيد على 250 عاماً، عندما كانت البذرة الأولى هي بشارة أعياد وأفراح ومواويل، ما زال أريجها فائحاً بين رمل قريب، وبحر مهيب، هناك على مرمى نظر من حصن الشارقة الكبير، وعلى مرمى هوى من بيوتات الطين و«العريش» الخفيضة والوادعة، هناك، وفي تلك المسافة العميقة والآسرة معنى والرحبة والممتدة مبنى، تفتحّت ذاكرة المكان على طفولة ريّانة، وعلى عبق طريّ وفتّان، عبق طليق مثل الغزال الشارد، ومثل نسمة فراديس تجوس خلال الديار، لا تحتويها «نهمة» بحّار، ولا «تغرودة» بدوي، فهي النسمة المسافرة خارج الزمن، والمقيمة في البوح كله، من مبتدأ الحكاية إلى منتهى الرواية، لأن اللقاء تحت شجرة الرولة كان لقاءً دونه الكثير من الشجن، والكثير أيضاً من الفرح المؤجل، وعندما سقطت الرولة في العام 1978 ونامت في مخدع التراب، أيقظها شاعر مجهول بقصيدة عنوانها: «دمعة على الرولة» يقول فيها:
دمعة على الرولة
بدمع سال أزمانا
أنا أبكيك يا رولة
في الأغصان نشوانا
وأبكي فيك أصحابا
أهازيجا وريحانا
مجالس أنسنا ولّت
وجاء العيد أحزانا
قصيدة هي من عفو الخاطر، ورجفة البهتان، وقسوة الخسران، ورغم بساطتها وعفويتها، إلّا أنها لخّصت القيمة الروحية والمكانة الاجتماعية التي حظيت بها «الرولة» في فترة زاهية شهدتها الشارقة، عندما كانت موئلاً للقادمين من الإمارات المجاورة وللزائرين من الأصقاع البعيدة، محتفلين بعيدي الفطر والأضحى، ومجتمعين في الأعياد والمناسبات الوطنية، كانت الرولة حينها هي نقطة جذب بامتياز، وحاضنة بهجة لا لبس فيها، كانت محوراً للمناطق الكبرى والرئيسة في المدينة مثل: المريجة والمصلى والشويهيين، وعندما جاورت «الرولة» شارع العروبة، أصبح المكان أكثر حيوية مع الازدهار الاقتصادي والحركة النشطة للعمران وبناء الإنسان، خصوصاً وأن ميناء خالد صنع إطلالة مائية لا مثيل لها، وكان شاهداً على الديناميكية البشرية، الجامعة بين أهل الشارقة وبين التجار والباعة والمستثمرين القادمين من بقاع الدنيا المختلفة.
وسط هذا الحراك والضجيج والجلبة، كانت الرولة وحدها الراكزة في الصمت، والساكنة في التأمّل، فصارت رمزاً لأصالة متجذّرة فيها، وأيقونة لحداثة تتنامى حولها.
أشجار التقارب
الغاف والرولة والسدر والسمر وغيرها، أشجار عريقة ونباتات سامقة، ستظل دائماً أمثلة شامخة لقيم عظيمة وذاكرات حاضرة تترجم سلوكيات أبناء الإمارات منذ القدم، فهي ليست مجرد أشجار خبرها الناس واستفادوا من عطاياها لمئات السنين، بل هي في المعنى الافتراضي لحضورها إنما تعكس تجليات التعايش ونتائج التقارب، والاستئناس بالطبيعة وهباتها، والاستفادة من الآخر ومن معارفه وخبراته وأفكاره، إنها العلاقة التبادلية بين الإنسان والأرض، وبين الإنسان وبين أخيه النظير له في الخلق، والمتنوع في المقصد، والمتمايز في الرؤية، وذلك حتى لا تكون العزلة هدفاً، ولا الانكفاء مطلباً، لأن غاية الوجود هو التعدّد والتغير والتطور.
والرولة بهذه المقاييس والنواميس المتحركة فيها ومن حولها، تمنحنا هذا المثال الصارخ، وهذا المعنى الباذخ للتسامح والتعايش والتقارب والجدل الخلّاق حول سيرورة الزمن وصيرورة الإنسان، وأن ما نفقده في مكان، نكسبه في مكان آخر.
«الرولة» في النهاية هي المظلة الوارفة لكل من بذَرَ نواة خير على هذه الأرض الطاهرة، وصبر طويلاً كي تطرح ثمارها أمناً وسلاماً، وظلاً مديداً حتى حواف النظر، وحتى آخر الشغف!