د. عبد الجواد يسن

تتوافر الإنسانية على سجل طويل من المحاكمات التي انعقدت لمساءلة الفكر والعقاب عليه. لا أشير إلى المحاكمات النظرية التي تستهدف الأفكار في سياق جدلي من خلال الكتب أو وثائق التحريض، بل إلى محاكمات «جنائية» بالمعنى الضيق، حيث يمثل الإنسان في قيوده أمام القضاة متهماً بفعل التفكير بشكل مختلف. ثمة جريمة، وقرار ادعاء، وحكم يصدر عادة بالإدانة، وغالباً بالقتل.

1
مشرباً بالسياسة، كان الدين حاضراً على الدوام، عبر فصول هذه الدراما التاريخية المتعاقبة: مبكراً، وفي سياق عقلي سياسي متطور كالسياق اليوناني حاكمت أثينا «الوثنية» سقراط بتهمة إفساد الشباب والإساءة إلى الآلهة، على خلفية آرائه المناهضة للديموقراطية، وحكمت عليه بالإعدام سنة 399 ق.م.
وقدمت الكنيسة الكاثوليكية من خلال محاكم التفتيش، النموذج القمعي الأكثر وحشية في تاريخ العلاقة بين الفكر والدين، أو بين الحرية الفردية والنظام الاجتماعي المؤمم من قبل الدين والمدعم بسلطة الدولة. عبر التحالف بين الكنيسة والحكومات المدنية، أرسل آلاف البشر في أوروبا أحياء إلى المحارق بتهمة الهرطقة، التي لا تعني حصراً إنكار الدين، بل التفكير فيه بطريقة لا تطابق رؤية الكهنوت الرسمي.
ورغم المعاناة التاريخية للبروتستانت كضحايا سابقين لمحاكم التفتيش، توفرت البروتستانتية المبكرة -بتداعي التفكير الكنسي- على رصيدها القمعي الخاص، فاعتبرت الهرطقة جريمة يلزم العقاب عليها من قبل السلطة المدنية. في سنة 1553 أصدر مجلس مدينة جنيف حكماً بإحراق «سيرفيه» بناء على قرار إحالة مقدم من «كالفن» المؤسس الثاني للإصلاح البروتستانتي بعد لوثر، والذي عاد فأصدر كتاباً بالفرنسية واللاتينية بعنوان «إعلان الإيمان الحقيقي» يؤكد فيه مشروعية العقاب على الهرطقة، وعلى أن «هذا الشرير جرى إعدامه بصورة محقة في مدينة جنيف».
الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي تختلط تقريباً بالدولة، لم تنص رسمياً على عقوبات خاصة بالهرطقة باستثناء الحرم أو اللعنة.
لكن الدولة القيصرية، مع تزايد خطر الانشقاق على الكنيسة، تصدت للهرطقة بقائمة موسعة من العقوبات تضم التعذيب، والنفي، والمحرقة.
في التاريخ الإسلامي، حيث تقمصت الدولة أحياناً وبإسناد فقهي مهمة حراسة تأويل الدين، سنقرأ عن سلسلة متواصلة من المحاكمات اللاهوتية ذات النفس السياسي الصريح أو المضمر. تبدأ القائمة بالمحاكمات الأموية المبكرة التي أسفرت عن إعدام معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم. وتضم ضحايا محاكمات المهدي بتهمة الزندقة في مطلع الدولة العباسية، ومحاكمات المأمون والمعتصم والواثق على مسألة خلق القرآن، التي طالت أحمد بن حنبل، والمحاكمات المضادة للمعتزلة بعد تولي المتوكل، ومحاكمات الحلاج، والسهروردي، وابن رشد، وحتى ابن تيمية الذي اعتاد على محاكمة العقائد، قدم إلى المحاكمة وصدر مرسوم سلطاني بتحريم عقيدته، واضطر إلى الإقرار على نفسه بالشافعية.
بالوصول إلى الدولة الوطنية المعاصرة لم تنقطع سلسلة المحاكمات اللاهوتية في السياق الإسلامي، حيث ظلت الدولة بتركيبتها المختلطة (العلمانية/‏‏‏ التراثية) تحافظ على دورها الرسمي الموروث كحارسة للدين (بعد إعادة تـأصيله بآليات قانونية كجزء من فكرة النظام العام، التي تحمي ثقافة الأغلبية أو الثقافة الكلية للمجتمع).
في هذا السياق تبرز محاكمة علي عبدالرازق في مصر سنة 1925 كنموذج شبيه بعض الشيء بمحاكم التفتيش الكاثوليكية. انعقدت المحكمة في شكل «هيئة تأديبية» مكونة من 24 عضواً من «كبار العلماء»، برئاسة شيخ الأزهر، لمساءلته عن كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي دمغته سلفاً بالضلال. انتهت الهيئة إلى إدانة المتهم وحكمت عليه بـ«محو اسمه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى». وهي عقوبة تشبه إلقاء الحرم أو الإقصاء الكلي من الاتحاد بالكنيسة. إضافة إلى «طرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته من أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية» وهي عقوبة إدارية جرى تنفيذها بصرامة من قبل الحكومة. كما تبرز محاكمة طه حسين، ونصر حامد أبو زيد، والمحاكمة غير المفهومة التي انتهت بإعدام محمود محمد طه في السودان.

2
تاريخياً، يرتبط مفهوم «المحاكمة» بفكرة القانون وفكرة القضاء أي بحضور الدولة. مما يعني أنه لم يظهر إلا في سياق زمني متطور عند الاجتماع الطبيعي المبكر، الذي لم يعرف فكرة الدولة، ولم يقف أصلاً على فكرة «الفكر» بما هو موقف معرفي خاص بالذات الفردية مستقلة عن العالم كموضوع، ومستقلة عن الجماعة كسلطة.
الوعي بالذات مستقلة عن موضوعها شرط لأي معرفة، كما أن الوعي بالذات مستقلة عن الجماعة الحاضنة لها شرط لأي سلطة.
تفترض الأنثروبولوجيا الوضعية (السائدة) أن حالة الاجتماع الطبيعي البدائية (المبكرة) شهدت اندماجاً كاملاً بين الوعي الفردي ومحيط الطبيعة (شعور الإنسان بأنه جزء من الطبيعة) قبل أن تشهد ذوبان الفرد في الأطر الجماعية التي فرضتها غريزة الاحتماء من خطر الطبيعة (شعور الفرد بأنه جزء من الجماعة).
المسار التدريجي للتطور باتجاه السيطرة على الطبيعة، تزامن حسب الاستقراء مع مسار موازٍ لتفاقم الوعي بالفردانية. لكن هيمنة الأطر الجماعية (العائلة/‏‏‏ العشيرة/‏‏‏ القبيلة/‏‏‏ الدولة) ظلت طاغية على الوعي الفردي، خصوصاً بعد تثبيت الدين، بفعل المؤسسة، كإطار جماعي شامل يهيمن على جميع هذه الأطر. لقد ساهم نسق التفكير الذاتي الذي بلغ ذروته مع الفلسفة اليونانية في تطوير الوعي الفردي النظري، ولكن هذا الوعي لم يستطع أن يفرض ذاته «التعددية» في منطقة الدين.
هذه الهيمنة بشقيها (هيمنة الجماعي على الفردي، وهيمنة الديني على الجماعي) لم تتعرض لنقاش جدي طوال العصور السابقة على الحداثة، حيث ظلت المؤسسات الدينية تمارس تنميط الدين في صيغ نهائية جاهزة تقمع النزوع الفردي، بعد أن صارت تشكل النواة الصلبة في بنية العرف الاجتماعي، ومن ثم الجزء الأكثر حساسية من فكرة النظام العام المحمية بسلطة القانون/‏‏‏ الدولة.
معنى ذلك أن الدين قد يؤدي نظرياً إلى خلق قابليات أوسع للتناقض بين النزوعات الفردية والنظام الاجتماعي (الأطر الجماعية: العائلة/‏‏‏ العشيرة/‏‏‏ القبيلة/‏‏‏ المجتمع/‏‏‏ الدولة)، وأنه قد يمثل السبب الأول لمنع أو تخفيف حضور «التعددية» كمبدأ صريح داخل الاجتماع السابق على الحداثة. أعني منع أو تخفيف تحولها من ظاهرة طبيعية مكبوتة إلى مفهوم ثقافي وسياسي مقبول جماعياً. (بالطبع يظل التناقض بين الفرد والجماعة الحاوية له بدئياً بحكم الطبيعة وبصرف النظر عن حضور الدين. لكن تثبيت الدين، بما هو منظومة تكاليف جماعية مقدسة، أعطى أحياناً سبباً إضافياً لتوسيع وتعميق قابليات التناقض).

3
ومع ذلك يلزم ملاحظة أن الحضور التاريخي للدين لم يؤد إلى منع التعددية طوال المراحل السابقة على النسق التوحيدي، بل فرضت التعددية نفسها على التدين ذاته. ظهرت التعددية كمفهوم مقبول على المستويين الجماعي والفردي، بمعنى الإقرار المتبادل بحق الجماعات والأفراد في تقديس آلهتها الخاصة. في هذا السياق توفر نوعاً من السلام الديني، ولم يؤد التدين إلى حروب واسعة بين الشعوب، ولا إلى صدام بين الأفراد أو مع الأفراد، بالمعنى أو على النطاق الواسع الذي سيظهر بعد تبلور النسق التوحيدي.
لذلك يلزم التفريق في هذا الصدد بين مرحلتين من مراحل التدين التاريخي؛ الأولى: ما قبل تبلور النسق التوحيدي الكتابي، والثانية: ما بعد تبلور هذا النسق. في المرحلة الأولى لم يتبلور تماماً مفهوم اللاهوت، ولا مفهوم العقيدة الحصرية، ومن ثم لم يوضع التفكير الفردي في مواجهة رؤية أحادية للدين. وهكذا غاب مفهوم التكفير ومفهوم الهرطقة عن الديانات المصرية والبابلية والإغريقية والرومانية.
ومع اليهودية سيظهر مفهوم التكفير بمضامينه الإشكالية (اللعن/‏‏‏ الإقصاء/‏‏‏ إباحة الدم/‏‏‏ القتل): «من جدف على اسم الرب، فإنه يقتل، يرجمه كل الجماعة رجماً» [اللاويين 24/‏‏‏ 13-16]. [انظر أيضاً تثنية 13/‏‏‏1-10. والخروج 22/‏‏‏18]. لكن مصطلح الهرطقة -وهو لا يطابق الكفر ولا البدعة الدينية- لم يشتغل في السياق اليهودي بإشكالياته التفصيلية التي ستظهر في المسيحية.

4
نشأت المسيحية بالأساسفي سياق لاهوتي، وتطورت في الاتجاه ذاته، أعني نتيجة لسلسلة من الانشقاقات اللاهوتية التي تدور حول المسيح وطبيعته، أكثر مما تدور حول الشريعة أو الطقوس البحتة. ومن هنا تأتي مركزية «المبدأ الإيماني» الذي يتحدد من قبل جهة بعينها هي الكنيسة، وهي لم تمنح نفسها الحق الحصري في تحديد قانون الإيمان فحسب، بل أيضاً صلاحية «معاقبة» الخارجين عليه.
في ظل علاقتها المتطورة مع الدولة الرومانية فرضت الكنيسة نفسها كسلطة موازية أو متجاوزة لسلطة الدولة، حسب الظروف السياسية. وثار النقاش حول ما كان يسمى بـ«حق السيف»: هل يجوز للكنيسة بوصفها «مجتمعاً كاملاً» أن تقر عقوبة الموت، وأن تنفذها عن طريق أحد رؤسائها إذا كانت هذه العقوبة ضرورية لصالح المسيحية، أم أن الكنيسة تمتلك حق السيف كوسيط يصدر الحكم ثم يعهد بتنفيذه إلى السلطة المدنية، وهو ما ذهب إليه القديس توما الإكويني؟
يتوافق طرح السؤال بهذه الصيغة مع ثقافة العصور الوسطى المسيحية، التي ظلت تناقش المسألة من زاوية العلاقة بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، ولم تتوقف لمناقشة الأسئلة الأولية عن علاقة الإنسان الفرد –ككائن طبيعي حر- بالكنيسة وبالدولة، بما في ذلك السؤال عن صلاحية الكنيسة من حيث المبدأ، وكذلك عن صلاحية الدولة، لفرض قانون يتعلق بالاعتقاد الفردي، وتعميمه كتكليف مقدس، قبل العقاب على مخالفته بعقوبة الموت.
لاحقاً، وتحت الضغوط الهائلة لقانون التطور، اضطرت الكنيسة للتنازل عن سلطتها التقليدية في المجال العام، واعترفت حسب «القاموس الدفاعي عن الإيمان الكاثوليكي 1911» بأنه «بسبب الزمان، والأفكار، والعادات التي تغيرت، يمكن اليوم اعتبار العقوبة القصوى غير ملائمة لا بل خطيرة». لكنها حسب هذا النص ذاته ظلت على اعتقادها بأن: «الضرورة تبرر حكم الإعدام. ففي إحدى الحقب أمكن أن يكون ضرورياً وملائماً»، وأن الضرورة أيضاً هي -فقط- ما يبرر هذا الاعتراف، فحتى سنة 1921 كان لا يزال بإمكان الأب جانفييه أن يصرح في نوتردام بأنه «يمكن للكنيسة في بعض الحالات الاستعانة بصورة مشروعة بالسلطة المدنية للدفاع عن الإيمان ضد عمل الهرطقة، وليس تطبيق عقوبة الموت على هؤلاء أمراً لا مبرر له دائماً».
يوجه هذا الاعتقاد إلى أصول بنيوية في النسق الكتابي. فهو يفرض أحكامه بوصفها عنوانًا «حصرياً» للحقيقة المطلقة (الإلهية). كونها كذلك مبرراً كافٍياً لنفي الآخر المقابل لها. ووفقاً لهذا التحليل، فإن العقاب على الهرطقة لا يرجع إلى كونها خرقاً يهدد العرف العام (ويستحق بالتالي حماية القانون)، بل يرجع مباشرة إلى كونها خرقاً لإرادة الرب، كما تعبر عنها نصوص الكتاب (مثل تثنية 13/‏‏‏ الخروج 22/‏‏‏ اللاويين 24 في العهد القديم، ويوحنا 15/‏‏‏6 في العهد الجديد). صحيح أن فعل الهرطقة قد يمثل، في سياق اجتماعي معين، تهديداً لفكرة النظام العام التي تحظى بحماية القانون، إلا أن هذا المعنى يظل ثانوياً بالقياس إلى المعنى الكتابي المستمد من سلطة الرب.
الدين هنا هو القانون والنظام العام معاً. هذا المفهوم الذي صار يتعرض لانزياح تدريجي في أوروبا منذ عصر النهضة تحت ضغط التطورات الحداثية، حيث أخذ مفهوم «الاجتماعي» مع مفهوم «الفردي» يستعيد حضوره بالتخفف من وضعية الاستغراق الديني.
لقد فرضت التطورات الحداثية مصطلح «الاجتماعي» كفضاء خام لا يتطابق تماماً مع الفضاء «الديني» ولا مع الفضاء «الفردي». وظهرت «التعددية» كقيمة مطلوبة لذاتها، تريد التحول من حالة طبيعية إلى مفهوم ثقافي وقانوني قادر على مقارعة «الحصرية» بجميع أشكالها الدينية وغير الدينية. في محاكمة سقراط ورغم حضور الدين، لم تكن الحرية في حالة مواجهة مع الآلهة، بل كانت تقف مقابل المجتمع المدني أو فكرة النظام العام كما تقرؤها الحكومة القائمة. والمفارقة الأهم في هذه المحاكمة هي أنها تضع الحرية الفردية في تناقض مع الديمقراطية الأثينية، ويظهر فشلها في الاختبار الأول لقياس قدرتها على تحمل قيمها الخاصة. فمهما قيل عن حق الديمقراطية في الدفاع عن نفسها ضد المناهضين لها، سيظل من التناقض أن تدافع الديمقراطية عن نفسها بآليات غير ديمقراطية، وبوجه خاص حين يستخدم القانون في تمرير هذه الآليات.

 «تأديب» المجتهد!

تبرز محاكمة علي عبد الرازق في مصر سنة 1925 كنموذج شبيه بعض الشيء بمحاكم التفتيش الكاثوليكية. انعقدت المحكمة في شكل «هيئة تأديبية» مكونة من 24 عضواً من كبار «العلماء» برئاسة شيخ الأزهر، لمساءلته عن كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي دمغته سلفًا بالضلال. انتهت الهيئة إلى إدانة المتهم وحكمت عليه بـ«محو اسمه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى». وهي عقوبة تشبه إلقاء الحرم أو الإقصاء الكلي من الاتحاد بالكنيسة، إضافة إلى «طرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته من أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية» وهي عقوبة إدارية جرى تنفيذها بصرامة من قبل الحكومة. كما تبرز محاكمة طه حسين، ونصر حامد أبو زيد، والمحاكمة غير المفهومة التي انتهت بإعدام محمود محمد طه في السودان.