د. عزالدين عناية

في العصر الذي ظهر فيه جاليليو جاليلي (1564- 1642م)، خيّم على إيطاليا وعلى مجمل دول أوروبا الواقعة تحت سلطان كنيسة روما جوٌّ ثقيلٌ من الرقابة والتفتيش وتكميم الأفواه، بلغ حدّاً لا يطاق، جرّاء «حشر سيفيْ الدين والدنيا في غمد واحد»، في العديد من الممالك الخاضعة لنفوذ الكنيسة. وهو ما تجلّى في تصلّب «الكوريا الرومانية» (هيئة التسيير الكنسي)، وتدخل «القانون الكنسي» (il diritto canonico) في مناحي الحياة كافة.

ترافق ذلك الجوُّ الثقيلُ بإصرار في أوساط الأدباء والعلماء والكتّاب، لمجابهة التشدّد الذي فرضته الكنيسة، ذهب ضحيته الألوف. فقد شكّلت الإنسانوية في ذلك العهد، فضلاً عن الفيلولوجيا الناشئة، وإحياء التراث الكلاسيكي، وانتشار القيم الدنيوية، وتطوّر الطباعة عناصرَ حدّتْ من مواصلة الأطراف الكاثوليكية احتكار المعرفة، رغم إصرار الكنيسة، وبشكل حازم، على تعميم الرقابة على الكِتاب والفكر والثقافة. حيث أقرّ مرسوم «Inter Sollictudines» لعام 1515م، المبادئ العامة لتلك الرقابة. وكان هدف روما -آنذاك- إخضاع كلّ المنتوج الأوروبي المطبوع إلى رقابة تتمركز في قبضة السلطات الدينية، إلى أن أضحى «الإمبيراتوم»، أو التصريح الكنسي المخوّل بالطباعة، هو جواز المرور الوحيد، الذي يتيح نشر عملٍ ما وتداوله.
صوّر المؤرخ الإيطالي ماريو إنفليزي هذه الأجواء في مؤلف بعنوان «الكتب الممنوعة»، صدرت ترجمته عن «مشروع كلمة» في أبوظبي سنة 2011، قائلاً: في نهاية القرن السادس عشر كانت الرقابة والنشاط القمعي، اللذان تتمّ ممارستهما عبر قنوات تشريعية مشددة، قد أثّرا بلا هوادة، وبشكل لا يمكن إغفاله، على انتشار الفكر الحرّ... بلغ التعاون بين محاكم التفتيش وجامعتيْ سالامانكا وألكالا، اللتين كانتا تتوليان مهمة تحديد الهرطقة، أقصى درجاته، ثم اتجه عملُ محاكم التفتيش بعد ذلك إلى التعويل على ذاتها، وانتهى الأمر إلى سيادة المراقبة على كل ما عداها. وفي الأعوام الأخيرة من القرن السادس عشر، كانت الممارسات الرقابية قد تجاوزت كل حدّ، حيث خضعت للمراقبة مؤلفات باللهجات العامية، وأعمال دينية شعبية، وكتابات أكاديمية وعلمية.

الهرطقة لِمن فكّر وتدبّر
في غمرة هذا الترصّد للعلماء والتضييق على الفكر المستنير، مَثُل رائد العلوم الحديثة وعالم الرياضيات المدعو جاليليو جاليلي، في الثاني والعشرين من يونيو 1633، أمام مجلس كرادلة الكرسي الرسولي بأمر من البابا أوربانوس الثامن بتهمة التجديف في الدين، عن كتابه الفلكي حديث الصدور: «حوار حول النظامين الرئيسيين للعالم»، وانتهاكه الأمر الصادر سنة 1616 بتدريس نظرية نيكولاس كوبرنيكوس وإشاعة مقولاتها بين الناس. تم جلبُ جاليليو عنوةً إلى محكمة التفتيش لمقاضاته والحكم عليه بالإقامة الجبرية مدى الحياة، مع إلزامه بترديد مزامير التوبة السبعة أسبوعياً (6، 32، 38، 51، 102، 130، 143، تلك المزامير التي أقرّ القديس أوغسطين تلاوتها عقب التوبة من كل خطيئة)، فضلاً عمّا لحق جاليليو من مصادرة كتابه المذكور وإدراج مؤلفاته في قائمة الكتب المضلّلة والمحرّمة. كاد مصير «رائد العلم الحديث» أن ينتهي بالحرق على غرار سلفه جوردانو برونو، لولا تخفيف في الحكم، حصل بتدخّل الكردينال روبارتو بيللارمينو بحجة أن جاليليو ما كان مهرطِقاً في الدين، ولكن أطروحاته تسير في ذلك الاتجاه.
توجّب على جاليليو في أعقاب صدور الحكم المخفَّف تلاوة نص «الأبيورا» (الإقرار بالذنب)، الذي صاغه خصومه، وهو جاثم على ركبتيه: «في كنف المجمع المقدّس المهيب أعلنُ التخلّي عن الفكرة الخاطئة أن الشمس هي مركز الكون وأنها ثابتة لا تدور، وأقرّ بأن الأرض مركز الكون، كما أتخلّى عن القول بالنظرية المشار إليها أو الدفاع عنها أو تعليمها تحت أي شكل كان، قولاً أو كتابة. سأسعى جاهدا لإزالة هذه الشكوك من عقول غبطتكم ومن ذهن أي مسيحي ورع، وبقلب خاشع وإيمان صادق أقرّ صواب الخطايا والهرطقات المشار إليها وألعنها وأمقتها، وأقسم ألاّ أردّدَ شيئا من تلك المهاترات مستقبَلاً شفوياً أو كتابياً»، بما يشبه ما قاله الراهب المتمرد جوردانو برونو سنة 1600 أمام حكم حرقه الصادر عن محكمة التفتيش: «لعلّكم برهبة أشدّ مما أكابد تصرّحون بحكم الموت عليّ». تلا جاليليو جاليلي الإقرارَ بالذنب القسري، وما إن أنهى نص «الأبيورا» المملى عليه حتى غمغمَ بكلماته الشهيرة: «مع ذلك فإن الأرض تدور». وإن ذهبت الدعاية الكنَسيّة المناوئة إلى التشكيك في عبارته التي صرّح بها عقب صدور حكم المحكمة، التي قدّر مفتّشوها أنهم بذلك القرار الجائر سوف يوقفون ادّعاء دوران الأرض، وعَدّو تلك العبارة الخالدة مختلَقةً من قِبل الصحفي الإيطالي جوسيبّي باريتي المقيم بلندن (سنة 1757).
في واقع الأمر لم يكن جاليليو مجدفا في الدين، ولا مهرطقاً، ولا مرتدا، كما روّج رجالات الكنيسة، بل كان مؤمناً ورعا لم ترُق نتائج أبحاثه وكشوفاته ومعارفه لكنيسة لا تزال مستميتة داخل باراديغمات القرون الوسطى، فقد رحل الرجل في الثامنة والسبعين وهو يلهج بذكر المخلّص يسوع، فلطالما كان يردد في سرّه ونجواه تلك الآيات الإنجيلية المأثورة: «سيُخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعةٌ يظنّ فيها كلّ من يقاتلكم أنه يقدّم خدمة لله». تحوّلت صورة جاليليو إلى إدانة صريحة للظلامية العمياء، وأضحت صورة محاكمته (سنة 1633) مبرّراً على تعارض العلم والإيمان في الأوساط الغربية، والواقع أن التعارض هو بين التزمت المتستّر بالدين، المستحوذ على التأويل الصائب للكتاب المقدس ونور العقل المنبثقة بشائره مع بدايات عصر الأنوار. فقد دارت مداولات المحاكمة حول تضارب النظام الأرسطي - البطليموسي والنظام الكوبرنيكي - الجاليلوي، وهو ما يتلخص في إقرار أصحاب الرأي الأول بمركزية الأرض وذهاب أصحاب الرأي الثاني إلى القول بمركزية الشمس.

المقدس وصراع التأويلات
ومما لا يخفى على متبصّر أن النظامين الفلكيين المشار إليهما يعبّر كلاهما عن رؤيتين متضاربتين ومتناقضتين كلّياً بشأن العالم، وما لهما من تبعات وجودية وفلسفية ولاهوتية، حيث يذهب البعض إلى أن إدانة جاليليو ما كانت عمّا أورده في كتابه وصرّح به، ولكن عن الشكل الذي وصف به الأشياء والإطار الذي وردت فيه. فقد كان جاليليو يناصر نظرية علمية ثورية، من شأنها أن تقلب الرؤية السائدة للكون رأساً على عقب، لاسيما أن الكنيسة الكاثوليكية ما انفكت تصرّ على قراءة حرفية للكتاب المقدس، تتضارب جملةٌ من مقاطعه مع الحقائق العلمية التي سبق أن أثارها البولوني نيكولاس كوبرنيكوس وتبنّاها ودعمها جاليليو. وهو ما كان له أثرٌ مباشر على انفصال التيولوجيا (المقولات الدينية المستوحاة من الكتاب المقدس) عن الكوسمولوجيا (علم نشأة الكون وسير نظامه)، أي انفصال علم اللاهوت عن المقولات العلمية في نشأة الكون ومساره. فنظرية مركزية النظام الشمسي تبدو على تضارب بيّن مع بعض الآيات الواردة في العهد القديم، مثل إيقاف نبيّ التوراة يشوع الشمس أثناء هزيمته الأموريين: «حينئذ كلّم يشوع الرب يوم أسلم الرب الأموريين أمام بني إسرائيل. وقال أمام عيون إسرائيل يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيلون. فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه» (سفر يشوع 10: 12-13)، أو ما ورد كذلك في سفر الجامعة: «دورٌ يمضي ودورٌ يجيء والأرض قائمة إلى الأبد والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق» (سفر الجامعة1: 4-5). والصواب أن اللغة الكتابية ينبغي ألا يقف مدلولها عند المستوى الظاهري، مع مراعاة الجانب البشري في ذلك الخطاب المطلق. إذ بالنهاية ليس خطاب الوحي الكتابي خطاباً علمياً، بل خطاباً خلاصياً إيمانيا، حيث يقول جاليليو «إن مقصد الروح القدس تعليمنا كيف نسير نحو السماء وليس كيف تسير شؤون السماء» موضّحاً مراده: «لا يخطئ الكتاب المقدس، ولكن اللاهوتيين هيّن أن يخطئوا إذا ما اقتصروا على المعنى الحرفي للكلمات».
لقد كان الجو العام الذي احتضن قضية جاليليو مشوباً بالتوتر، فقد جاءت محاكمة الرجل في أعقاب تداعيات حركة الإصلاح التي أبدت معها الكنيسة شراسة عالية، لما مثّله الاحتجاج البروتستانتي من كسر لحاجز احتكار المشروعية الدينية وتشكيك في عصمة البابا، بعد التفاف تيارات فكرية عدة حول مطلبيْ «لا وسيط للخلاص إلاّ المسيح» و«كلٌّ بنفسه كاهن»، فضلاً عن حدوث انشقاقات خطيرة في أوروبا لعلّ أبرزها حرب الثلاثين سنة (1618-1648م).
ومن هذا الباب ينبغي أن ندرك أن ما ألمَّ بجاليليو جراء نفيِه مفهوم مركزية الأرض، أي دوران الشمس حول الأرض، بل بالأحرى كان ناتجا بالأساس عن موقفه المناصر لشكلٍ جديد في فهم العالم ودور العلم في فهم هذا العالم. مثّلت الرياضيات والفيزياء في ذلك التحول، بالنسبة إلى جاليليو، مفتاحَ قراءة «كتاب الطبيعة» وفك طلاسمه. وهو الشكل الذي يتبوّأ به العلم الصدارة ويكون فيه القراءةَ الوحيدةَ الموثوقة والكفيلة بإصدار الأحكام وفرز الخطأ من الصواب بشأن ظواهر الكون ومجرياته. ولكن محنة العلماء في الغرب، في زمن كانت فيه المعارف العلمية في مستهلّ مسيرتها، لم تنحصر في ما أتته كنيسة روما من ظلم وجور، وقد كان العقل والعلم شريديْن منفِييْن. لم يكن موقف مارتن لوثر، مفجر حركة الإصلاح الديني، مناصراً ولا داعماً لِما قال به كوبرنيكوس من دوران الأرض حول الشمس. يقول لوثر في إحدى رسائله، مشيراً إلى كوبرنيكوس: «تسير الأمور الآن على هذه الشاكلة، من يودّ الظهور وادعاء الحكمة لا يثبِتُ ما فعله الآخرون، ولكن يأتي شيئاً عجباً، زاعماً أنه الأوحد الذي بمقدوره فعل ذلك. المجنون [في إشارة إلى كوبرنيكوس] يريد قلبَ النظام الفلكي كافة».

جاليليو وراتسينغر: عود على بدء
ما كان تاريخ (15 يناير 2008) يوما كسائر الأيام في جامعة روما لاسابيينسا، كبرى جامعات أوروبا التي تضم أكثر من مئة وعشرين ألف طالب، يوم أُعلن إلغاء زيارة البابا بندكتوس السادس عشر (جوزيف راتسينغر) بمناسبة افتتاح السنة الجامعية، بعد أن طفت قضية محاكمة جاليليو جاليلي على السطح بعد قرون. فقد سبق إلغاء الزيارة توقيع سبعة وستين أستاذاً من الجامعة المذكورة عريضة طالبوا فيها بإلغاء الدعوة وأشاروا فيها إلى خطاب راتسينغر (سنة 1990) لما كان كردينالا ومكلّفاً بـ«مجلس مراقبة العقيدة»، أعلى الهيئات القضائية في حاضرة الفاتيكان، الذي حمّل فيه جاليليو وزرَ ما جرى واستندَ في قوله على الفيلسوف الفوضوي بول فايرباند (1924-1994) لتمرير مراده. اعتبرَ راتسينغر أن الكنيسة كانت على صواب في مقاضاة جاليليو جاليلي، وأن محاكمة الرجل قد جرت في كنف التعقل والرصانة. الجلي في الأوساط الغربية أنّ المخيال الجمعي قد صعّد العالِم جاليليو إلى مقام عليّ، حتى أضحى علماً بارزاً على محنة العلم والفكر إبان اندلاع بشائر الثورة العلمية التي كانت في مستهل مسيرتها ثورة فلكية بالأساس، بشّرت بانبلاج العصور الحديثة. ذلك ما لاح جليّاً من خلال التململ الذي هزّ العقل الأكاديمي في جامعة روما.