د. فتحي المسكيني

وقعت محنة ابن رشد سنة 1195 في حقبة ما قبل الحداثة على خطّ تاريخي يمتدّ من إدانة سقراط سنة 399 ق.م. (بتهمة التجديف على آلهة المدينة وإفساد الشباب) إلى إدانة غاليلي سنة 1633 (من قِبل محاكم التفتيش التي اتهمته بالهرطقة لأنّه ناصر نظرية كوبرنيكوس عن مركزية الشمس). أمّا تهمة ابن رشد، كما هو مذكور في نص المنشور الذي تلا المحاكمة أو في سرديات المعاصرين له، فتتعلق هي أيضاً بالمسّ من دائرة المقدّس إمّا في شكله الديني، (حيث يُذكَر أنّه ضمّن أحد شروحه لأرسطو جملة تقول، «فقد ظهر أنّ الزهرة أحد الآلهة»)، أو في شكله السياسي (أنّه في شرح كتاب الحيوان لأرسطو قال عند ذكر الزرافة «وقد رأيتها عند ملك البربر» دون التفات منه إلى عادة الكتاب في تقريظ ملوك الوقت). ربما لا يخلو من دلالة أنّ هذه محاكمات رسميّة نعني تمّت تحت لواء السلطة الحاكمة، تلك التي تملك سياسة الحقيقة في زمانها، ولكن أيضاً أنّها موجّهة ضدّ شيوخ سبعينيين وليس ضدّ فتيان طائشين، ومن ثمّ هي خالية من أيّ مقصد تأديبي أو تربوي. إنّها إدانات مقصودة من أعلى هرم رمزي في ثقافة أو في عصر ما. وذلك يعني أنّها محاكمات بلا أفق أو لا تقبل أيّ نوع من التسوية، من فرط أنّها ناتجة عن تصادم بين سياستين للحقيقة، وليس عن مجرّد وشاية بين متنافسين داخل مدينة أو بلاط أو كنيسة.

المحنة في السرديات
إنّ محنة ابن رشد هي بالأساس، ومهما اختلفت سرديات المعاصرين لها، هي محنة فيلسوف وإن كان قد شاركه فيها من لم يكن من الفلاسفة، بل كان من الفقهاء وحتى من الشعراء. وحسب ابن أبي أصيبعة (ت. 1270) أنّ المنصور، «ملك البربر» أو كما صحّح ذلك ابن رشد «ملك البرّين»، قد «نقم» على ابن رشد مع «جماعة أخر من الفضلاء الأعيان.. وأظهر أنّه فعل ذلك بهم بسبب ما يدّعى فيهم أنّهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل». والفلسفة، هي كما تفهم نفسها منذ سقراط، دعوة إلى «العناية بالنفس» وهذا مطلب عزيز لا يتسنّى لأحد إلاّ إذا «عرف نفسه بنفسه». إنّ عنصر الخصومة مع فيلسوف هو واضح تماماً: إنّه يتعلق بمستوى المسؤولية الوجودية حول ذاته. وما كان يزعج الفقهاء في أيّ وقت وتحت أيّ اسم، ليس الإلحاد بل تحرير علاقة المؤمنين بأنفسهم. ولا يكون التفكير حقيقياً إلاّ بقدر ما يتعلق بقصد واحد: تحرير علاقة الناس بأنفسهم. وبالتالي لم يكن ممكناً تفادي محنة ابن رشد. إذْ لا يمكن حلّ مشكلة دينية أو سياسية بواسطة تسوية منطقية أو لغوية.
كان الجوهر الثوري للدين التوحيدي هو نزع الألوهة عن العالم وتحويله إلى مجال تسخير للبشر. هذا انتصاره على الوثنية. وهو قد نجح في ذلك لأنّه جعل للمؤمنين به مجالاً جديداً تماماً للإرادة هو مجال التعالي: إنّ البشر الذين يؤمنون بإله خالق، خلق العالمين من عدم، تترسخ حريّتهم الجذرية تجاه بقية الكائنات من حولهم لأنّها مجرّد آيات على الخالق الذي يؤمنون بوجوده. وحسب ابن رشد إنّ الشريعة لم تأمر بأكثر من تدبّر هذا البعد الأخلاقي الرائع، نعني التكريم الذي نالوه سلفاً بموجب أنّهم مدعوّون إلى تحمّل أمانة الاستخلاف على العالم من حولهم، وليس من وسيلة مناسبة لأداء هذا التدبّر وفهم كنه هذا التكريم مثل استعمال العقل، أي الاعتبار. وهو تعبير قرآني مهيب.

بين «الاعتبار» و«التكليف»
إلاّ أنّ هذا الوضع الأصلي للتكريم قد طمسه بعض الفقهاء وتحوّل الدين إلى تجارة سياسية لا يحتاج فيها المؤمن إلى عقله بل فقط إلى طاعته. وهنا نفهم مغزى تشبّث ابن رشد بالفلسفة: فإنّ الجوهر الثوري في الفلسفة هو نزع القداسة عن الدين وتحويله إلى مجال تأويلي مفتوح أمام العقول التي تتدبّر معانيه دون وجل أو خوف. إنّ الفلسفة هي فن الاستغناء عن القداسة في فهم مقاصد النص: لا يحتاج العقل إلى أيّ نوع من التقديس حتى يفهم! ولأنّه لا يمكن محاكمة العقل إلاّ بسلطة تتعالى عليه لجأ الفقهاء إلى خلق هالة تقديس غريبة عن الدين في أوّل أمره بوصفه في جوهره دعوة إلى التدبّر والاعتبار في الآيات وفي أنفسنا.
كان ابن رشد درساً أكثر منه نظريّة: هو درس في تشخيص الإشكال الذي يرهق العلاقة بين العقل والتعالي في عصر الملة، والذي مازال مستمرّاً إلى اليوم. ومحاكمة العقل هي مقام افتضاح التصادم السياسي على أرضية الملة بين الفلسفة والفقه، وهو سياسي فقط لأنّه في سرّه تصادر بين نمطين من «العقلنة»: بين عقلانية «الاعتبار» وعقلانية «التكليف»، وليس كما يُقال بين «العقل» و«النقل». أمّا رهان هذا النزاع فهو السؤال عمّن يحقّ له السيطرة على مجال التعالي لأنّه هو المضمار الذي تجري فيه المعركة بين مؤسسة الحقيقة وتجارب الحرية في كل عصر.

عداوة الفلسفة والفقه
لم تكن العداوة بين الفلسفة والفقه صداماً همجيّاً بين العقل والنقل، بل كان نزاعاً ذكيّاً ومركّباً بين تأويلين متنافسين على مجال التعالي، أي على نوع العلاقة مع الحقيقة. ولأنّ كل نوع من العلاقة مع مؤسسة الحقيقة يفترض تصوّراً سابقاً وعميقاً عن السلطة، فإنّ نزاع التأويلات حول مجال التعالي هو دوماً وسلفاً مشكل سياسي، حتى وإن كان غير مطروح أو معرَّف على أنّه كذلك. وإنّ المشكل السياسي هو في أعماقه ومنذ أوّل أمره نزاع حول الحقيقة، أي حول الطريقة المناسبة للسيطرة على مجال التعالي الذي يشتقّ منه البشر كلّ أنواع الحرية التي يصبون إليها. ومن هنا يتأتى أنّ كلّ تفكير حرّ، أي كلّ تدبّر أو اعتبار للتكريم الإلهي للبشر، هو يوحي سلفاً بأنّه ينطوي على خطر ضمني أو صريح على مؤسسة الحقيقة السائدة. كلّ تفكير حرّ هو منافسة على تمثيل الحقيقة في ثقافة ما. وهي منافسة تتمّ دوماً مع «الشريعة» السائدة، أي مع الشكل القانوني السائد لحراسة مؤسسة الحقيقة. وهو أمر لا يتحقّق أبداً إلاّ بقدر ما تنجح تلك الشريعة هي بدورها في تطوير جهاز العقل داخلها. ولذلك فإنّ العقل ليس حرّاً بالضرورة. لكنّه جهاز مؤسساتي دوماً.
وهكذا فإنّ محنة ابن رشد ليست محنة العقل بل محنة الحرية. لم يكن استعمال العقل لدى ابن رشد يمتلك أيّ تفوّق إيبستيمولوجي على جهاز العقلنة الذي تأسّس عليه الفقه. وما تمّت محاكمته أو نفيه إلى أليُسانة، مدينة اليهود، ليس العقل، بل الجرأة على النظر في الموجودات على نحو يخرق محظورات الفقهاء عن الاقتراب من مجال التعالي من دون وصاية أو حراسة رمزية من مؤسسة الحقيقة السائدة. لم يكن ابن رشد خطراً على منطق الملة لأنّه استعمل العقل وليس النقل (فالفقهاء أيضاً عقلانيون بشكل مفزع) بل لأنّه تجرّأ على ممارسة نوع غير ديني من التدبّر والاعتبار لمجال التعالي، بحثاً عن الحقيقة ما وراء التكاليف الفقهية.

محاكمة الحرية
ومع ذلك لم يكن مشكل ابن رشد هو دحض الدين، بل إنقاذ حقيقة النص من المأزق الميتافيزيقي الذي فرضه الفقهاء: إفراغ مجال التعالي من الاعتبار أي من حرية البحث عن الحقيقة بأنفسنا. والفلسفة هي حراسة إمكانية الحقيقة المتاحة في ثقافة ما، لكنّ محاكمة ابن رشد، والتي تمّت في المسجد الجامع الأعظم في قرطبة، وتحت نظر الخليفة وخطبة القاضي، قد فضحت كلّ وعود الملة عن الحقيقة: أنّ «دين الفقهاء» لا يقبل مخالطة مجال التعالي إلاّ بعد إفراغه من الاعتبار، أي من حرية الناس في معرفة أنفسهم. لم تكن محاكمة للفلسفة اليونانية بل محاكمة لحق المؤمنين في التفكّر الحرّ من أجل اقتراح علاقة خاصة بمجال التعالي الذي نبّه عليه الوحي. و«نكبة ابن رشد» (كما سمّاها بنفسه) قد بيّنت أنّه لا معنى لمحاكمة الإلحاد لأنّه سيكون عندئذ تديّناً بلا موضوع، بل ما تتمّ محاكمته في كل مرة باسم الملّة هو حرية الاعتبار لأنّها تضع مؤسسة الحقيقة السائدة موضع امتحان. كان طموح ابن رشد هو نفسه طموح الفلاسفة في عصور نهاية الملة، طموح سبينوزا اليهودي أو كانط المسيحي لاحقاً: توسيع مساحة الاعتبار حتى تشمل جميع الأمم ويصبح النظر في الموجودات بعامة، نظراً بالنيابة عن جميع الإنسانية.
إنّ المحاكمة نزاع رمزي حول أحقّية التمثيل: من يمثّل أو من يحقّ له أن يمثّل سلطة الحقيقة في أفق الملة؟ وكلّ مفكّر «حقيقي» -أي بصدد تطوير نظرية عن الحقيقة- هو منافس استراتيجي لنظام الحقيقة السائد في أذهان شعب أو مجتمع ما، ولكنّ ذلك يعني أنّ محاكمة المفكّرين ليست خطأ أخلاقياً طالما هي تجربة حاسمة في علاقة كل ثقافة بنفسها، أي بقدرتها على حماية ادّعاء الحقيقة الذي يبرّر وجودها التاريخي من الداخل. ولا معنى لأن نرفض محاكمة مفكّر ما طالما أنّ هذه المحاكمة هي ليس فقط الدليل الوحيد على أصالة تفكيره، بل هي الفرصة التاريخية الحاسمة التي تعلّم شعباً أو مجتمعاً «حدود» سياسة الحقيقة داخله. إنّ ابن رشد ليس شخصاً بل موقف كان لابدّ أن يظهر في نطاق الملة كما ضبطها بعض الفقهاء. ومن أراد أن يكتب تاريخ الحقيقة في مجتمع ما عليه أن يضع أفقاً لفهمه تاريخ محاكمات الفكر الحر التي حدثت في نطاقه. فكلّ محنة يتعرض لها مفكّر أو عالم أو كاتب أو شاعر أو حتى نبيّ، هي لا تعدو أن تكون طوراً من أطوار فكرة الحقيقة وعلاقة الناس بالحقيقة في ثقافة ما. لا تتطوّر فكرة الحقيقة إلاّ بقدر ما تتعرّض إلى محاولات التحرّر من سلطتها.

معارك الحقيقة القصوى
لقد آن الأوان أخيراً لكتابة تاريخ الحقيقة الذي تأسّست عليه كل تجارب أنفسنا العميقة إلى حدّ الآن. ولعلّ أوّل إجراء عاجل من شأنه أن يساعدنا هنا هو كتابة تاريخ محاكمات الفكر والمفكّرين التي حدثت في ثقافتنا منذ تحوّلها إلى مؤسسة رمزية تدافع عن نفسها. أجل، بعض الشعوب ربما لم تعرف محاكمات فكرية لأنّها توجد خارج تاريخ العقل. ولذلك ليس تهمة أخلاقية أو حضارية أن تحدث محاكمات؛ لكنّ التهمة في أن يؤدي ذلك إلى هزيمة العقل. ذلك أنّ بعض الانتصارات تحتاج أولاً إلى حدوث المعارك القصوى، نعني معارك الحقيقة. ولم تكن محنة ابن رشد إلاّ واحدة من تلك المعارك التي لم نؤرّخ لها بعدُ إلاّ عرضاً.