بلقيس.. التاريخ والأساطير
الزمن الذي ادُّعي فيه أن العرب لم تعرف أي حضارة قبل الإسلام مضى بعد أن أثبتت التنقيبات الأثرية عن قيام عدة ممالك، بمعنى دول بالتعبير المعاصر، جنوب غربي شبه جزيرة العرب وجنوبيها، إضافة إلى مجتمعات مماثلة في غربيها، أي في بلاد الحجاز.
العرب أنفسهم لم يعرفوا أنفسهم باسم إثني جامع [يرادفه في اللغة الإنجليزية الحديثة مصطلح (panethnicity) المستحدث في أوائل تسعينيات القرن الماضي، والأفضل، في ظننا، من المصطلح (جنس/ race).
أما موقع بلاد العرب وجنوبيها الذي عُرف لدى الإغريق والرومان، بما يعني بالعربية «بلاد العرب السعيدة» المتميز في العصور القديمة، فمن الأمور المعروفة الآن ولا جدال في هذا، ذلك كله كان بسبب تحكمها في طرق التجارة بين الشرق والغرب واحتكار أهلها إنتاج وتجارة اللبان والبخور، الذي كان يعرف بأنه «طعام الآلهة ambrosia»، إضافة إلى تجارة التوابل، وغيرها من المنتوجات الثمينة الغرائبية من منظور الغرب، مع آسية في تلك العصور، وإطلالتها على كل من البحر الأحمر والتحكم في مضيق باب المندب، وكذلك على بحر العرب،
إضافة إلى العلاقات مع مختلف أقاليم البلاد وممالكها، بما منحها
تحكم في طرق المواصلات البحرية.
«بلاد العرب السعيدة» شهدت ولادة ممالك
عديدة قوية تركت آثارها إلى الآن، منها حِمير وعاصمتها شبوة، وقتبان وعاصمتها تمنة، ومعن وعاصمتها قرناو، وغيرها، لكن ما يهمنا لهذا المقال هو سبأ وعاصمتها مأرب.
وعرف الإقليم قيام ممالك تحكمها نساء حيث تضع النقوش العائدة للملك الآشوري سرجون الثاني (716 ق ت س) وخليفته سنحاريب، كرب إيل ملك سبأ جنباً إلى جنب مع ملك مصر وملكة العرب.
ما يهمنا أيضاً في هذا المدخل هو آلهة العرب الجنوبيين الرئيسة، التي عُثر على آثارها في كل أنحاء بلاد جنوب المتوسط وشرقه، إضافة إلى جزيرة ديلوس اليونانية، وتم ربطها ببلقيس.
فها هو الهمداني يقول: «اسمها يَلمَقَة، على وزن يعملة، وتفسيره: زُهرَة؛ لأن اسم الزُّهرة في لغة حِمْيَر: يَلمَقَة وألمَق، واسم القَمَر: هَيْس»، لكنه أخطأ في هذا، إذ إن الحفريات ذات العلاقة تفيد بأن القمر وليس كوكب الزُّهرة عرف في السبئية باسم (ألمَقَة).
لكنَّ الإخباريين العَرَب عرفوا بَلْقيس- مَلِكَة سَبأ، بعدة أسماء أخرى هي بلقمه، بلقمة، بلقه، يلقمة، يلمقة، ألقمة، وألمقه... إلخ.
الرواة اختلفوا أيضاً في وطن بلقيس فهو أيرم، وسبأ وصِرواح، وسلحون، وغيرها.
واختلفوا أيضاً في تحديد مكان دفنها، حيث نجد أن بعضهم، مثل ابن الأثير (توفي عام 1232 التاريخ السائد - ت س)، يقول: إن ذلك كان في تَدْمر، بينما يشدِّد الهمداني صاحب ‹الإكليل› على أنها دُفنت بمَأْرِب.
ومن الأمور البديهية لي، أن الإخباريين العرب عرفوا أكثر من «بلقيس» وأكثر من نسب، بل هناك من الرواة من نفى صحة الاسم بلقيس، ومنهم من رفض رفضاً قاطعاً الادعاء بأنها من الجن، وما إلى ذلك من الأساطير والميثولوجيا، وهناك منهم من رفض حتى القول: إن اسمها يلمقه... إلخ.
روايات عن بلقيس
المساحة المتوافرة لنا لا تسمح بمزيد من الإسهاب في هذا المدخل، لذا ننتقل الآن إلى بعض الروايات عن بلقيس، مع التركيز على المقاطع التي تساعدنا في فهم التناقضات والاختلافات آنفة الذكر، وتمييز الرواية من القصة، ومن التاريخ، ومن الأسطورة والميثولوجيا. روايات عن بلقيس تقول:
لما ولي عمرو ذو الأذعار، أمه العيوف بنت الرابع الجِنيّة المُلك في حِمْيَر قهر الناس وذعرهم بالجور، فلا رفق لقريب ولا بعيد، وأسرف على العَرَب بالسلطان، وشرَّد الناس ووسم من سخط عليه بالنار من أبناء المُلُوك، وبدّل على الناس السيرة التي كانوا عليها يُعْرَفون، ذُعِرَ الناس منه ذعراً شديداً، وبه سُمِّي عَمْراً ذا الأذعار. وكان يزني ببنات المُلُوك من حِمْيَر، فَيُؤتْى بهن أَبكاراً وغيرَ أبكار، فكن يَشْربنَ معه الخَمْر وكان ينادمهن، ثم يُصيبُ منهن حاجته. فلما فعل ذلك بحِمْيَر كرهوا أيامه وأبغضوا دولته...
.. ثم رجع عمرو ذو الأذعار إلى غمدان ورجع شرحبيل بن عمرو إلى بينون، وأقام هناك في الُملْك عاماً، ثم مات. وولي ابنه الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو، وهو الهدهاد أبو بَلْقيس المَلِكَة باليمن، وكان الهدهاد بن شرَحبيل رجلاً شجاعاً حازماً. وقيل: هو الهدهاد (هَدَاد أو هدَّاد) بن شرح بن شرحبيل بن الحارث بن الرايش. وقيل: هو شرحبيل بن عمرو... بن يعفر بن سكسك. وقيل: هو الهدهاد بن ذي شرح بن ذي جدن.. بن يعرب بن قحطان...
[لنقطع السرد هنا ونتذكر قول ابن حزم الأندلسي: «وفي أنسابهم اختلاف وتخليط، وتقديم وتأخير، ونقصان وزيادة. ولا يصح من كتب أخبار التبابعة وأنسابهم إلا طرف يسير، لاضطراب رواتهم وبُعدِ العهد» - ز م].
واختلفوا في سبب وصوله إلى الجِن حتى خطب إليهم، فقيل: إنه خرج للصيد فنظر إلى شجاع أسود عظيم هارب، وفي طلبه شجاع رقيق أبيض فأدركه فاقتتلا حتى لغبا [أي: تعبا] ثم افترقا، ثم أقبل الشجاع الأبيض إلى الهدهاد فتشبث بذراع ناقته حتى بلغ رأسه إلى كتفها ففتح فمه كالمستغيث، فرد الهدهاد يده إلى سقائه. فصب الماء في فيه حتى روي، ثم عطف في طلب الأسود فأدركه فاقتتلا طويلاً فلغبا فافترقا، وأقبل الشجاع الأبيض إلى الهدهاد كما فعل أولاً كالمستغيث فصب الهدهاد الماء في فيه حتى روي، ثم أقبل على الأسود وأخذه، فلم يزل الأبيض حتى قتل الأسود، ثم مضى على وجهه حتى غاب عنه.
ومضى الهدهاد إلى شِعْب عظيم فاختفى فيه، فبينما هو مستتر بشجر أراك، إذ سمع كلاماً فراعه ذلك فسلَّ سيفه، فأقبل إليه نفر من الجان حسان الوجوه عليهم زيٌّ حسن فدنوا منه فقالوا: عِمْ صباحاً يا هدهاد. لا بأس عليك، وجلسوا وجلس. فقالوا له: أتدري من نحن؟. قال: لا. قالوا: نحن من الجِن ولك عندنا يد عظيمة. قال: وما هي؟ قالوا له: هذا الفتى أخونا من أبناء ملوكنا هرب له غلام أسود فطلبه فأدركه بين يديك فكان ما رأيت وفعلت، فنظر الهدهاد إلى شاب أبيض أكحل في وجهه أثر خدش. قال له: أنت هو؟ قال: نعم، قالوا له: ما جزاؤك عندنا يا هدهاد إلا أخته نزوِّجها منك.
وفي رواية أخرى أنه كان لهجاً بالصيد فربما اصطاد الجِن على صورة الظباء، وأنه رأى أن يخلي عنهن، فظهر له ملك الجِن وشكره على ذلك، واتخذه صديقاً فخطب ابنته فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن، وهي رواحة بنت سكن. وقال كثير من الرواة: إن أمها جنّيّة ابنة ملك الجِن، واسمها رواحة بنت السكر. وقيل: اسم أمها بلقمة بنت عمرو بن عمير الجِني، وقيل أيضاً: اسمها ريحانة بنت الشكر، وقيل: هي من الجِن، ويقال لها يلغمة بنت شيصبان.
.. ثم جمعت الجيوش العظيمة وسارت إلى مكة فاعتمرت، ثم توجهت إلى أرض بابل فغلبت على من كان بها من الناس، وبلغت أرض نهاوند وأذربيجان والصين، ثم قفلت إلى اليمن.
ومن الأعمال العمرانية التي قامت بها بَلْقيس ورفعت مجدها إلى أبعد صيت، ترميمها سد مَأْرب الذي كان الزمان قد أضره وخلخل أوصاله. وينسب إليها أيضاً قصر بَلْقيس الذي بمَأْرِب، وكان سُليمان ينزل عليها حين تزوجها فيه إذا جاءها. قالوا: فلما ملكت بَلْقيس اتخذته قصراً وعَرْشاً.
في نص واحد
الآن، وقد عرضنا بعض الروايات العَرَبية ودمجناها في نص واحد، يتبيَّن، بلا شك، أننا إزاء مزج بين عدة قصص وشخصيات رُبط كل منها ببَلْقيس.
المهم الآن تأكيد الآتي: ثمة من الرواة من يرفض أصول بَلْقيس الجِنية رفضاً قاطعاً، بينما نجد من يتمسك بذلك. ونحن نظن أنه وجد في بلاد العَرَب حكاية تناقلها العَرَب تقول: إن بَلْقيس مَلِكَة سَبأ، كانت من الجِن، وهذه هي بَلْقيس الأُسْطُورة والخُرَافة أي الميثولوجيا. وثمة اختلاف في اسمها ونسبها ووضعها الاجتماعي سببه المزج بين أُسْطُورة بَلْقيس وقصة مَلِكَة سَبأ، وهذه بَلْقيس القصة والرواية والتَّاريخ، وهناك من ربطها ببابل ونهاوند وأذربيجان والصين... إلخ، وهناك من يتجاهل هذه المسألة، وهذه بَلْقيس[!] الفاتحة. وأخيراً من الرواة من ربط بناء الصروح والقصور في غمدان وسلحين... إلخ، بسُليمان وبَلْقيس، بينما يقول آخرون غير ذلك، وهذه بَلْقيس المعمرة، وهذا الجانب مرتبط بالنقطة السابقة، علماً بأننا نوظِّف بلقيس هنا كاسم جامع ليس غير.
التباينات الجوهرية بين الروايات التي أشرنا إليها، وسردنا قسماً منها تفرض فرز الأُسْطُورة/ الخُرَافة من مَلِكَة حكمت في سَبأ وأُطْلِقَ عليها اسم أو صفة بَلْقيس، عن قصة أو قصص مَلِكَة أو ملكات أخريات على سَبأ، عُرِفن أيضاً بأن اسمهن بَلْقيس، ثم دُمِجْنَ في شخصيةٍ واحدة عُرِفَتْ بأنها مَلِكَة سَبأ التي أسلمت، وربطت بما جاء في سورة النمل.
نعود لنذكِّر القراء بحقيقة أن روايات بَلْقيس تحوي أربعة مكونات هي القصة والتَّاريخ والأُسْطُورة والخُرَافة، وهي تحكي عن أكثر من «بلقيس» واحدة.
نبدأ بتقصي أُسْطُورة وخُرَافة بَلْقيس بفرز ما نرى أنه نص أُسْطُوري وخرافي في الرِّواية المسردة آنفاً عن باقي المكونات، ثم نقوم بتحليلها اعتماداً على معارفنا اللغوية وربطها باللُّقَى الأثرية في اليمن، وسنرى إن كانت هذه المنهجية ستدعم فهمنا وتقييمنا لمجمل الرِّوايات.
في ظننا أن رواية بَلْقيس: الأُسْطُورة والخُرَافة التي سجّلها نَشْوان الحِمْيَري في مؤلفه ‹ملوك حِمْيَر وأقيال اليمن› عن لِقَاء أبي بَلْقيس بأمها تشبه الرواية السابقة، لكن هنا نرى الظبي والغزال والذئب بدلاً من الثعبان، كما نرى فيها إضافة تتعلق بانتشار مُلك أبي بلقيس إلى يبرين وعدن.
لكن فهم المغزى التراثي لهذه الأساطير والخرافات يستدعي معرفة بعض جوانب الحياة الدينية في الإقليم، ومعرفة أسرار بعض الأسماء الواردة فيها، أي: الهدهاد، الغزالة، الحرورى، اليلب (التالب؟) والصعب.
اللُّقَى الأثرية في اليمن تثبت أن العَرَب الجَنوبيين عرفوا التعبّد لكثيرٍ من الآلهة، يهمنا منها هنا الثالوث: القَمَر والشَّمس والزُّهرة. أما الأول فهو (ألمقه) أي: القَمَر، بعربيتنا، والذي كان الاسمَ الرسمي لمملكة الآلهة في سَبأ. وقد ارتبط هذا الإله أحياناً بمواقع محددة مثل نَجْران ومدر وناعط وجبل ألو وأوام وصرواح، حيث وجدت أمكنة عبادة في المناطق المرتبطة به. ولا تزال هناك آثار معبد بيضاوي الشكل قائمة آثاره حتى يومنا هذا في منطقة أوام قرب مَدينَة مَأْرِب التَّاريخية. كما وجد نقش يشير إلى ألمقه بصفته إلهَ الأرض البعلية، وثورها إذ عدَّ ذلك الحيوان رمزاً للخصوبة، وهو يذكرنا بالإله (بعل هدد) الذي حَمَل الصفة نفسها.
كما تعبَّد العَرَب الجَنوبيون للشَّمس (شمس) التي اكتَسَبت، وعلى عكس ما كان سائداً في مناطق أخرى من المشرق العَرَبي، صفة التأنيث.
أما الإلهُ الثالثُ الذي سَادَت عبادته في جنوبي بلاد العَرَب ومرتبط بالرِّواية، فكان الزُّهرة الذي عُرِفَ هناك إلهاً ذكراً تحت اسم (عثتر) الذي تبوّأ المكانة الأولى في المعبد الوثني العَرَبي الجَنوبي قبل القَمَر (المقه) والشَّمس (شمس). كما ارتبطت به مهام كثيرة منها رعاية السلام، والحرب، والقوة، وكان عباده يُقدّمون له الأضاحي لكسب رضاه حتى يستمر في رعاية الأراضي وسقايتها في فصلي الرّبيع والخريف. وهناك رأي بأن من مهامه الأخرى رعاية الأراضي المروية اصطناعياً، أي عبْر السدود والقنوات.
وقد عرف الإله عثتر بالعديد من الألقاب منها راعي السهول (الجوف) والتلال المحيطة، وراعي المياه المنحدرة (الوديان؟). أما الحيوان المقدس المرتبط بعثتر فقد كان الوعل، أي التَّيْس الجبلي، والذي كان يُعْرَفُ في بعض الأحيان بالعلاقة مع الظبي/ الظبية، أو الغزال/ الغزالة، وورد اسمه أيضاً مرتبطاً مع الإله عثتر.
بقايا تقديس الوعل لا تزال سائدة في بعض مناطق اليمن وحَضْرَمَوت حتى يومنا هذا؛ إذ تقضي عادةٌ متبعة بوضع قَرْني وعل على أبواب المباني وشواهد المقابر. وكان الحيوان المقدَّس الآخر المرتبط بالتعبد للقمر عند بعض العَرَب الجَنوبيين وخصوصاً في منطقة صرواح، هو الثعبان، ربما بسبب التواء جسده ليأخذ شكلاً دائرياً (القَمَر) أو نصف دائري (الهلال).
الأخبار عن هذا التعبد ترد أيضاً في كتابات من خارج الإقليم، حيث سجل أريان مؤرخ حملة الإسكندر المقدوني، التالي: «.. كما أُبلغ الإسكندر [المقدوني - ز م] عن مدينتين في البحر قرب مصب نهر الفرات. ولم تبعد الأولى عن المصب، حيث وقعت على بعد خمسين ومئة (ستادٍ) من الشاطئ وكانت مغطاة بغابات كثيفة. كما وُجِدَ فيها معبد لأرتيمِس تَعبَّد له السكان على نحو يومي. كما وجد فيها ماعزاً برياً والشمواة التي عُدت مُقدّسة لأرتميس؛ إذ إنه لم يسمح لأحد بصيدها، هذا باستثناء أولئك الراغبين في تقديمها قرابينَ للآلهة، وذلك كان العذر الوحيد لصيدها الذي كان ممنوعاً. ووَفق ما ذكره أرسطبول، أمر الإسكندر بأن يُطْلَق عليها اسم إكاروس (Ikarus) وهو اسم جزيرة في بحر إيجة».
ومن الجدير بالذكر أنه عُثِرَ في منطقة الخليج العربي، وفي جزيرة فيلكة تحديداً، على نقوش تُظْهِر الغزال أو الظبي، وهذا يقدِّم دليلاً أثرياً لا شك فيه عن صحة ما كتبه أريان.
الآن، وقد أوضحنا باختصار شديد دور تلك الآلهة في الهيكل الوثني العَرَبي الجَنوبي وعلاقاتها ببعضها، وكذلك علاقاتها مع بعض الحيوانات المُقدّسة، يمكننا الانتقال إلى تحليل وتعريف العناصر المشاركة في تركيب الخُرَافة/ الخرافات المشار إليها آنفاً، بما يمكّننا، على ما نظن، من فهم الرِّواية وأبعادها.
العنصر الأول الذي نتناوله بالحديث في مكونات الأساطير والخرافات آنفة الذكر هو اسم والد بَلْقيس، أي الهدهاد/ الهدهد، عِلماً بأن بعض الإخباريين، عدّوه لقباً. ولا شك في أن ذلك سهل على بعض الإخباريين والمؤوِّلين دمج أُسْطُورة وخُرَافة بَلْقيس التي استعرضناها آنفاً، بمَلِكَة سَبأ التي عرفت بأنها هي المذكورة في سورة النمل؛ إذ يؤدي الهُدْهُد دوراً في القصة القُرآنية.
أما الهُدْهُد فهو وفق صاحب ‹لسان العرب›، في باب هُدَد: والهدَهَد أصوات الجِن ولا واحد له. ولأن أُسْطُورة بَلْقيس تربط والدها بالجِن عبر القول: إن هدف تصيُّده كان البحثَ عن زوجةٍ من الجِن، فما لا شك فيه أن هذا تحديداً ما أعطاه اللقب (الهدهاد) وهو ليس الهُدْهُد الطائر.
وعندما التبس الموضوع على بعض الرواة في مرحلة لاحقة وجرى مزج بين بَلْقيس الأُسْطُورة والخُرَافة من جهة، وقصص ملكات حكمن في اليمن دُمِجن في شخصية واحدة، عُرِفَتْ بأنها هي ملكة سبأ الوارد ذكرها في القُرآن، كما حدث اختلاط في الرِّواية؛ إذ جرى تعريف والدها باسم الهدهاد، وهو الشيء ذاته الذي حدث مع اسم ابنته.
إذاً نقول هنا: إنه لا علاقة بين الهدهاد، والد بَلْقيس، والهُدْهُد الطائر. فالهدهاد صفة أو لقب أُلحِق بوالد بَلْقيس بسبب ارتباط اسمه بالجِن، بل إنه نفسه ينتمي إلى عالم الجِن، وهذا تحديداً ما يجعل الرِّواية خُرَافة أو ميثولوجيا. ونجد دعماً لرأينا هذا في حقيقة أن اللُّقَى الأثرية التي عُثر عليها حتى الآن في اليمن لا تشير إطلاقاً إلى الهُدْهُد، لا كطائر ولا كاسم علم.
العنصر الثاني في رواية بَلْقيس الأُسْطُورة والخُرَافة هو الغزال، عِلماً بأنّ روايات أخرى تقول: إن أم بَلْقيس ظهرت لأبيها الهدهاد على هيئة ظبية، وهو ما نراه إثراءً لمختلف الروايات. وما يشرح هذا التناقض الظاهري والثانوي، قول الدميري صاحب كتاب ‹حياة الحيوان الكبرى›: إن الغزالة «.. الظبي الغزال، والأنثى ظبية.. (التعبير) الظبي في المنام امرأة حسناء عربية، فمن رأى أنه يملك ظبية بصيد فإنه يملك جارية بمكر وخديعة أو يتزوج امرأة..».
أما الالتباس بخصوص طبيعة أُم بَلْقيس كما ظهرت لأبيها الهُدْهُد، فكتاب الدميري يساعدنا مرة أخرى في الشرح والفهم بقوله: «.. الظباء ذكور الغزلان، والأنثى الغزال، قال الإمام: وهذا وهم فإن الغزال ولد الظبية إلى أن يشتد ويطلع قرناه». هذا يوضح في رأينا خلفية الالتباس بخصوص طبيعة أم بَلْقيس.
أما القول: إن اسم أم بَلْقيس (الحرورى)، فيعني في ظننا (الجِنية)؛ لأن المعاجم العَرَبية تقول: إن الحرة هي: الجان من الثعبان. وهنا نذكر أن الرِّواية الأخرى عن كيفية لِقَاء والد بَلْقيس بأمها، حيث ظهر له أخوها على هيئة ثُعْبان.
ما يخص اسم والد أم بَلْقيس، المسمى اليالب بن صعب، ففي ظننا أنه حدث تَصْحيف عند كتابة الاسم، ووجب أن يكون التلب أو التالب، وإذ ثبت تخميننا، نرى أننا عثرنا على إثراء جديد للأُسْطُورة حيثُ عُرِّفَ التالب، أي: الظبي، في النقوش العَرَبية الجَنوبية بأنه (سيّد الحيوانات). أما العَرَب فقالت: إن التالب هو الوعل، أي التيس الجبلي الذي يسكن شعاب الجبال، والأنثى تالبة. ورُوي أن مأوى الوعول الجبال فلا يكاد الناس يرونها سائحة ولا بارحة إلا في الدهر مرة. وفي حالة عدم حدوث تَصْحيف، وهو شيء لا يمكن كشفه الآن، يبقى الاسم اليالب (اليلب) وثيق العلاقة بالرِّواية الخرافية؛ لأن المعاجم العَرَبية تعرِّف الأخير بأنه (درع من جلود الحيوانات).
وقد وردت إشارات في بعض النقوش اليمنية تلقب التالب بالظبي. وإذا تذكرنا حقيقة أن صيد تلك الحيوانات كان عملاً قدسياً مرتبطاً بنمط من التعبّد الوثني، فإن هذا يشرح ربطها بآلهة محددة. ومن الجدير بالذكر أن تالب، سيد الحيوانات، قد ارتبط في بعض مناطق اليمن بالإله القَمَر، أي ألمقه، وهو يَشْرَح، في رأينا، رَبْط الإخباريين العَرَب بَلْقيس بالمقه، وتعريفها به.
لكنه عُثر على نقوش عربية جنوبية لا تصف (تالب/ تألب) هذا بأنه سيد حيوان معين، وإنما تعطيه لقباً آخرَ مرتبطاً بالمروج، وفي نقوشٍ غيرها بأنه: سيد قطعان المواشي قرب المدن، وأيضاً: سيد المروج الخضراء، وهذا ربما يشرح أن والد أم بَلْقيس، وفق الرِّواية الثانية، كان ملكاً على مَدينَة مَأْرِب، غير المرئية، التي ظهرت لوالد بَلْقيس، علماً بأن الراوي أسهب في وصف خيراتها، ونحن نعثر بالقول: إنها كانت مَدينَة غير مرئية، على ذاكرة شَعْبية وحنين إلى أيام كانت فيها مَأْرِب بلاد الخير. أما اختفاؤها في الرِّواية فمرتبط على ما يبدو بكارثة طبيعية من زلازل أو جفاف أو فيضانات أو انهيار سدٍّ ما، وتدمير المنطقة المحيطة به وهجر سكانها، وهذه ظواهر طبيعية حقيقية تاريخية معروفة ومثبتة أثرياً في الإقليم.
وتُعرِّف كِتَابات الإخباريين العَرَب الصعَب بأنه طائرٌ صغيرٌ، والجمع صعاب. ونقرأ أيضاً أن الحر هو اسم ولد الظبية وولد الحية أيضاً. وباستشارة اللُّقَى الأثرية في اليمن نجد أن الوعل الملقب بالغزال، كان من الحيوانات المُقدّسة في سَبأ. كما نلاحظ أن الإله العَرَبي الجَنوبي (ألمقه) أطلق عليه في النقوش التي عثر عليها في صرواح اسم (سيد الجدي).
هذا جعلنا نرى أن هذه خُرَافة تشير إلى العلاقة بين تلك الآلهة من جهة، والحيوانات المُقدّسة المرتبطة بها من جهة أخرى. ويبدو أن النص يشير إلى مرحلة جرى فيها التخلي عن التعبّد للشَّمس، الإلهة الأولى، لمصلحة القَمَر، وهو يشرح مسألة أن أم بَلْقيس ظهرت للهدهاد على شكل غزالة أو ظبية. وبصرف النظر عن الرسالة التي أراد الرواة نقلها، وهي مسألة ثانوية، نرى أن هؤلاء العَرَب الجَنوبيين عرفوا جوانب من تاريخهم الأول وبعضاً من تراث أجدادهم، لكنهم لم يكونوا قادرين على التعبير عنه بسرد واضح، ربما بسبب إشكالات التواتر الشفهي لذلك التَّاريخ وبعده. وهذا بالضبط ما أطلق مخيلتهم الشَّعْبية ليحافظوا على بعض جوانب ذلك التراث في هذه الميثولوجيات الرائعة.
ونلاحظ أن النص يقول: إن أم بَلْقيس، أي جدتها لأمها، كانت شمس التي كانت مع ياسر ينعم بوادي الرمل الذي تُنْسَب إليه فتوحات عظيمة؛ إذ قيل: إنه وصل إلى آخر الأرض. وبكلمات أخرى، تقول الرِّواية الأُسْطُورية الخرافية: إن الأخير كان يتعبد للشَّمس والذي انتشر «إلى آخر الأرض»، وهو في رأينا سبب الإشارة إلى جَدة بَلْقيس من أمها، وهو شيء غير معروف في نصوص أخرى. لذا نرى أن هذه الرِّواية تتحدث، بالرموز، عن عملية انتقال من التعبّد للشَّمس إلى التعبّد للقمر، وهو ما يعبِّر عنه قيام والد بَلْقيس بمحاولة صيد ظبية، أو غزالة التي عرفنا أنها كانت من حيوانات ألمقه، أي القَمَر، المُقدّسة. وعند الانتقال إلى التعبّد للقمر، ظهرت مَدينَة مَأْرِب الخضراء والثرية. وقد سجل نَشْوان الحِمْيَري في كتاب ‹شمس العلوم› أن الهدهاد، والد بَلْقيس، أوصى بالُملْك من بعده إلى ياسر ينعم، صاحب شمس، لكن بَلْقيس هي التي تسلّمت السلطة بعد وفاة أبيها، وهذا يعني في رأينا أن التعبّد للقمر هو الذي انتصر في نهاية الأمر.
أما القول، في نصوص أخرى، أن ياسر ينعم، كائناً من كان، ردّ المُلك إلى حِمْيَر بعد وفاة سُليمان، فمعناه أنه أعاد التعبّد للشَّمس في قومه.
وهناك نص آخر يقول: إن بَلْقيس تمكنت من قتل عمرو ذي الأذعار أبي ياسر ينعم الذي وُصِفَ بأنّه: الرجس الجائر، أي الذي كان يتعبد للشَّمس ويفرضها على قومه، ما استدعى وصفه بأنه جائر، وهو أيضاً سَرْد بالرموز عن انتصار التعبّد للقمر بدلاً من الشَّمس، طوعياً كان ذلك أو قسرياً.
من الجفاف إلى الخصوبة
لكن وجود نصوص أخرى تتحدث عن زواج بَلْقيس بملك همدان يعني، في رأينا، انتقال التعبّد للقمر إلى منطقة همدان، وهو الشيء ذاته الذي تعبِّر عنه المطالبة بالمنطقة الواقعة بين يبرين وعدن، والمنسوبة إلى اليلب (التالب) بن الصعب والد بَلْقيس.
أما الاختلافات في مسألة هُويَّة زوج بَلْقيس ومصيرها فيعود، في رأينا، إلى أنه كان لكل إقليم باليمن تاريخه القبلي الخاص وتعبّده المختلف أحياناً عن نظيره عند جيرانه.
إن رسالة هذه الأُسْطُورة/ الخُرَافة، أي خُرَافة بَلْقيس وشمس وياسر ينعم، التعبير عن حنين إلى أيام الخصوبة والثراء، وهو ما يعبِّر عنه أن مَدينَة الجِن التي ظهرت للهدهاد كان اسمها مَأْرِب؛ إذ أُسْهِب في الحديث عن خيراتها. ومن غير المستبعد أبداً أن المَعنيَّ هنا عكس ما أوردناه آنفاً، أي أن سكن الهدهاد في تلك المدينَة الخصبة هو رمز للانتقال من الجفاف إلى الخصوبة، أي إشارة رمزية إلى بناء، أو ضرورة بناء سد لري الأراضي الجافة.
وهنا نظن بأن هذا المضمون للأُسْطُورة أو الخُرَافة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأحداث تاريخية في اليمن، ونعني بذلك بناء سد مَأْرِب أو شق قنوات سقاية، وما إلى ذلك.
هذه الأُسْطُورة ترِد على نحوٍ آخر، وتقول: إن من ظهر للهدهاد كان أخاً لبَلْقيس وعلى هيئة ثعبان أو ثعبان كبير، أي: شُجاع. كما يطلق هذا النص على أمّ بَلْقيس اسم رواحة بنت سكن، ولا توجد أي إشارة إلى أبيها أو إلى يبرين... إلخ. ونحن نرى في هذا النص إثراءً آخر للأُسْطُورة، ويبدو أنه مرتبط بمنطقة أخرى من اليمن، متذكِّرين في الوقت نفسه أن الثعبان كان أحد الحيوانات المُقدّسة المرتبطة بالقَمَر.
بلاد العرب السعيدة
«بلاد العرب السعيدة» شهدت ولادة ممالك عديدة قوية تركت آثارها إلى الآن، منها حِمير وعاصمتها شبوة، وقتبان وعاصمتها تمنة، ومعن وعاصمتها قرناو، وغيرها، لكن ما يهمنا لهذا المقال هو سبأ وعاصمتها مأرب. وعرف الإقليم قيام ممالك تحكمها نساء، حيث تضع النقوش العائدة للملك الآشوري سرغون الثاني (716 ق ت س) وخليفته سنحاريب، كرب إيل ملك سبأ جنباً إلى جنب مع ملك مصر وملكة العرب.
أعمال بلقيس العمرانية
من الأعمال العمرانية التي قامت بها بَلْقيس ورفعت مجدها إلى أبعد صيت، ترميمها سد مَأْرِب الذي كان الزمان قد أضره وخلخل أوصاله. وينسب إليها أيضاً قصر بَلْقيس الذي بمَأْرِب، وكان سُليمان ينزل عليها حين تزوجها فيه إذا جاءها. قالوا: فلما ملكت بَلْقيس اتخذته قصراً وعَرْشاً.