كلما زاد سعي الباحثين والكتاب للإمساك بالمفكر الفرنسي جان بول سارتر انفلت، وها هو كما يصفه محرر كتاب “سارتر والفكر العربي المعاصر” الدكتور أحمد عبد الحليم عطية يحلّق في فضاء هذا المفكر وفكره ليخرج بحصيلة جديدة يكتب عبد الكبير الخطيبي بالفرنسية موضحاً إن سارتر يشغل منذ زمان بعيد فكره، وينقل تصويراً لصدى مواقفه، يقول: كان بعض قدماء المحاربين قد صاحوا خلال الستينات في قلب الشانزليزيه أعدموا سارتر، وذلك لموقفه من القضية الجزائرية، فمن منهم لم يكن يحس في أعماقه بتضامن مع سارتر؟ لقد كانوا كما قال يحلقون معه عندما يحلّق ويهيمون عندما يهيم، كانت اللحظات ممتازة التي يستشعروا بها ذبذبة التاريخ في جسمهم فتجعلهم يبذلوا ما يفوق طاقتهم. كم كان الفرح الذي يبعثه فيهم هذا الوجد الثوري عظيماً. أما الغرب مرتاح الضمير فكان يرتعد خوفاً. إنه معهم ومنهم يهزهم ويطربهم، وينشيهم ويزيدهم مواقفه حماساً ولذة. نحن وسارتر وتحت عنوان “نحن وسارتر” صدّر سهيل أدريس افتتاحية أحد أعداد مجلة “الآداب” البيروتية التي أصدرها على غرار مجلة “الأزمنة الحديثة” السارترية والتي ساهمت مثلما أسهمت دار الآداب في التعريف بفلسفة سارتر وترجمة كتاباته، كما يتضح من رسالة الى سارتر التي قدمها في العدد الخامس من الآداب 1965، وهو يرفق بهذه الرسالة نسخة من المجلة حين، خصصت الصفحات الأولى منها والتي يحمل غلافها صورة سارتر مع عبارة تحية الى سارتر للحديث عنه بمناسبة رفضه جائزة نوبل. أما لماذا هذا الاهتمام؟ فإن تفسيره يتضح في أن العرب وجدوا في كتابات سارتر ما يعبر عن معاناتهم وهمومهم. لقد كان الأدب الوجودي الذي يمثله سارتر أفضل تمثيل، تعبيراً عميقاً عما عاناه الجيل الفرنسي منذ كارثة الهزيمة الفرنسية أثناء الحرب وما بعدها. ولعل شيوع هذا الأدب في الوطن العربي معزو الى أن الأجيال العربية الجديدة تجد فيه ما يشبه التعبير عما تعانيه منذ كارثة فلسطين. لقد كان من المفروض أن ينشأ لديهم بعد هذه الكارثة أدب يعبّر عن قلقها وتمزقها وضياعها وآمالها كذلك، فوجد هذا كله في الأدب الوجودي عامة وفي آثار سارتر خاصة. ولا يختلف ما كتبه الوجودي اللبناني من حيث الشكل والمضمون عما كتبه المصري أحمد عباس صالح في رسالة وجهها الى سارتر على صفحات مجلة “الكاتب” القاهرية. الأول يرى في كتابات سارتر تعبيراً، عن معاناتهم الماضية والحاضرة والثاني يرى فيها وفي موافقه مساندة لآمالهم الحاضرة والمستقبلة. وفي الحالتين يقوم نيابة عنهم في وصف همومهم وتحقيق آمالهم. يقول فيها: ليس جديداً عليك أن تعرف مدى تأثيرك في الثقافة المعاصرة، ولكن الذي قد تتردد في تصديقه هو أنك لمست شغاف القلب لدى المثقفين العرب، وأن تأثيرك الفكري في هذا الوطن القديم الجديد المتطلع بأقصى قوة للطموح الإنساني الى حياة جديدة يختارها من بين كل المواقف المطروحة بمعاناة تأمل وحرية... إن تأثيرك في هذا الوطن أعمق وأوسع من تأثير أي كاتب آخر. كان تعبير كتابات سارتر عن المعاناة، ومواقفه المؤيدة لنضال وكفاح الشعوب هما أساسياً في خطاب المثقف العربي الى سارتر مناشدة له من أجل تفهم القضية الأساسية التي تشغلهم منذ العام 1967 مما دفعهم الى دعوته لزيارة القاهرة. وكان قبوله لهذه الزيارة مصدراً للسعادة التي تتضح فيما كتبه سهيل ادريس: فهذه الزيارة تثلج صدور جميع المثقفين العرب وتملؤهم شعوراً بالاعتزاز والفخر، فقبول الزيارة مما يوحي بأن الإنجازات التي قامت بها جمهورية مصر العربية قد أقنعت المفكرالعالمي بأن نضال العرب الذي تعتبر القاهرة قاعدة له يستحق أن يدرس وأن يبحث عن كثب، وهذه الزيارة تحمل جانباً آخر من الأهمية هو ما يرتبط باقناع سارتر بعدالة قضية العرب، قضية فلسطين. تقديم طه حسين بدأ التعرف على سارتر في العربية عن طريق طه حسين، ومجلة “الكاتب” المصرية التي صدرت في منتصف الأربعينات، وأسهمت في التعريف بالفيلسوف وترجمة أعماله، أما أولى الملاحظات حول استقبال سارتر في العربية فهي تتعلق بترجمة أعماله التي بدأت بترجمة فصول من كتبه ثم كتاباته المسرحية ثم دراساته الفلسفية في القاهرة وبيروت. وفي الفكر العربي المعاصر هناك من حاول الربط بين سارتر والماركسية مثلما فعل جورج طرابيشي؛ الذي ترجم عدداً من أعمال سارتر وذلك في دراسته التي تحمل عنوان “سارتر والماركسية” الصادرة عن دار الطليعة في بيروت 1964، والكتاب تعبير عن أزمة وتصوير قلق وحيرة جيل الستينات في البحث عن أساس نظري للاشتراكية العربية، تلك التسمية التي أشار اليها المؤلف أكثر من مرة حين يقول: كنا نشعر أن الأرض غير ثابتة تحت أقدامنا. كنا نشعر أننا بدون نظرية. وكانت النظرية الاشتراكية الوحيدة الممكنة آنذاك تومي إلينا بالخوف. ويقول ايضاً حين أخذنا بالقراءة لم نقرأ لكي نكون اشتراكيين فعلاً بل لنستطيع الوقوف في وجه الماركسية. ومن خلال هذا الجو الحذر والتحرس من الماركسية اكتشفوا سارتر. وكان سارتر في هذه اللحظة بالنسبة لهم الفيلسوف المنتظر، الذي يلبي مطلبين في وقت واحد، الرفض اليساري للنظم المسيطرة على الواقع العربي، والثوري اللاماركسي. لقد صنعوا له صورة وفق احتياجاتهم وتصوروا سارتر الذي يناسبهم، ومن هنا كانت صورة عربية لثوري غير ماركسي قبل أن يكتب نقد العقل الجدلي لقد كان أمام هؤلاء الفتية العروبيين اليساريين خطوة تجاه الماركسية، فكان سارتر هو هذه الخطوة. عندما كتب زكي نجيب محمود منذ بضع سنوات في بلاده ورد نشاطه في هذا الميدان الى محورين: العقل والحرية. وقال انه اذا كان أسلافه من فلاسفة العرب قد أداروا أعمالهم الفلسفية حول محاولة التوفيق بين العقل والنقل، يقول نحن أبناء اليوم في محاولة شبيهة بتلك نسعى الى الجمع في خط واحد بين التعقيل والتحرر. تساءل الكاتب الفرنسي المعروف جان بول سارتر عن الأدب ما هو وماذا ينبغي أن يكون؟ ودفعه هذ التساؤل الى أن يضع كتاباً قيماً لم يظهر بعد في مجلد، ولكنه نشر تفاريق في مجلة العصورة الحديثة. والفكرة التي دار حولها هذا الكتاب القيم هي مقدار ما يكون بين الأديب وبين قرائه من الاتصال من جهة، ومقدار ما ينبغي أن يحتمل الأديب من تبعة بحكم هذا الاتصال بينه وبين القراء، ومشاركته لهم في ما يعرض من مشكلات تأتلف منها الحياة الاجتماعية مهما تكن طبيعة هذه المشكلات، ومن دون تفريق بين ما يتصل منها بالسياسة أو بالنظام الاجتماعي، أو بأي لون من هذه الألوان التي تؤثر في حياة الناس، والتي يجب على الأديب أن يشارك فيها، ويحتمل نصيبه من تبعاتها، كما يجب على الأديب أن يصورها ويصور المشاركة فيها ويصور الوسائل المختلفة لتدبيرها والخروج من ضائقتها واستكشاف ما يمكن استكشافه من الحلول لأزماتها مهما تختلف في الطبيعة والصورة والأثر. وقد استعرض سارتر ايضاً في كتابه وسائل الاتصال بين الأديب المنتج والجمهور المستهلك، فلاحظ كما يلاحظ غيره من الناس أن العصر الحديث قد ابتكر لهذا الاتصال وسائل لم تكن معروفة من قبل، وأن هذه الوسائل قد طغت وأسرفت في الطغيان على الوسائل القديمة. فالصحف والمجلات أكثر اتصالاً بالجماعات وتغلغلاً بين طبقاتها من الكتب. والراديو أكثر اتصالاً وتغلغلاً بين طبقاتها من الصحف والمجلات فضلاً عن الكتب، والسينما أكثر دعاء واشد استهواء للجماعات على اختلاف طبقاتها من التمثيل. إذاً، فما ينبغي للأديب الذي يقدر الحياة الاجتماعية ويشارك فيها وفي احتمال تبعاتها أن يهمل هذه الوسائل المستحدثة، ويفرغ لاستخدام الوسائل القديمة التي لم تفقد قيمتها وخطرها، ولكنها لا تستطيع أن تظفر من الشيوع والشمول والتغلغل في الطبقات المختلفة المتفاوتة بمثل ما تظفر به الوسائل المستحدثة. فستؤلف الكتب، وسيقرأوها القراء، وستنشأ المسرحيات وسيشهدها النظارة، ولكن الصحف والراديو والسينما ستكون اكثر انتشاراً واشد اتصالاً بالجماعات واعظم تغلغلاً في طبقاتها من الكتب والمسرحيات.