حسام محمد (القاهرة)
في ظل تزايد عدد المسلمين في الدول غير الإسلامية يطرح عدد من علماء الدين الإسلامي في تلك الدول ما بين الحين والآخر فكرة ترسيخ ونشر فقه الأقليات، مؤكدين أن العمل بمصطلح فقه الأقليات يساهم في منح المسلمين في الدول غير المسلمة الفرصة في التعايش بسلام وأمن من ناحية، ويؤكد سماحة ووسطية الدين الإسلامي من ناحية أخرى، ولأن مصطلح فقه الأقلية هو مصطلح جديد لم يظهر في التراث الإسلامي القديم، فإن الكثيرين يتعاملون معه بتحفظ شديد، طرحت «الاتحاد» القضية على عدد من علماء الدين لتوضيح ضوابط تطبيق هذا الفقه والفوائد منه.
تفسير المفهوم
بداية يوضح الدكتور حامد أبو طالب عضو هيئة كبار العلماء أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر قائلاً: فقه الأقليات هو مصطلح حديث نشأ في القرن الماضي، وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري لما زادت أعداد الأقليات المسلمة بأوروبا وأميركا، وبدأت حياتها تنتشر وعلاقاتها تتشعب، وأخذت تشعر بكيانها الجماعي ذي الخصوصية الدينية في مهجرها بمجتمع غير إسلامي، وتسود فيه ثقافة وقوانين غير إسلامية، وحيث إنها في هذا الوقت كانت قد بدأت تتوق إلى أن تنظم حياتها الفردية والجماعية على أساس من دينها، ولكنها وجدت أن أموراً وأوجها كثيرة من تلك الحياة لا يمكن التعامل معها من خلال ما هو معروف من الفقه المعمول به في البلاد الإسلامية، إما لأنه لا يناسب أوضاعاً مخالفة للأوضاع الموجودة بالبلاد الإسلامية، أو لأنه لا يغطي أوضاعاً انفردت بها حياتهم بالمهجر، فأصبحت هناك ضرورة لفرع فقهي جديد يختص في معالجة حياة هذه الأقلية أُطلق عليه مصطلح فقه الأقليات، وقد تزامن ذلك مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع تلك الجاليات والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب ويعتمد على نفس مصادر الفقه الإسلامي ومصادر والتشريع فيه، ولكنه يراعي خصوصية وضع الأقليات فيتجه إلى التخصص في معالجتها، في نطاق الفقه الإسلامي وقواعده، استفادة منه وبناء عليه، وتطويراً له فيما يتعلق بموضوعه، إلا أنه عند التفصيل يرجع أولاً إلى كليات الشريعة برفع الحرج، وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات، وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان، ودرء المفاسد وارتكاب أخف الضررين وأضعف الشرين، ما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة.
ضوابط وثوابت
من جانبه، يقول الدكتور عبدالفضيل القوصي، عضو هيئة كبار العلماء وزير الأوقاف المصري الأسبق: الاهتمام بفقه الأقليات جاء ليؤكد وسطية وسماحة الإسلام، ويوضح بصورة عملية كيف علَّمَنا ديننا كيفية التعايش في ظل التعددية الدينية، وهي تتمثل في التعايش في ظل المشتركات الإنسانية، وهي كثيرة جدّاً تشمل كل مناحي الحياة الاجتماعية، ويبقى جانب الاعتقاد والعبادة، ولا يضر علاقات البشر في أمور حياتهم اختلاف تعبدهم لخالقهم، فشعار ديننا الحنيف: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...)، «سورة البقرة: الآية 256»، و(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، «سورة الكافرون: الآية 6»، وبهذه النظرة السمحة عرفنا أن كل الناس، إما إخوة في الدين وإما نظراء في الإنسانية، وقد تعامل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين وجعل من عبدالله بن أريقط - وهو على غير الإسلام دليله في رحلة الهجرة إلى المدينة المنورة، وتعايش مع قبائل اليهود في المدينة وعقد معهم معاهدات سلام لم ينقض منها واحدة حتى نقضوها، والأصل في التعامل بين المسلمين وغيرهم هو السلام قال تعالى: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ...)، «سورة الأنفال: الآية 61»، وعلَّمنا ديننا حرمة دماء غير المسلمين غير المعادين للمسلمين، كحرمة دماء المسلمين، وأنه لا يجوز الاعتداء عليهم في دم ولا عِرض ولا مال بأي صورة، وأن المعتدي عليهم من المسلمين يعاقَب كما لو اعتدى على مسلم، ويكفينا في هذا قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهداً لم يُرِح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفاً».
يضيف د. القوصي: يعمل فقه الأقليات وفق ثوابت الشريعة فلا يخرج عنها لكنه على الجانب الآخر يعمل على تحقيق المعادلة الصعبة، وهي الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء، فهو على سبيل المثال يهتم بفقه النوازل والمستحدثات والمستجدات التي يتعرض لها طائفة من المسلمين في بلاد غير إسلامية وهذه المستحدثات والمستجدات تنفرد بها هذه الأقليات في حياتها العملية دون المسلمين الذين يعيشون في بلاد إسلامية، فينظر من جهة إلى التراث الإسلامي الفقهي، ومن جهة أخرى إلى ظروف العصر وتياراته ومشكلاته، فلا يهمل ما أنتجتها عقول الفقهاء والعلماء خلال أكثر من أربعة عشر قرناً في القضايا التي كانت تستحدث وتجد على مجتمعهم ولا يستغرق في التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وهو يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات فيرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات في ضوء الكليات موازناً بين المصالح بعضها وبعض وبين المفاسد بعضها وبعض وبين المصالح والمفاسد عند التعارض في ضوء فقه الموازنات وفقه الأولويات، وبهذا يحافظ على تعايش المسلم في المجتمع غير المسلم، وفي نفس الوقت يعطي غير المسلمين الصورة الصحيحة عن الإسلام كدين وسطي لا علاقة له بالأفكار التكفيرية التي يعتنقها بعض من ينتسبون له زوراً وبهتاناً من الإرهابيين والتكفيريين.
الأقليات غير المسلمة
من جانبه يوضح د. عبد المقصود باشا الأستاذ بجامعة الأزهر جانباً آخر من فقه الأقليات، مشيراً إلى أن علماء الإسلام اتفقوا على أن الأقليات الإسلامية لها وضعها الخاص، ولها ظروفها التي يجب الاهتمام بها في إطار الحفاظ على هويتهم الإسلامية، وعلى ثوابت الشريعة الإسلامية، وهناك كثير من المؤسسات للتعامل مع هذه القضايا، حيث يتم التصدي لكثير من الأسئلة التي ترد من هذه الأقليات حول مختلف القضايا العامة والخاصة، ولكن نحن نقول دائماً إن الفتوى هي بيان لحكم الله في الواقع المستجد، فلا بد للعالم الذي يتصدى للفتوى أن يفهم الواقع وجميع ملابساته لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ففي غاية الأهمية أن يعي من يتصدى لفقه الأقليات أن يفهم واقعهم ومشكلاتهم، فلا يجوز أن يتصدى للفتوى إنسان لا يعلم واقع صاحب الفتوى والجو الذي يعيش فيه ونحن نطالب دوما بتفعيل الاجتهاد الجماعي لأنه يكون أكثر دقة.
يضيف د. باشا: هناك أيضا جانب آخر مضيء لفقه الأقليات وهو فقه تعامل المسلمين في الدول الإسلامية مع الأقليات غير المسلمة، فمن يدرس جيداً علوم الفقه الإسلامي سيدرك أن فقه الأقليات دليل عملي على عظمة هذا الدين الخاتم، ففي ظل التشريع الإسلامي حظيت الأقلية غير المسلمة في المجتمع المسلم بما لم تحظ به أقلية أخرى في أي قانون وفي أي بلد آخر من حقوق وامتيازات، وذلك أن العلاقة بين المجتمع المسلم والأقلية غير المسلمة حكمتها القاعدة الربانية التي في قوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، «سورة الممتحنة: الآية 9»، فقد كفل التشريع الإسلامي للأقليات غير المسلمة حقوقاً وامتيازات عِدَّة، لعلَّ من أهمها كفالة حرية الاعتقاد، وقد تجسَّد ذلك في رسالة الرسول إلى أهل الكتاب من أهل اليمن التي دعاهم فيها إلى الإسلام، حيث قال: «... وَإِنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لا يُفْتَنُ عَنْهَا».
تحقيق المعادلة الصعبة
يستطرد د. حامد أبو طالب، قائلاً إن فقه الأقليات المسلمة لا يعني إنشاء فقه خارج الفقه الإسلامي وأدلته المعروفة، وإنما يعني أن هذه الأقليات المسلمة لها أحكام خاصة بها نظراً لظروف الضرورات والحاجيات لتحقيق المعادلة الصعبة، وهي القدرة على التعايش مع المجتمعات غير الإسلامية التي يقيمون بها مع الحفاظ على هويتهم الإسلامية من دون الذوبان وضياع معالم الشخصية المسلمة، ويلتزم هذا الفقه بالأصول والقواعد الفقهية تماماً مع مراعاة ظروف الأقليات التي تقيم في مناطق بعيدة عن البلاد الإسلامية، حيث يتم مراعاة أحوالهم، لكن من دون التحلل من المبادئ والأحكام الفقهية الثابتة، فهم في النهاية يلتزمون بأحكام الدين ولا يخرجون بأي حال عن الشريعة الإسلامية.