«قوّة ثقتك في جمالكَ».. بهذه الجُملة الاحتجازيّة تمّ اختلاق جوهر شكليّ يخضعُ فيه الفرد إلى المظهر، كصورة إجماليّة للذاّت، بإسناد الاعتماد الكلّي عليه إلى القوّة المُحترمة لتبرير سُلوك انحرافه عن القيمة، بجعل الوعاء أهمّ بكثير مما به، لكن هذه الثّقة المُستمَدّة من الجسد تُشبه تماماً المعادن المزّيفة، هي برّاقة لكنها بمجرد التعرّض لمادة ما تفقدُ ذلك البريق، فهُنالك نسبة من النّساء تعتمدُ في ثقتها بنفسها على الجمال، أي على لون البشرة واستدارة الوجه من عدمه وشكل الأنف وأمور أخرى، وسنتصّور بدورنا أنه بفقدان تلك المعايير تفقد تلك الثقة، فهذا الاعتماد غير المؤسس يضعُ الكائن على أرضيّة مهزُوزة يُمكنها أن تُزال بمجرّد تعرّضه لإصابة، أو تشوه، وكذلك بمجرد تقدّمه في السّن، ومن الأمراض الأنثويّة التّي زجّت النّساء في فُرنها أن تظنّ أي امرأة ولو واحدة، أنّ أفضل ما يُمكن أن تقُوم به وجودياً أن تكون جميلة، لكن هل الجمال وظيفة، هبة أو موهبة؟ ولبّ الجمال في الطبيعة، الزوايا أي ما سنسميه النسبيّة، لكن هل هو لبّ الجمال نفسه داخل مؤسسات الجمال؟

تشتمل لفظة «جميل» على معنى مركبّ، إذ تُشير إلى الخير والجمال سويّة، وقد تعوّدت اليُونان في الفترة الهلينستية إطلاق كلمة «كالوكاتوس» على الجميل والصّالح سويّة، ومن ثمّة اجتمع النّصف الأخلاقيّ والنّصف الجمالي في المعنى الواحد، لكنّ سُقراط ومعه أفلاطون عملا على فصل الأمر عن بعضه بعضاً، إلى جمال الأفعال الأخلاقية وجمال الجسد، حيث تناول سقراط مفهُوم الجميل كشطر الكامل، بينما وُضِع الحبّ كوسيط جدليّ عند أفلاطون للجمال، واصفاً إياه في المأدبة banquet بشيطان يربطُ المحسُوس بالمعقُول، وعلينا اليوم في ظلّ عولمة الجمال أن نُشير إلى الطّغاة الذّين اضطهدوا الجسد بناءً على النماذج المثاليّة.
تُعرّف الأشياء بأضدادها، فكل ما هو «هذا» كمدلول هو «ليس هذا» كدال عليه إذا لم تتوّفر في الأول شُروط التّعريف، الأمر نفسُه إذا تحدّثنا عن الجمال، لكن بإحداثيات زئبقية تُعطينا توصيفاً سريعاً على أنّه يمثّل إرضاءً للعين عند رؤيتها لهذا الأمر محلّ الحُكم عليه بالجمال من عدمه، فقد يضعُ الإنسان معاييره الفرديّة محلّ تشكيك في صِراع مع المعايير المؤسساتية محل الإقطاع، فالجميل داخل مؤسسات الجَمال يُقابله لا جميل، أمّا في الطّبيعة فيتضادّ مع البشاعة، الأمر الذّي يُدخل البشر في نزاع على سلطة الحقّ بإقرار الجمال ما بين النّظرة المؤسساتيّة والنّظرة الطبيعيّة التّي لم تُدجّن بعد بمعايير عولمة الجمال، أو التّي تنتصرُ في الأوقات الخاطِئة لعُنصر الإنسانية، وليس هذا فحسب، فهُنالك من تحتكم عليه النّظرة المُشبّعة بروحانيّة السّماء وقصّة الخلق التّي لا يُطعنُ فيها كإرغام ميتافيزيقي، ومن ثمّة فالتّصادم الذّي سيحدث بين هذه الأطراف على الجسد ليس الجمال تحديداً، بل المُنطلقات والتّرسبات الدّافعة لظهور رداّت فعل متباينة، لتطفُوا على السّطح مسألة الأمراض الوجوديّة الدّفينة المُغطاة بالأناقة اللّفظية والشكليّة، ويقف الكثيرون وجهاً لوجه مع عِللهم فوق منصّة الاندفاع، التّي ستُصبح شبيهة تماماً بعملية إفراغ يتمّ من خلالها لا إرادياً مُصالحة هؤلاء المرضى مع الجمال نفسه والبشاعة ذاتها، وإنقاذهم من وعورة التشيؤ التّي حوّلت نساء كثيرات إلى عدّاءات النّماذج الجماليّة، ما يُطلق عليهنّ ملكات الجمال أو عارضات الأزياء، ولهذا حديث النّاس عن أحقيّة هذا دون ذاك بعرش الجمال في بلاد ما يتنازع عليه طرفين، طرفٌ ينتمي للجمال في الطّبيعة ككل، وآخر ينتمي للجمال حسب قواعد لُعبة الجمال، الأوّل مُتّهم بتزوير الجمال، والثاني مُتّهم بالعُنصريّة، دون أن يعرفا أنَّ كليهُما على حقّ، وهذا ما حدث فعلياً حينما أُعلن على أنّ خديجة هي ملكة جمال الجزائر 2019، فالحقيقة تُقرّ على أنّها ليست جميلة حسب المعايير التّي دخلت هي ذاتها لُعبتها، أي معايير مؤسّساتيّة، لكنّها غير كذلك في الطّبيعة، وعلينا أن نتساءل: لماذا تغضبُ هذه النّساء إذا قال عنها أحدهم إنّها ليست جميلة من على مقعد العُروض التّي تؤدّيها لتقُنعه بالتّصويت عليها؟ أليست هي من عرضت نفسها لهذه الجماهير وجعلت نفسها مادّة يُحكم عليها؟ ما الفرق بين منصّات عارضات الأزياء ومنصّات البيع والشراء ومنّصة أمازون التّجارية؟ لا فرق، كلّها رهن المُثار إعجابه.

ماكينة إثارة الإعجاب
كيف اضطهدت فكرة «جمال المرأة» المرأة عن طريق ماكينة إثارة الإعجاب؟ ما هو الإعجاب؟ من هنا تبدأ رحلة الجسد في التّحول إلى غرض، وهذا لا يعني عدم الاهتمام بالجمال، فليس هُنالك من حدّ فاصل بيّن جدّاً بين الخير والشر عند رينان، والبحث في الجمال أفضل من البحث في الأخلاق، لأنّ الأخلاق وحدها لا تُنجب سوى الإنسان الشّريف بلا شعور، وأن بحث الجمال يخلق الفنان، ففي الحبّ مثلاً الأخلاق شاحبة والجمال هو القانون، بل هي مسألة إدانة الاستغلال عن طريق تسويق الجسد، ثمّ تحويله إلى واجهة عرض، مدعوماً بذلك الهوس الذّي يتغذى على مفهوم الصّور المثاليّة للجمال المُتحركة في أزمنة مُختلفة، فيكون الثابت الوحيد عبر التّاريخ، هو ذلك التّحفيز الذّي تمّ مع النساء ليكنّ passive opjects أشياء غير فاعلة منفعلة، والتّركيز على أجسادهنّ واستعراضها مثلما وضّحته كثيراً سيمون دي بوفوار.
لكن من يدعم هذا الاستعداد وكيف تتكون قاعدة جماهيرية للقبول الأعمى؟
تُربيّ النّساء أولادها على فكرة نمطيّة للجمال، حيث تتقاطع في هذه النّظرة مع مؤسسات الجمال، وتحصرُ الجمال عند المرأة على الشّقراوات ذوات العيون الملونة والبشرة البيضاء عن غير دراية، حينما تمازحه من صميم حقيقتها بجُمل «سأزوّجك فتاة شقراء بعيون زرق» وتُبالغ في وصفِها إذ تقُول بيضاء حتى إذا شربت الماء يُمكنك أن تراه ينزل من رقبتها، فيتلقّى أسساً جماليّة مضبُوطة، سواء كان ذكراً أو كانت أنثى، ليخلق في الأول محدوديّة التّوصيف، بينما في الثاني والذي هو أنثى شعور النّقص الجماليّ، الذّي سيتحوّل مع الوقت إلى كلّ هذه الصّراعات التجميليّة من مواد تجميل، ملابس، عمليات، وبدورها ستستغلها مؤسسات المُوضة كتدوير ضمن العجلة الاقتصادية، فالأمومة بغريزتها التفضيليّة التّي تهتّم بالضّرورة بأن يحصُل أولادها على الكمال في كلّ شيء، تُساهم في بقاء هذه القوالب، وتُشارك في ذلك التّعدي الصّارخ على الطّبيعة، لتدخل لعبة امتهان الجسد، وبدل أن تنمّي فكرة الجمال الطبيعيّة داخل الفتاة، يُصبح الجمال في حد ذاته عبارة عن إجبار عليها أن تسعى لتحقّقه، وقد خبرنا تجارب ارتباط فشلت لأسباب شكليّة بحتة، فالفكرة أساساً تنطلق من الداّخل جراّء التّلقين التاريخيّ، ثمّ تُصبح مع الوقت حقيقة نمطيّة مُطلقة لا تخصّ فقط المعنيّة، بل يتمّ تدجين النّظرة ككلّ لأنّ المعايير تعرضّت لاضطهاد فكرة محكومة بعقليةّ الجمال الأبيض، والأمر لن يختلف لو أسقطناه على لعبة ملكات الجمال، وحتى يصحّ التّقارب فمؤسسة الأمومة غذت نزعة الملكة الجذريّة، أو لنقل دعمتها وحافظت على تواجدها، ومن ثمّ هيئت قاعدة جماهيرية لسوق كبيرة تشيّئ الأجساد التّي ستخضع بالضّرورة إلى قانون العرض والطلب، وتتجلى عن طريق هذا الإرضاخ إشكالية أخلاق السّادة التّي تفرض بالقوّة النّاعمة هذا الترويج الأعمى والمفاضلة، فالقاعدة القديمة لم تختف نهائياً، هي تمارسُ لكن بأشكال حداثيّة نوعاً ما، فنتشيه حينما قال: «كونوا قساة لتحيوا في الجمال لأنها قاعدة الإنسان الأعلى» كان يدافع عن تلك الفئة التّي خصها بهجومه.

«النماذج المثالية الموحدة»
هل تحتفي فعلياً مؤسسات الجمال بالجمال أم أنه احتفاء بالجسد؟
عبر التّاريخ، اعتبر الفلاسفة أنّ الجمال أحد العناصر الثلاثة، الحق، الخير، الجمال، ومع دخُوله صناديق السّلع فقد مكانته في حيزها، وبدا مفرغاً من مقداره الوجودي الذّي لطالما اعتبرته الحضارات القديمة ذا شأن «آلهة الخصوبة» وربطتها باستمرارية الوجود، الوجُود البشريّ، وفي ظل تحدياّت محاولة المرأة الفوز بتاج الجمال، والفوز بالقبول لتظهر على أنّها حرّة ومثقفة ككائن نموذجيّ، تجدُ نفسها بيديها أغلقت على ذاتها داخل هذا النموذج الذّي سيتحوّل بالضرورة إلى عطل فنّي يُلوّث الفنّ، فالجسد الذّي هو سلعة غير دائمة وجودياً «يصابُ، يمرض، يكبر، يفنى» يُشرك الجمال النموذجيّ لمتغيراته، إذ يُصبح مرهوناً بالزمن لأنّه أفرغ من ماهيّته الروحيّة، باعتبار أنّه مجرّد وعاء ذي أهميّة أكثر من الإنسان نفسه الذّي يعتبر الروح والطاقة المُحركة لهذا الجسد على عكس ما كان عليه في عهد آلهة الخصوبة، ما يجعلنا نتساءل مستغربين، هل للجمال مقياسُ تجريدي مثلهُ مثل بعض الكيلوغرامات من البطاطا، أم أننا فقدنا الحسّ الجمالي في ظل عولمة الجمال والنماذج المثالية؟ وإن كان ثمة فعلا قالب جمالي فهل يعني ذلك احتكاراً للجمال لما دونه في الطبيعة؟
نسبيّة الجمال تعتمدُ على مدى تشبّعنا بالرؤى الفرديّة بخصوصيّة الجمال وبين النّمطيّة التّي أصبحت تتصدّر الواجهة كإرغام عبر الإشهار الإعلامي، في كتابها«الجنس الآخر the second sex» لسيمون دي بوفوار مقولة شهيرة«on ne nait pas femmes;on le devien» «نحن لا نولد نساء، بل نصير» فتصبح هذه المقولة حالة فلسفية كاملة تطلقُ في ظروف متعددة، ما يعني أنّها كسرت النمط لتتجاوزه إلى مستحدثات الظروف مع تراكماتها، لنجد أنّه لا توجد طريقة يجبُ على المرأة أن تكون عليها، ولا تُوجد صورة محدّدة مُسبقة للأنوثة، ولا شكل مثالي عليها أن تُطابقه حتّى في جمالها، الأمر الذّي جاءت مؤسسات مسابقات الجمال لتجعل منه عدواً سهل المنال، حينما أحيت وسوقت لقالب إغريقي تقوقعت داخله مفاهيم الجمال المؤسساتي، فبينما قدّم الإغريق واليونانيون منحوتات الآلهة القديمة بمعايير حسّية، مركزّين على ماهيّة الأمومة والخصوبة، بإبراز الصدر والحوض عن طريق تصويرهم لواقعهم كما هو عبر الفنون، تبنت مؤسسات الجمال بالمطلق أبعاداً رياضية تجريديّة، لينتقل الجمال من بعده الحسّي إلى ذلك البعد التجريدي باحتساب ما يسمى بالنّسبة الذّهبية golden ratio التّي ابتكرها اليونانيون كمقدار لنسبة الجمال، وعلى هذه الأبعاد الرياضيّة أصبح عالم الجمال المؤسساتي عالم القياس، وغذى الجمال مجرد سباق تنافسيّ في حدود اللعبة يخلق في سياقه نوع من الاحتقار الذّاتي للبقيات كأخلاق السّادة التجاريين.
في رواية المثقفين تقُول سيمون دي بوفوار:المرأة وحدها تعلم ما معنى أن يكوُن الكائن الإنساني امرأة، ويقول نزار قباني إن أسوأ مصادر الشّعر هنّ ملكات الجمال في العالم، الأمر عند سيمون يتعلّق بالثّورة القاسية على المفاهيم المكرّسة ضد كينونة المرأة التّي تراها ليست إلا شيئاً مصطنعاً اجتماعياً، أما عند نزار فالأمر يتعلّق بالغباوة التّي أوردها في شرحه، ويتّفق مع كانط الذّي يعتقد بأنّ للجمال والأخلاق ملكة واحدة هي العقل، فالجمال عنده غائيّة بلا غاية، ما يفسّر أنّ الأخلاق والجمال يلتقيان التقاءً خارجياً عارضاً، ومن ثمّة فالغباوة التّي عناها نزار القباني لا تمثّل في العموم الغباوة الثقافيّة فحسب، كما توقف عندها، بل الغباوة كعلّة فنّيّة يفقد فيها الجسد ملكيّته لوجوده ويتحوّل مع الوقت إلى فخّ يستخدم للقبض على الإعجاب، وفيما تُصبح النّساء عبارة عن عبيد للأشكال تظهر فيهن الرغبة الخفيّة للتملك عن طريق الجسد ما بين الترغيب والحرمان مثلهنّ مثل سوق الجواري، وتحدثت الكاتبة الأميركية والمستشارة السياسية للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون نعومي وولف، في كتابها «أسطورة الجمال» عن كيفية استخدام صور الجمال ضدّ النّساء وليس لصالحهن، وعبر هذه الأسطورة التّي يطلق عليها الجمال، يتحقق هدف تقويض الحريات والحقوق التّي نالتها المرأة في العقود الأخيرة، فالقيود الاجتماعية التي كانت تحاصر حياة المرأة أصبحت اليوم تحاصر وجهها وجسدها، وتتساءل الكاتبة عن إشكالية غاية في الأهميّة، فاليوم تبحث النّساء عن مكانتهن بين أجساد الأخريات، في حين كن في الجيل الذي سبقنا من النساء يبحثن عن مكانة المرأة في المجتمع.