تجربة وراء البحار
ميرال الطحاوي الروائية المصرية التي أصدرت ثلاث روايات سبقت هذه الرواية هي “الخباء”، و”نقرات الظباء”، و”الباذنجانة الزرقاء”، أصدرت هذا العام روايتها الرابعة “بروكلين هايتس” التي ترود فيها أفقاً آخر غير آفاقها السابقة في رواياتها الثلاث. ومن هنا فإن تجربتها الروائية في “بروكلين هايتس” تقف على مهاد سردي رصين وحرفية قصصية لافتة لا سيما أن ميرال ومنذ مجموعتها القصصية الأولى التي أصدرتها عام 1995 تحت عنوان “ريم البراري المستحيلة” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تكتب بلغة سردية متميزة وترتاد آفاقاً روائية خاصة وتؤرخ لأجواء وشخصيات وأحداث هي جزء من تجربتها في الكتابة والحياة على حد سواء.
ونلمس البوناً شاسعاً في الفضاء المكاني لرواياتها السابقة والفضاء المكاني لروايتها “بروكلين هايتس”، حيث تتخذ من قلب العالم الجديد مكاناً يحتضن بطلة روايتها هند، بيد أن الرؤية الأساس لرواية “بروكلين هايتس” متجذرة في رواياتها الثلاث السابقة فهي تؤرخ لتجاربها المستمدة من حياتها الخاصة وتتوغل في عالم خبرته وعرفته جيدا وإن تقنعت ميرال بأسماء أخرى، ويتأكد لنا هذا من خلال حوار أجرته مي أبو زيد مع ميرال الطحاوي في صحيفة “الرأي”، حيث أكدت ميرال أن كل نص كتبته هو في الحقيقة جزء من مشاعرها وتاريخها وسيرتها. بيد أنها في روايتها هذه تقترب كثيراً من بطلتها هند بل تكاد تتماهى معها، فبطلة الرواية هند شاعرة تحمل معها ديوان شعرها الموسوم “لا أشبه أحدا” وميرال روائية تحمل معها إنجازها الروائي المتميز ومخطوطة روايتها الجديدة بروكلين هايتس، وكلتاهما اتجهتا إلى العالم الجديد، وتحديداً قلب هذا العالم (نيويورك) العاصمة التجارية للولايات المتحدة الأميركية، حيث تختلط الأجناس واللغات والألوان والثقافات. ولم تكتف بذلك بل اختارت قلب ولاية نيويورك (منهاتن) الضاجة بالحياة والحركة وانتقت منها بروكلين هايتس المكان الذي يحتضن كبار الكتاب والمؤلفين الذين تورد عنهم الساردة في مطلع روايتها “تتأكد حين تراهم حولها أنها اختارت المكان المناسب تماماً لمزاجها النفسي، حيث يبدو كل ما حولها بالغ القدم، يثير الحنين. ويبدو كل من حولها مشغولين في عملية الخلق الكوني، كلهم كتاب كما تحلم بأن تكون، يحملون حقائب مكدسة بمخطوطات أحلامهم.. إنها تنتمي الآن إلى المكان المناسب، حيث ترى من بعيد أناساً يشبهونها تقريباً ولو من بعيد فقد حلمت فقط بالكتابة، وظل ديوانها الوحيد “لا أشبه أحدا” أوراقاً محفوظة في حقيبة يد بيضاء قديمة ورثتها عن أمها”.
وثمة تجارب روائية سجلت انطباعات متباينة عن الغرب الأوربي أو ما وراء البحار الأميركي، ومنها على سبيل الاستدلال: رواية “عودة الروح” لتوفيق الحكيم، و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، و”الحي اللاتيني” لسهيل إدريس، و”المخاض” لغائب طعمة فرمان، و”بين الصحراء والماء” لمحمد عيد العريمي، و”من يوميات السيد علي سعيد” للدكتور عدنان رؤوف، ومثلها كثير قد سجلت انطباعات رجال وردود أفعالهم إزاء النسق الأوروبي في الحياة والعيش وأسلوب التفكير والسلوك، فإن “بروكلين هايتس” ترود العالم الجديد بذائقة امرأة ووعيها وطبيعة تفكيرها لا سيما وأنها ليست امرأة عادية، وإنما هي استثنائية تماماً داخل النص إذ لبست الحجاب المسدل الطويل ومعه قفاز أسود أيضا في قريتها، وهي طفلة وصبية، وكانت هند منصاعة للعرف القبلي ولكنها تمردت على كل هذا لاحقاً، وكانت في الحالين كلتيهما تريد أن تبدو مختلفة عن الآخرين.
وتمتاز رواية “بروكلين هايتس” قياساً بروايات ميرال الطحاوي الثلاث السابقة بسعة أفقها واقتراب بطلتها هند من ميرال حد التماهي، وكأنها خلاصة حية لحياة هند وميرال على حد سواء. وأما على صعيد التقنية الروائية فإن بروكلين هايتس تتماهى فيها تقنية تيار الوعي السردية مع تقنية المونولوج الحوارية إذ تستغرق هند بطلة الرواية في منولوج طويل يتناوب فيه الماضي والحاضر وعلى مدى صفحات الرواية، فضلاً عن هذا الزخم من الأمكنة الأميركية التي استمدت ميرال منها عنوان روايتها وأسماء فصولها، وقد تطلب سياق الرواية وطبيعتها أغاني أميركية وأمثالاً وتعبيرات ومفردات يومية وردت بلغتها الأصلية.
إن ميرال الطحاوي تعد بتجربة روائية رائدة مقبلة وترهص بمزيد من الإبداع السردي القائم على هذا التفاعل النابض بين الثقافتين العربية والأميركية وعلى كل صعيد، وهو مما يفتح أمام القارئ نوافذ على عالم مختلف يتجاوز النمط المألوف من السرد الروائي الذي يخوض في أجواء رتيبة ومكرورة.