"خمسون عاماً في خدمة الوطن وعقود ملؤها الثمر في عالم الإبداع وفضاء الشعر والإلهام. فقد أشرقت موهبته الإبداعية يوم كان في الثانية عشرة من عمره، وتفتحت مواهبه الشعرية وهو يقرأ ويسمع شعر الماجدي بن ظاهر، شاعر الخليج كما لقبه الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وشعر أبي الطيب المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس.
وفي هذه المناسبة نشارك القرّاء هذه القصيدة النيرة للشيخ محمد بن راشد، والتي تنشر خليجياً للمرة الأولى، وفيها يتجلى عمق الأصالة وعبق الحكمة وقوة العبارة والرؤية المتبصرة الشاسعة التي تستأنف حركة الحضارة العربية."
د. علي بن تميم

حيّاكَ منْ فلكِ
شعر: الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

حيّاكَ منْ فلكِ الجزيرةِ فَرقَدُ
أنوارُهُ عزٌّ يُكالُ وسُؤددُ
وسَعَى إليكَ مُؤيِّداً ومُقيِّداً
شكرٌ جَرَنْفَشُ نفحُهُ يتجدَّدُ
إنّا إذا ابتدَرَ المفاخرَ طالبٌ
فلَنا على عرشِ السِّماكِ المقعدُ
وعَجبتُ منْ كرمِ الزَّمانِ وبخلهِ
وبحالتيهِ مُعوِّدٌ ومَعوَّدُ
ألِفَتْهُ نفسي لوْ تبَلَّدَ حظُّهُ
فأنا لهُ الحظُّ الذي يتجدَّدُ
وبقيتُ لاتثريبَ غيرُ بقيَّةٍ
تخبو مع النَّفْسِ الظَّميِّ وتصعدُ
سُقتُ المُوَشىَّ للموَشِّي شاكراً
بشواردٍ طفحَتْ بودِّكَ تَشهدُ
ومنْ اصطفاكَ قدْ اصطفاكْ مُكلِّلاً
تاجُ القصيدِ على جبينكَ يُعْقَدُ
وذكرتني فشَكرتَني وسَحرتني
ببَديعِ أبياتٍ بفضلِكَ تَخلُدُ
إذْ بينا نَسَبٌ تقادَمَ عهدُهُ
ووشائجُ القُرْبى التي نتعهَّدُ
وبنو أميَّةَ والشَّامُ شآمهمْ
ودمشقُ أمنَ سيوفهمْ تتوَسَّدُ
وبنو أميَّةَ بيتنا منْ بيتهمْ
عدنانُ والنَّسبُ الرَّفيعُ الأصْيدُ
شهِدتْ لنا ولهمْ مواثيقُ العُلاَ
وجَثا الزمانُ بمجدِهِمْ يستنْجِدُ
وأردتُ شَكرَكَ بالثَّناءِ مُضَاعَفاً
لأخٍ لهُ عِندي مُقامٌ أحمدُ
وإذا عَرى قوْلي فإنَّ سكينةً
تغشى نواميسَ الوجودِ فيَركدُ
وغَفَتْ أحاديثُ الخطوبِ لدَى امرئ
تتردَّدُ الدُّنيا ولا يتردَّدُ
فأخذتُ من شَمْسِ النَّهار إياتَها
وسبَكتُهُ فبدا يغارُ العَسجَدُ
قدْ كحَّلَتْ عينَ الصَّباحْ أنامِلي
ودليلُهُ أنْ في يَدَيَّ المِروَدُ
شذراتُ شِعرٍ لا يُلِمُّ بوحيها
إلاَّ أخو بِدَعٍ يَحِلُّ ويَعقِدُ
إنْ كانَ منْ شِعرٍ يَخِرُّ لهُ الوَرَى
فأنا بَدَعْتُ فمنْ تُراهُ سيَسْجُدُ
ولَثِمْتُ أكمامَ البيانِ فراعني
منْ قدْ أتىَ ولهُ المحلُّ الأوْحدُ
ووشمتُ وَجْهَ الشعرِ حتَّى أُضْرِمتْ
نارُ القوافي بالمِدادِ تُوقَّدُ
وكَتَبْتُ مِن آيِ القريضِ قصيدةً
أوْحَىَ بها هاروتُ فهيَ الأجوَدُ
عصماءُ لا إلياذةٌ تَسمُو لها
شأواً ولا ما علَّقوهُ وخَلَّدوا
وتَرَنَّمَتْ بغَريبها وقريبها
الصَّادحاتُ فكَلُّ طيرٍ يُنشِدُ
خَلُصَتْ ولحَّنَ زلزَلٌ إيقاعها
وتساهموا فيها فَغنَّى مَعبَدُ
وتخاصموا أتُزادُ أوتارٌ إلَى
الأوتارِ أم ماذا وكيفَ تُرَدَّدُ
والنَّايُ كيفَ سَيستقِلُّ بِلحنِها
أيُضافُ مَجْرى طولِهِ ويُمدَّدُ
وكَثافةُ المشدودِ في إيقاعِهِ
أيُشَدُّ أكثرَ أم يرقُّ ويَهمدُ
وبَقيَّةُ الآلاتِ هلْ تسطيعُ أنْ
تأتي بألحانٍ بها تتَفرَّدُ
ولمَنْ سَتُنْسَبُ هلْ إلَى بَشرٍ وفي
ما قَدْ حَوتْهُ زمُرُّدٌ وزَبَرْجَدُ
مَحبوكَةٌ إنْسيَّةٌ جِنِّيَةٌ
فيها من العَجَبِ العُجابِ مُحَسَّدُ
أتُراهُ خلقٌ في الكلامِ لروحِهِ
منْ خافِقَيَّ مُجدِّدٌ ومُوَلِّدُ
أمْ أنّهُ نَفْثٌ تقاصَرَ دونَهُ
نَفْثُ الذينَ تجبَّروا وتمَرَّدوا
ووقفتُ لَوْ شفَعتْ لديَّ حقيقتي
أنِّي بجنَّاتِ القريضِ مُخلَّدُ
وبأنَّ لي في كُلِّ حرفٍ آيَةٌ
وبأنَّ لي في كلِّ مجدٍ مَقعدُ
وإذا أحسَّ الماءُ أنِّي عندَهُ
طفقتْ حواشيهِ تثورُ وتُزْبِدُ
قَلِقٌ يضمُّ أناملي لنَميرِهِ
ضَمَّ المشوقِ وقد تأخَّرَ مَوْعدُ
وإذا الخمائلُ أَدرَكَتْ مَنْ عِنْدَها
مالتْ عليّ غصونها تتأوَّدُ
جنَّبْتُ وحشيَّ الكلامِ مُتونَهُ
إلاَّ غرائبَ سائراتٌ شُرَّدُ
فكأنَّهُ من رِقَّةٍ وعُذوبةٍ
بَرَدٌ يذوبُ أو الجُمانُ الخُرَّدُ
قضتِ البدايةُ أنَّ مَطلَعها الثَّرى
لكنَّها نحوَ الثُّريّا تَصْعَدُ
وَرَسَمْتُ أفكاري كمِنظَرِ أجدَلٍ
يرنو إلى الآفاقِ لا يتبلَّدُ
يَلتفُّ حولَ الشّمسِ ثمَّ يرُدُّهُ
زَجِلُ الجناحِ معوَّدا يتصيَّدُ
وكأنَّ صَفَّ الرِّيشِ حِزْمَةُ أسهُمٍ
طُويَتْ ويَعْلَمُ ما يَضمُّ ويفردُ
فإذا نوىَ فالرِّيحُ منهُ بريئةٌ
وإذا هَوى فالصَّيدُ منه مُقيَّدُ
وعَجِبتُ من حالِ الزَّمانِ وأمَّةٍ
كانتْ علىَ عرشِ الثُّريّا تَقْعُدُ
منْ لا يرىَ البدرَ المُنيرَ فَعُذْرُهُ
وافٍ ففي عينيهِ حلَّ الهِدْبِدُ
أوْ من يرى الأيامَ ضَربَةَ لازبٍ
قَصَدَتْهُ ناصِيَةُ الخُطوبِ تُعَربدُ
ورَمتهُ ثالثَةُ الأثافيِّ التي
قَرَعتْ فلا رجلٌ تُغيثُ ولا يَدُ
وأتاهُ وفدُ اليأسِ يحملُ مِنجلاً
لجميعِ ما زَرَعَ المُفايلُ تحصِدُ
ولَرُبَّ أكثَمَ لوْ رأيتَ غُمَيدَر
يلقاكَ إذْ يلقاكَ وهوَ ضَفَنْدَدُ
ألِفَ الحياةَ بِغِبطةٍ وسكينةٍ
حتّى تحلَّ على حِماهُ الموئِدُ
لَمَّا اجْلَعَبَّ تواترتْ أخبارُهُ
فإذا التُّنوحُ بها اليباسُ الأجرَدُ
لاقتهُ وافدةٌ سَهوكٌ سيهَجٌ
منها النّهارُ بها القتامُ الأسوَدُ
وعَليهِ طُحرورٌ شُبارقُ بعدما
ذهبَ الذي يرجو فأينَ المقصِدُ
عاتَبْتُهُ إذ لا عِتابَ يفيدُهُ
وعَليهِ من نَحْتِ التَّلاتِلِ مِبْرَدُ
بعضُ العِتابِ تَخالُ مَزْجَ حروفِهِ
بالصِّرِّفانِ كأنّه يَتَوَقَّدُ
هلْ ذاكَ أمْ ضَمِنُ الرِّهانَ كأنَّهُ
سَهْمُ ابنُ مُقْبِلَ إذْ يُعُدُّ ويُفرَدُ
مُهرٌ تلادٌ إنْ ألَنْتَ عَنانَهُ
سلِسٌ ولوُ وعِرَ الطريقُ خَفيْدَدُ
ويُميِّزُ الأرضَ التي يجرِي بها
والدَّربَ إذْ سهلٌ وإذْ هوَ أصْلَدُ
ولهُ معي منْ دونِ نُطقٍ منطِقٌ
مثلَ التَّخاطُرِ وهوَ بي يستَرشدُ
ويعودُ أشدفَ بعدَ سيرٍ نالَهُ
طمرٍ يُغَوِّرُ لا يَكِلُّ ويُنجِدُ
ولهُ الخيولُ عليَّ صِرْنَ حواسداً
وعليهِ لي كلُّ الفوارسِ حُسَّدُ

اقرأ أيضاً... "داليّة" محمد بن راشد.. بطولة اللغة ونسج البلاغة