فاجأت مجلة «الشمس» (تايو) قراءها في عدد يوليو (تموز) 1993 باختيار مئة كلمة تعدها مفاتيح أساسية لفهم اليابان، حياة وثقافة وتراثاً. ولا أتصور أن ألف كلمة في لغتنا العربية، ولا عدة آلاف من الكلمات، تكفي لفهم حياتنا العربية أو ثقافتنا وتراثنا.

خصصت المجلة لكل كلمة صفحتين: صفحة تحتوي على مقالة تعبر عن الموضوع بأصوله ومفهومه، وصولاً إلى لمحات من تاريخه. وشفعت كل مقالة يابانية بترجمتها إلى الإنجليزية. أما الصفحة الثانية فتحتوي على صورة لها علاقة بموضوع تلك الكلمة، ومنها على سبيل المثال: القمر، انحناءة التحية، جبل فوجي، فتيات الجيشا، الزلازل، الخزف، المعابد، صوفية الزِّنْ، الخريف، الياكوزا (المافيا)، الحديقة اليابانية، المسرح بأنواعه، الرسوم بأنواعها، الشعر، القطار المزدحم، الأشجار، تمثال بوذا، حكاية غنجي، الحيتان، حقول الأرز، أصناف الطعام، الخط الفني، مصارعة السومو... إلخ.
كلفت المجلة 46 باحثاً، من مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية والفنية، ليكتب كل منهم في الموضوع المطلوب مقالة مركزة ما بين 500 و700 كلمة. وبعضهم تناول بالبحث موضوعين أو ثلاثة موضوعات. وإذا كانت الإحاطة بهذه النصوص جميعها تتطلب كتاباً لا يقل عن مئتي صفحة، فمن المفيد أن أختار نماذج متنوعة من عدة كلمات لعلها تفي بالغرض، وتعطي صورة إجمالية ولمحة عامة عن سائر الكلمات وموضوعاتها:

تنسيق الزهور
في تنسيق الزهور Ikebana تستهل الكاتبة شيراسو (ماساكو) مقالتها بمقطع من قصيدة للشاعر كينوشيتا (ريجِنْ) يتحدث فيها عن نبتة أزهار في موسم تفتحها، وهي تؤكد ثباتها في أرضها. والشاعر كتب قصيدته على فراش المرض عام 1922، وقد توفي بعد عدة سنوات من ذلك التاريخ، وهو في الأربعين من عمره. وتعبر القصيدة عن عزيمة راسخة، وشعور بالغبطة الروحية، والشاعر يتطلع إلى الحياة الخالدة التي ترمز لها تلك الأزهار. وتوضح الكاتبة أن الأزهار في الطبيعة جميلة، لكنها تتحول إلى فكرة حالما تلامسها أيدي البشر.
وتواصل الكاتبة قائلة إن تنسيق الزهور مقترن بحفلة الشاي، وإن لم يكن ذلك من البداية. فالأزهار، في الأصل، جزء من القرابين المقدمة لبوذا أو الآلهة أثناء الاحتفالات الدينية. وتنسيق الزهور في الصين كان يتم في أوان من البرونز أو الخزف. وبعد ذلك اقتبسه اليابانيون وأخذوا يقدمونه مع حفلة الشاي. ولما أصبح تنسيق الزهور فناً يابانياً مستقلاً، كان تطوره شبيهاً بتطور الخط الفني من الأسلوب الصيني الصارم إلى الأسلوب الياباني المتميز بانسيابه الحر. وتعتبر الكاتبة أن الآنية التي تحتوي على الأزهار تشكل دلالة عظيمة في بلادها، وأهمها سلة الخيزران.

الوشم
وعن الوشم Irezumi يقول الكاتب ماتسودا (أُسامو)، وهو مختص بالأدب الياباني الحديث: إن جلد الإنسان هو أول قماش عرفه الجنس البشري، وكان بلا شعر. وطريقة تزيين الجسم يمكن أن تكون مؤلمة أو من دون ألم، فالوشم مؤلم لكن الرسم بالألوان ممتع، مبيناً أن الوشم لا يعني أنه أهم، لكنه ثابت ولا يمكن أن يزول. والوشم يعبر عن فئات أو شرائح اجتماعية مختلفة الانتماء، وفق العرق، الجنسية، المهنة، العمر، الطبقة.. إلخ. والوشم قد يرفع صاحبه إلى موقع متميز، وقد يكون وبالا عليه. ولكل وشم في اليابان هدفه المحدد، وعلى الراغب أن يتخذ قرار حياته بدقة. فالإبر التي تغرز اسم الحبيبة، مثلا، قد تتحول إلى ورطة مدى الحياة! والوشم قد يكون شكلاً جمالياً، وقد تطور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وكان له سحره المتميز. أما تطوره الحديث فقد أخذ يغطي الجسم كاملاً، دون أي فراغ.

الألعاب النارية
الألعاب النارية Hanabi ومعناها الحرفي «زهرة النار» أو «أزهار النار». ويقول الناقد كوساموري (شِنْئتْشي): تشكل الألعاب النارية لدى سقوطها نجمة، وغالبا ما تدعى فن سرعة الزوال، وهو يرى أن محبة الناس لهذه الألعاب نابعة من احترامهم لأزهار الكرز Sakura وكلاهما يتناثر ويتساقط بشكل رائع. وهو يستشهد بكتاب «فن النار» تأليف أوغاتسو (كيوسُكِه) الذي يرى أن الألعاب النارية تزهر في السماء بشكل بهي وسرعان ما تخبو، وجمالها يتجلى في سرعة الزوال هذه. ويضيف أن الشاعرة ياسانو (أكيكو) كتبت مجموعة من القصائد عن الألعاب النارية تقول في إحداها: «هي ليست وشما في السماء، لكن تلك النقاط الوهاجة الملونة تخترق السماء، ولا من مزيد». وهي تقارن توهج زهرة النار في سماء الليل بالوشم، لكي تنفي التشابه وتزيد الدلالة عمقاً وتأثيراً.
ويتابع الكاتب حديثه عن مهرجان الألعاب النارية خلال الصيف في منتجع «إيزو» البحري الجميل، قائلا إنه يمثل له قمة الضجر، لكنه لا يغيب عن حضوره، وهو يستمر نحو ساعتين. ويقتبس من الشاعر تومِياسو (فوسيه) قوله: «الأسهم النارية المتباعدة هي قفر موحش يشبه الماء»، بينما يقول الشاعر ياماغُتْشي (سيشي): «أراقب الألعاب النارية، وبعد ساعة يغلبني النوم». والكاتب يميل إلى الإعجاب بمن يستغرق في النوم أكثر من الشاعر الآخر، ولا ينسى أن يشير إلى أن أصول هذه الألعاب من إنجلترا أو من الصين.

الشجيرة القزمة
وعن الشجيرة القزمة Bonsai كتب الناقد كوريتا (إسامو) يقول: تعتبر هذه الشجرة في اليابان كتسلية لكبار السن. وكان الأجانب ينتقدونها بشدة، ويرونها هواية تفتقر إلى الذوق السليم لأنها تشوه شجر الطبيعة. وكان الكاتب يشعر بنفور مماثل، لكن نظرته تغيرت بعد ذلك إذ يشير إلى أنه حين يراها يقف ليتأملها بمتعة وإعجاب، وهو لا يقتني هذه الشجيرة لصعوبة الاعتناء بها، وخاصة أن نموها يأخذ عدة عقود، وقد يستغرق قرنا أو قرنين. ويركز الكاتب على صعوبة تقليمها وتشذيب فروعها، مشيرا إلى ضرورة التناغم بين الطبيعة والذائقة الشخصية، وهذا يفرض حكمه في اختيار الشكل المرغوب.

جزر أوكيناوا
جزر أوكيناوا: ريوكيو Ryûkyû للكاتب تانيغاوا (كِنْئتْشي) وهو باحث في الأعراق، يقول: أوكيناوا واليابان مثل أخوين من أم واحدة، لكنهما من أبوين مختلفين! الأم هي اللغة والعرق، والأب هو التاريخ. إن لهجة ريوكيو تختلف عن لهجة البلاد الرئيسة، لكنها غصن أصيل على جذع اليابان. وهم يعتقدون أن رايْهُوجِن (الإله القادم من البحر) مشترك بينهم من أقصى سواحل الشمال الياباني إلى أقصى جزر الجنوب، كما أن التيار الأسود Kuroshio الذي يجري عابرا جزر أوكيناوا ليلتف حول باقي الأرخبيل حاملا تقاليد شعب الجنوب وثقافته إلى أوكيناوا واليابان معاً منذ عصور ما قبل التاريخ حتى اليوم.
لكن أوكيناوا ما تزال تنتهج مساراً مختلفاً في تاريخها. فقد اندمجت مع اليابان سنة 1879 لما ألحقتها حكومة الإمبراطور «ميجي» قسرا بالبر الرئيس، وكانت مستقلة قبل ذلك. والطريف أن مجتمع أوكيناوا لم يمر بالعصور الوسطى، بل انتقل مباشرة إلى الحداثة. والبوذية كانت ضعيفة جدا هناك، ولم تكن جزءا من الحياة الروحية للشعب، حتى إنهم كانوا ينظرون باستغراب لكثرة المعابد البوذية في كيوتو ونارا.

الغرانيق
الغرانيق Tsuru للباحث في الأعراق ياماوري (تيتسو)، يقول: إن الكركي أو الغرنوق، هذا الطائر الجميل، اتخذته اليابان رمزا لشركة الطيران، وهو يمثل أكثر الرموز اليابانية شهرة في ما وراء البحار. وثمة كثير من الأساطير والحكايات القديمة عن الطيور البيضاء، والغرانيق أبهاها. واليابانيون يحبونها جدا ويتفاءلون بها حتى إن الأمهات والأطفال يشكلون ألف نموذج ورقي منها، تقربا للإله لكي يشفي عزيزا لهم. وباعتقادهم أن هذا الطائر النبيل يعيش ألف سنة، في حين تعيش السلحفاة Kame عشرة آلاف سنة. لذلك نرى هدية الخطوبة نموذج سلحفاة من الذهب. وهم يعتقدون أن الغرانيق هي التي جلبت الأرز في هجرتها من سيبريا، والأرز مادة أساسية في غذائهم كالخبز في البلاد العربية. ويشير الكاتب إلى أن المسرحي الرائد كينوشيتا (جونجي) ألف سنة 1949 (أثناء الاحتلال الأميركي) مسرحية «غرنوق الشفق»، وقدمتها نجمة المسرح المتألقة ياماموتو (ياسوئيه)، وهي تحكي قصة فلاح بسيط أنقذ حياة غرنوق (أنثى)، تحولت سراً إلى امرأة جميلة اسمها (تسو) وقد تزوجها، وراحت تكافئه بأن تنسج من ريشها، خفية، نماذج من القماش مزينة بصور ألف من الغرانيق، أخذ يتاجر بها حتى اغتنى، فطمع بالمزيد وأراد أن يعرف سرها، ولما اكتشفه طارت عائدة إلى سربها وتركته ضحية طمعه وتجسسه. ولهذا الرمز الأدبي دلالاته المتعددة، ولكل مشاهد أن يفسره كما يروق له.

مسرح الدمى
وعن مسرح الدمى Bunraku كتبت سايكي (جُنْكو)، وهي مختصة بالثقافة المقارنة، تقول: إن مسرح الدمى، إلى جانب النُّو والكابوكي، هو أحد هذه المسارح الثلاثة المهمة، ولعله الأهم لأن المسرحين الآخرين قد تأثرا في كثير من خصائص مسرح الدمى واقتبسا منه في أدائهما. وذلك أن مسرح النو يستخدم القناع، كما أنه ليس واقعياً تماماً، وكذلك الأمر في الصوت، وهذه من سمات مسرح الدمى. ومسرح الكابوكي أيضا يبالغ في طلاء الوجوه بالمكياج، كما أنه يتسم باللباس الخاص والموسيقى والرقص والحركة الانسيابية، كما أن أدوار الإناث يؤديها رجال. وتشير الكاتبة إلى أن مسرح الدمى الياباني امتد بتأثيره إلى الولايات المتحدة في مسرحية أو أكثر، وإن كان الممثلون هناك يقومون بأداء أدوارهم بدل الدمى.
.................................................

* ملاحظة: من خصائص اللغة اليابانية أن المفرد والجمع واحد، وكذلك المذكر والمؤنث في معظم الكلمات، كما أن اسم العائلة هو المهم، لذلك أوردته أولا، والاسم الشخصي يليه داخل هلالين.