استمرت مسيرة الطرب الشعبي، وشكلت ظاهرة فنية كبيرة في فترة ما قبل الاتحاد بما أحياها من فنانين شكلت جمهوراً عريضاً في تلك الفترة، وعند ظهور المجددين من الفنانين، بدأت تتضاءل نسب المتابعين من جمهوره، سواء لسماع الفنانين الجدد أو لمتابعة قصائد الشعراء الجدد، ومن هنا اتضح جلياً المكانة الإبداعية لجيل الرواد من الفنانين الإماراتيين الذين طالما استمتعنا بأغنياتهم العذبة التي تحمل الحس الراقي والمشاعر الصادقة الجميلة.
في تلك الفترة الجميلة التي لا تزال عالقة في الذاكرة كانت الأغنية الشعبية الإماراتية عامرة بأعلام الطرب، الذين كانت لهم بصمات واضحة تشكل الذكرى الجميلة، أثروا فن الغناء والموسيقى الحديثة في الإمارات ومهدوا الطريق للأجيال القادمة ليتبوأ هذا الفن الجميل بإبداعهم مكانته اللائقة. وسيبقى الطرب الشعبي علامة بارزة في ثقافتنا الشعبية حتى وإن ظهر الطرب الحديث الذي لا نستطيع مقارنته بالقديم من حيث الذائقة والذوق.
معهد الشارقة للتراث أصدر الجزء الثاني من كتاب «حَرف وعزف.. مقالات عن الطرَبِ الشعبيّ في الإمارات» للشاعر والباحث علي العبدان، ويضم الجزء الثاني مقالاتِ العام 2018، وسيكون متوفراً للجمهور في معرض الشارقة الدولي للكتاب.
كتاب «حرف وعزف» يعرضُ تاريخَ الطرَب الشعبي في الإمارات في بداياتهِ الأولى، ويذكرُ رُوّادَهُ الأوائلَ من مُطربين وشُعراء، وشواهِدَ من مخطوطاتِهم وأسطواناتهم وتسجيلاتِهم، ويُقدِّمُ قراءاتٍ تحليليّةً في أغانيهم، سواء في القصائدِ وأوزانِها أم في الألحان ومقاماتِها، وكان الباحث علي العبدان قد ذكر في الجزء الأول من هذا الكتاب أن وظيفة الكتاب الأساسية هي عرضُ مقالاتٍ تحليليّةٍ نقديّةٍ عن أغاني الطرَبِ الشعبيّ في الإمارات بواقع أغنيةٍ لكل مقال، وكل مقال منها فيه تحليلٌ عَروضيٌّ لقصيدةِ الأغنية، وتحليلٌ مَقاميٌّ للحن الأغنية، بالإضافةِ إلى ذِكر ترجمةِ كلٍّ من شاعر القصيدة والمطرب الذي لحّنها وغناها، وكذلك ذِكر بعض الفوائدِ المعرفية والتاريخية والتذوقيّة في الأدب والفن والتراث الثقافي، والهدفُ من الوظيفةِ المذكورة هو إظهار وتوضيح القِيَم الأدبية والموسيقية الكامنة في قصائد تلك الأغاني الإماراتية وألحانها، وتقريبها من القارئ المهتم.
وكانت الأغاني التي تناولها العبدان بالتحليل في الجزء الأول هي «يا حبيب القلب» للفنان حارب حسن، «قلبك حجر» للفنان محمد عبدالسلام، «حياتي ما لها معنى» للفنان سعيد سالم، «أمسى غثيث ارقادي» للفنان علي بن روغه، و«سافر غناتي» للفنان عبدالله القطامي، كما قام العبدان بالتمهيد لتلك المقالات ببعض المقدمات التي من شأنها تعريفُ القارئ بالمسار التاريخي للطرب الشعبي في الإمارات، وكيف نشأ، وما أهم التأثيرات التي صنعت مختلفَ الإبداعات في مسيرتِه، إلى غير ذلك من ضرورياتِ المفاهيم والمعلومات ذات الصلة بموضوع الطرب الشعبي في الإمارات مما يُعينُ على استيعابه، ويوضحُ بصورةٍ منطقيةٍ مُجملَ التطورات التي جرَت له وفيه، وقد جاء ذلك كله في فصل التمهيد الذي يسبقُ فصلَ المقالات في الجزء الأول.
وفيما يتعلق بمحتويات الجزء الجديد قال العبدان إنه خصّصَ فصليْـن رئيسيْـن من فصول الكتاب لتوضيح تجربة رائدَيْ الطرب الشعبي في الإمارات الفنان حارب حسن والفنان محمد عبدالسلام لِما لتجربتيْهما من أهميةٍ رياديّة، أما فيما يتعلق بالفنان حارب حسن فقد أوضح العبدان تجربته التي خاضها في سبيل ابتداع ما يُمكنُ أن يُطلقَ عليه «الأغنية الإماراتية المحترفة»، وذلك من خلال توضيح بداياته الفنية، وما استلهمه واقتبسه من الألحان وقوالب الغناء وهيئات الأداء نتيجة تأثره بالمحيط الفني الذي كان يعيش فيه، كما وضّح أنواعَ الألحان والمقامات التي استعملها في أغانيه، وأنواع القصائد التي قام بتلحينها من حيث طبيعة أوزانها، وكذلك الإضافات والتطويرات التي قام بها، ومدى تأثيره في المطربين الإماراتيين الذين جاؤوا بعده، وبهذا يتضح للقارئ من خلال الفصل أن حارب حسن هو أول إماراتي يسجل أغانيه على أسطوانات، وهو أول إماراتي يُلحن قصائد الشعر الشعبي الإماراتي في شكل الأغنية المحترفة، وهو الفنان الذي ظهرت معه الأغنية الإماراتية نتيجةً لِما سبق، وهو كذلك من أوائل من أدخلوا فن التقسيم كمقدمةٍ في الأغنية الإماراتية.
«زارني بعد العصر»
في الفصل الخاص بالفنان محمد عبدالسلام تعرّض العبدان لسيرتهِ الذاتية والفنية، وذكر أنه أولُ مطربٍ من دبي يُسجلُ لصالح شركةٍ وطنيةٍ هي شركة «دبي فون»، ومن هنا خصّص فقرة للحديث عن هذه الشركة الرائدة وصاحبها الأديب يوسف الخاجه، وأشار إلى أنها أولُ شركةٍ وطنيةٍ للتسجيلات التجارية في الإمارات، ثم ذكر بعض المطربين والموسيقيين الذين تعاملت معهم الشركة، مع بعض التفاصيل التاريخية والأدبية والفنية، ثم وضع قائمةً لتسجيلات الفنان محمد عبدالسلام، مُوضّحاً قدرَ الإمكان القوالبَ الغنائية وأنواع القصائد التي جاءت منها أغاني تلك التسجيلات بشيءٍ من التفصيل، ومُضيفاً في الوقت نفسه بعض الفوائد الفنية والأدبية والتاريخية المتعلقة بتلك التسجيلات، كما كتب بشيءٍ من التفصيل عن أحد الأصوات التي غناها محمد عبدالسلام باعتبارهِ رائداً لفن الصوت في الإمارات، ولمّا كان هذا الفنانُ مشهوراً بأداء فن الصوت الخليجي قام العبدان بتخصيص ملحقيْـن بهذا الفصل، أحدهما للتعريف بفن الصوت الخليجي، والآخَر لذكر أهمّ مؤدّيه في الإمارات.
وفي قسم المقالات الفنية التي كان عددها ست مقالات لهذا الجزء بدأ العبدان بأغنية «زارني بعد العصر» للفنان جابر جاسم، ذاكراً شاعرها عتيج بن روضه الظاهري، ونص القصيدة، ووزنَها الشعبيّ وهو «السامر»، ثم تحدث عن المطرب الذي لحّنها وسجّلها وهو الفنان جابر جاسم، ثم ذكر المقامَ الذي لحّنَ القصيدةَ عليه، وهو مقام مُحيَّر على نغمة «ري الجواب»، ثم وضّح مسارَ اللحن، وكيفَ توزّعَ على الوزن الشعريّ، وذكر أيضاً الإيقاعَ الموسيقي، ومواضعَهُ الثقيلة والخفيفة في تفعيلاتِ القصيدة، ثم ختم المقالة بفائدةٍ عن أصل هذا اللحن، وأنه مستعملٌ على طبقةٍ أخرى لدى الفنان علي بن روغه.
وكانت المقالة التي تليها حولَ أغنية «بسمتك يا زين»، وهي للشاعر معضد بن ديين الكعبي، فذكر شيئاً من سِيرتِهِ الذاتية، ثم أثبت نصَّ القصيدة ووزنها، كما ذكر جماليات الجرس اللفظي في مفرداتها، ثم عرّفَ بالفنان سعيد الشراري الذي لحّن القصيدة وغنّاها، ثم ذكر اللحنَ الذي اختاره لهذه القصيدة، وهو من مقام الراست على نغمة «فا الوسطى»، وأوضح العبدان كيف توزّعَت جملة اللحن على أشطُر القصيدة، وكيف توزَّعَ الإيقاعُ على أجزاءِ الوزن الشعري ثِقلاً وخِفّة، ثم ختم المقالة بذكر بعض الملاحظاتِ حولَ أصل لحن هذهِ الأغنية.
أما المقالة التالية فكانت عن أغنية «غزالٍ سلبني»، وهي قصيدة للشاعر سالم الجمري الذي ذكر العبدان نبذةً عن سيرتِه، ثم عرض نصَّ القصيدة، وبيّـن وزنَها، وهو من نوع «الجَدوَلي» الشعبي الذي يُعادلُ بحرَ المتقارب في الفصيح، وذكر مزايا الوزن المذكور، وملاحظاتٍ على طبيعة هذه القصيدة، ثم تحدث العبدان عن الفنان محمد سهيل مطرب هذه الأغنية، وعن شيءٍ من سيرتهِ الفنية، وأوضح اللحنَ الذي لحّنَ بهِ هذه القصيدة، وأنه من مقام الراست على نغمةِ «صول الوسطى»، وأوضح مَسارَ اللحن أيضاً، كما ذكر مواضعَ ضغوط الإيقاع في تفعيلات القصيدة، وأشاد العبدان بمجمل أداء الفنان محمد سهيل في هذه الأغنية.
«آه قلبي له بشاشاتي»
وفي مقالةٍ أخرى، تحدث العبدان عن أغنية «آه قلبي له بشاشاتي»، وهي من كلمات الشاعر محمد المطروشي، مثبتاً نصَّ القصيدة وذاكراً الوزنَ حسبَ الراجح لديه، وبعضَ التفاصيل الفنية والأدبية المتعلقةِ بهِ، ثم ذكر المطربَ الذي غنّى هذه القصيدة وهو الفنان حارب حسن، وبيّـن العبدان أنّ اللحنَ الذي اختارهُ حارب حسن للقصيدةِ المذكورة هو من جنس العراق على نغمة «سي نصف بيمول الوسطى»، ثم شرح مسارَ اللحن، ومواضع الضغوط في إيقاعه، كما تحدث أثناء المقالة عن أصل هذا اللحن، وكيف اقتبسه حارب حسن من أغنية صديقه المطرب البحريني محمد راشد الرفاعي، وكيف اقتبسه فيما بعد مطربون إماراتيون آخرون من أغنية حارب حسن، كما ذكر الشعراء الإماراتيين الذين تأثروا بالشاعر المطروشي في بناء هذه القصيدة.
وفي المقالة قبل الأخيرة تحدث العبدان عن أغنية «بي هم وبي ليعات يا أحمد» للفنان محمد عبدالسلام، ولم يذكر شاعرها لأنه لم يقف على اسمه، ولكنه رجح أن تكون هذه القصيدة لشاعرٍ إماراتي، ثم ذكر وزن القصيدة وأنه أحد نوعي وزن «الردح» في الشعر الشعبي في الإمارات، ثم تطرق إلى لحن الأغنية، واصفاً إياه بأنه لحنٌ شعبي، فذكر الجنسَ الموسيقي الذي اعتمدهُ هذا اللحن الشعبي، وكيف أداهُ الفنان محمد عبدالسلام، كما ذكر الإيقاع الذي صاحبَ أداءَ الأغنية، إلى غير ذلك من الفوائد الفنية والأدبية.
أما المقالة الأخيرة لهذا الجزء فكانت عن أغنية «سباني وحش ظبيٍ»، وهي قصيدةٌ لمعالي الدكتور مانع سعيد العتيبة، وقد أثبت العبدان نصّها موضحاً أن وزنها نسيبٌ لوزن الوافر الفصيح، ثم عرّف بالمطربِ الذي لحّنها وغنّاها وهو الفنان سعيد سالم المعلّم، وأوضح مسارَ نغماتِ هذا اللحن القائم على مقام البياتي، وكيف أن سعيد سالم استخدم المقام بسادسته ولم يقتصر على جنسه الأساس فقط كما يفعل الكثير غيره من المطربين الشعبيين، ثم تحدث العبدان عن ضغوطِ الإيقاع الموسيقي في اللحن، ومواضعِها ضمنَ أجزاءِ الوزن الشعري.