عزان المعولي

لا يسأم الإنسان من وهم القوة كشعور مثالي بالتفوق، إنها إرادة مغرورة تؤمن ببلوغ النهاية القصوى للقوة المتعالية على الطبيعة، هذا التوهم بالقدرة الفوقية للكائن البشري يجيز له اختراع التناهي في الفعل التدميري بأشكاله المتمايزة، فالإنسان الحديث يسير في الأرض محملاً بوهم الطاقة المادية التي تحلل له إقصاء الكائنات التي تفوقه عدداً وقدماً جيولوجيّاً. إن هذا الطمس للآخر القديم الذي هو جار لنا في حياتنا الأرضية ككائن حي صار إلى موت أبدي أمام معضلة التوحش التي يؤمن بها الإنسان في قوته المزعومة أو مخيلته التي تخنقه في ذات الآن، إننا نحاول في هذا المقال فهم فلسفة القوة التي آمن بها الإنسان الحديث على مستوياتها الثلاثة: الجسد، العقل، الروح، لماذا آمنا بالإنسان الخارق والقادر على الفعل الحر بالإطلاق في الحين الذي انحسر فيه التفكير بالآخر من غيرنا، أو الذي هو جارٌ لنا في الطبيعة أو العالم.

لقد اخترع الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه فلسفته المتجذرة في فكرة القوة أو الإنسان الخارق، الإنسان الأعلى من بقية الكائنات والمتعالي حتى عن الإنسان نفسه، إن الإنسان النيتشوي الذي بشر به زرادشت كشخصية رمزية لفلسفة نيتشه هو الإنسان القوي الذي تعدى مرحلة الإنسان العادي بما تحتويه هذه الكلمة من كثافة عاطفية وخلقية حاضراً وماضياً، «لقد أتيتكم بنبأ الإنسان المتفوق»، إن الإنسان العادي عند نيتشه هو فترة وسطية بين الحيوان والإنسان المتفوق، هذا المتعالي الذي لا يؤمن بالفضيلة أو العدل أو بما تشي به دلالات الأخلاق، أو بتعبير نيتشه: «لقد آن لكم أن تقولوا ما تهمني فضيلتي»، إنه إنسان خارق تتمثل في وجوديته فكرة إلغاء الخير من القاموس المعرفي لهذا الإنسان الأعلى، الإنسان الأخير.
إن فكرة المثالية القوية نشأت كتراتبية زمنية تفرعت من تعميق معرفتنا التاريخية لفكرة القوة المجردة وابتعادنا بالكلية عن حقيقة الإنسان في هشاشته النفسية أو حقيقة ضعفه واستحالة إدراكه للقوة الخارقة التي تتعالى على الإنسان العادي، لقد تأصلت فكرة القوة في كل جوانبها الاجتماعية والسياسية تاريخياً كتأصيل فلسفي وعلمي لنبأ الإنسان العالي.

الشعراء خارج الجمهورية
إن المدينة الأفلاطونية أرادت أن تكون القوة هي التدرج الطبيعي لنظام المدنية، من ثم كانت فكرة إقصاء الشعراء وإخراجهم من الجمهورية، فالشعر هو الشعور وهو قوة العاطفة وحضور الانفعال، وهو بذلك تعبير عن هشاشة الكائن في نفسه وذاته، إن نجاح الإنسان في تغليب القوة العالية التي لا تعترف بالشاعرية كرمزية لإقصاء العاطفة والخيال والشعور بما هي مفردات حسية تعبر عن الإنسان في مأساته وشعوره النفساني بالجرح المطلق! وبهذا تدرجت فكرة القوة العمياء عبر تطورات زمانية ومكانية انتقلت إلى الفكر العربي في أزمنة لاحقة تداخلت مع التأصيل الفكري لبعض المدارس الإسلامية من حيث إنها غلبت مفهوم القوة على السياسي وشرعت إقصاء التفكير الصوفي بممارسات ممنهجة تبرر التكفير من خلال منطلقات لا تتفق مع حقيقة ضعف الإنسان عن بلوغ المطلق أو عن إدراك القوة الخارقة بمستوياتها في التفكير والنفس.
إننا نسرف في الجهل بحقيقة ذواتنا الهشة، فتدرجنا في وهم القوة بلغ منتهاه عندما قررنا التفوق العالي حتى على الإنسان نفسه، التفوق الوهمي على المادة والزعم بالقدرة على تطويع العالم والظن بالقدرة على الأرض، ومن ثم تأسست مثاليات التطرف وجرائم التطهير العرقي وسياسات البقاء للقوي. هناك وهم بالتفوق لنوع بشري دون النوع الآخر، إننا ننسى حقيقة كوننا عددياً وزمانياً أقل من كائنات أخرى تنتصر علينا في المكان والزمان، نحن موهومون إذن برغبة وهمية في التفوق حتى على ذواتنا التي تطمس ذواتاً أخرى من جنسها ومن غيرها، إن وهم التفوق المتعالي هو الذي يثير الرغبة في طمس الآخر، من ثم تتأسس جماعات أيديولوجية محملة بزعم القوة اللامتناهية كجنس متفوق أو فكرة ميتافيزيقية دموية تبيح لنفسها سياسة القتل العشوائي وشيوع الإرهاب.
يمكن لهذا الوهم المطلق بالقوة المثالية والخارقة في فعلها أن يفني النوع الإنساني إذا ما تماهينا في هذا التمادي الفكري، هذا التأثير على الجسد كإيمان بفعل القوة يتيح لنا خيار التعالي على ما سوانا من أجساد، إنه فعل صائر إلى الفناء كمآل حتمي للجسد البشري، إن فعل الحرب وقُوده التضخم الذاتي والإعجاب المترفع بحجم الأنا، إنها نرجسية تتمركز في قوة الجسد كطاقة ضرورية لتحطيم الآخر بوصفه جسداً ندياً لقوة الذات، إذن متى سنعرف حجم الضعف البشري الكبير، معنى الهشاشة الجسدية في مقابل العالم المفتوح للانهاية.

خروج على البشري
«هل صرت آخر؟ وعن ذاتي غريباً؟ هل خرجت من ذاتي؟ كالمصارع الذي قهر نفسه مراراً؟ الذي أفرط في التصدي لقواه الخاصة، فبدا مجروحاً ومكبلاً بانتصاره الخاص؟»، بهذه الكلمات يرثي نيتشه نفسه وأناه الخاصة، إنه غريب عن ذاته وخارج منها، إنه ليس ذاته الطبيعية بل هو آخر يتنكر لذاته، يتصدى لنفسه ويواجهها كالمصارع المجروح والمنتصر في الآن ذاته، لكن نيتشه هنا لا يبدو أنه يصف نفسه بقدر ما هو وصف للإنسان الحديث أو الإنسان العالي بتعبيراته التبشيرية على هيئة رمزية دينية تمثل حضورها في زرادشت، إن فكرة هذا التعالي أو القوة اللاعادية والتي تقف فوق الإنسان العادي هي خروج عن هوية الذات البشرية، وبمعنى آخر فالإنسان هنا صار آخر غيرياً عن صفته الأساسية، إنه متجلٍّ في الغرابة ومحارب تقليدي ضد طبيعته النفسانية، إن وهم القوة والقدرة المثالية هو خروج عن الشعور الحقيقي بهشاشة الإنسان، إنه الجرح الذي يصيبنا ونتكبل به عندما نخرج على طبيعتنا وننسى أصلنا المتجذر في الضعف.
ما الذي أراده نيتشه إذن، هل أراد أن ينسخ فكرة الإنسان المتعالي بهذه الكلمات الغارقة في الحس الشاعري، هل استيقظت فيه ميتافيزيقا الضعف الذي كنا فيه أصلاً، فتجسدت هذه الكلمات كهشاشة نفسانية جمالية، أم هو تبرير لفكرة الإنسان العالي وتجذير لها من خلال التصدي لقواه العادية، بمعنى صعوده على أكتاف الإنسان العادي رغم فداحة الجرح في داخله الذي يكبله بانتصاره الخاص؟ يتساءل نيتشه في أنشودة الختام مرة أخرى برثاء يبدو مأساوياً جداً ومفرطاً بالخصوصية: «أنسيت الإنسان والإله واللعنة والصلاة؟، أغدوت شبحاً يطوف فوق القمم الثلجية؟»، إنه رثاء من نوع خاص، هذا الإنسان الذي نسي الإنسان ونسي خالق الإنسان والروح في تمثلاتها الدينية، ليس نيتشه هنا ناسياً، بل إنسانه العالي أو الخارق، إنه النسيان الحديث في إطلاقه النيتشوي، هل كان هذا صراعاً ذاتوياً عند نيتشه بين واقعه الشاعري وخيالاته الموغلة في الهشاشة الفلسفية، وبين مثالياته الزرادشتية في فكرة الإنسان القوي الذي لا يمسه الضعف، الإنسان الآخر والطالع من ذاته.

****القوة العالية وشرعنة الوحشية
إن القوة تخلق في الكائن شعور التسلط وتبرير السلطة الفردانية في ذاته، إنها تؤسس في نفسه شرعنة لممارسة قوة اختلقتها فكرة التفوق الذاتي على الغير، من هنا تصير فكرة العنف حقاً مشروعاً كنتيجة للشعور بحجم القوة العالية على الآخر، الشعور بالقدرة المتعالية على الطبيعي سيخلق سببيات مطلقة للحرب على من نؤمن أنه دوننا إن نحن آمنا يقينياً بفكرة الإنسان العالي، الحرب التي يراد لها تطويع العالم للإنسان القوي تطويعاً يمارس العنف ويشرع الوحشية! إن الحرب هنا ليست صراعاً بين متكافئين، بل هي سلطة السيد على العبد، قوة الإنسان العالي على الإنسان العادي كمحاولة لطمسه النهائي من الوجود. لا تبدو هذه الفكرة إذن سوى تبرير مشروع لإبادة الآخر المختلف، أو بداية لنهاية الإنسان كتحطيم متبادل.
متى إذن نعرف ذواتنا، وندرك ضعف داخلنا وهشاشة الكائن فينا، إن الصراع الذي تبدى لنا في فلسفة نيتشه هو تمثيلي لصراع الإنسان الحديث، صراع يتنامى بين الشعور بالقوة وشعور الاغتراب عن الذات، إن هذا الشعور بالغربة الداخلية والمأساوية هو في الحقيقة نكوص لطبيعة الإنسان إلى الأصل الوجودي، أصل الضعف الذي كناه قبل الوهم، أي أنه بمعنى آخر عودة إلى الذات المسجونة فينا وانحسار ضروري لفكرة التعالي.
.................
المراجع:
1- فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، كتاب للكل ولا لأحد، ترجمة فليكس فارس، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014، ص1-10.
2- فريدريك نيتشه، ما وراء الخير والشر، تباشير فلسفة للمستقبل، دار الفارابي، بيروت، 2003، ص284.