إدواردو غاليانو
ترجمة - أمين صالح
1- النظام الذي يبرمج الكمبيوتر، الذي يوجّه إنذاراً إلى صاحب البنك، الذي ينبّه السفير الذي يتناول العشاء مع الجنرال، الذي يلتقي بالرئيس، الذي يخبر الوزير، الذي يهدّد مدير مجلس الإدارة، الذي يهين المدير، الذي يوبّخ مسؤول شؤون الموظفين، الذي يذلّ الموظف، الذي يحتقر العامل، الذي يقسو على زوجته التي تضرب ابنها الذي يركل الكلب.
2- في أورغواي، ارتدى المحققون البدائيون الأزياء العصرية. مزيج غريب من المفهوم البدائي والرأسمالي للعمل.
العساكر لا يحرقون الكتب الآن. إنهم يبيعونها إلى أصحاب مصانع الورق. وهؤلاء يمزقون الورق، يعيدون تشكيلها، ثم يرجعونها إلى السوق للاستهلاك.
ليس صحيحاً أن كتابات ماركس أو فرويد أو بياجيه غير متيسّرة للعامة.. إنها في المتناول، لكن ليس في هيئة كتب، بل في هيئة مناديل الموائد.
3- الأرجنتين تحوّلت إلى مسلخ.
تقنية الاختفاء: ليس ثمة سجناء للمطالبة بإطلاق سراحهم، ولا شهداء للسهر عند جثثهم.
عقوبة الإعدام اندمجت في قانون العقوبات، في منتصف عام 1967، لكن الناس يتعرّضون للقتل كل يوم من غير محاكمة. وفي أغلب الأحوال، لا توجد جثة.
الديكتاتوريات في تشيلي وأورغواي لم تكن متوانية في محاكاة هذا النهج الناجح جداً. موت فرد على يد زمرة الإعدام يمكن أن يسبّب فضيحة عالمية. مع آلاف الأشخاص المفقودين، ثمة دائماً مجال للشك.
العائلة والأصدقاء يقومون ببحث، محفوف بالمخاطر وغير ذي جدوى، من سجن إلى سجن، ومن ثكنة إلى ثكنة، بينما الجثث تتعفّن في الغابات وفي النفايات.
الرجال تزدردهم الأرض. الحكومة تغسل يديها: ليس هناك جريمة للإعلان عنها رسمياً. ولا تفسيرات تُعطى. كل ميت يموت مرات عدة. في النهاية، كل ما يبقى مجرد حالة مشوّشة من الرعب والشك في روح الفرد.
4- الآلة تقرّر أن من يقف ضدها عدو للوطن.
شجب الظلم جريمة في حق الوطن.
أنا الوطن.. تقول الآلة.
معسكر الاعتقال هذا، هو الوطن: ركام من الخراب. نفاية نتنة. أرض كبيرة قاحلة.. خالية من البشر.
كل من يؤمن بأن وطنه بيتٌ لكل فرد، يُقذف به خارج البيت.
5- الأسعار هي الشيء الوحيد الحر. حرية الاستثمار، حرية الأسعار، حرية المقايضة. كلما كانت حرية العمل أكبر، ازداد عدد السجناء.
من سمع يوماً أن الثروة يمكن أن تكون بريئة؟
عندما تحدث أزمة ما، ألا يصبح الليبراليون محافظين، والمحافظون فاشيين؟
لأجل من يعمل سفاحو الشعوب والأوطان؟
وزير المالية في أورغواي قال: التفاوت في توزيع الربح هو الذي يحقّق التوفير. لكنه اعترف أيضاً بأن واقع التعذيب يرعبه. كيف يمكن المحافظة على التفاوت بغير سلاح الإلكترود (القطب الكهربائي)؟
اليمين يميل إلى التعميمات. التعميمات تغفر له ممارساته.
6- ممارس التعذيب موظف. الديكتاتور موظف.
كلاهما بيروقراطيان مسلحان. سوف يفقدان مهنتهما إن لم ينجزاها على نحو فعال.
إنهما ليسا أكثر من ذلك. ليسا مسوخاً فوق العادة. ونحن لن نمنحهما هذا الامتياز.
7- الآلة ترهق الشباب بغاراتها المتكررة. إنها تعتقل، تعذّب، تقتل. وهم البرهان الحيّ على أهميتها. إنها ترميهم خارج البلاد: تبيعهم كلحوم بشرية، أيدٍ عاملة رخيصة للبلدان الأجنبية.
الآلة العقيمة تبغض كل شيء ينمو ويتحرك. هي قادرة فقط على مضاعفة السجون والمقابر. قادرة أن تنتج السجناء والجثث، المخبرين والشرطة، الشحاذين والمنفيين.
جريمة أن تكون شاباً.. والواقع يقترف هذه الجريمة فجر كل يوم. كذلك التاريخ الذي يتجدّد كل صباح. لهذا السبب، الواقع والتاريخ محرّمان.
8- في أورغواي يفتحون سجناً جديداً كل شهر. ذلك ما يسميه الاقتصاديون خطة تنمية.
لكن ماذا عن الأقفاص اللامرئية؟ في أي تقرير رسمي أو وثيقة معارضة يظهر سجناء الخوف؟ الخوف من فقدان المرء لوظيفته، الخوف من عدم الحصول على عمل، الخوف من الكلام، الخوف من الاستماع، الخوف من القراءة.
في بلد الصمت، أي إشراقة تومض في الأعين يمكن أن ترسل المرء مباشرة إلى معسكر الاعتقال. لا حاجة إلى تهديد الموظف بصرفه من الخدمة، يكفي إعلامه أن من السهل إزالته من دون إشعار، وأنه لن يحصل أبداً على أي عمل آخر.
الرقابة تنتصر حين يصبح كل مواطن رقيباً قاسياً على كلماته وأفعاله.
الديكتاتورية تصنع سجونها من الثكنات، مخافر الشرطة، الحافلات المهجورة، المراكب المهمَلة.
وماذا عن البيوت؟ ألم تتحوّل إلى سجون؟
9- من كل مئة طفل يولدون أحياء في تشيلي، يموت ثمانية. حادث أم جريمة؟ المجرمون معهم مفاتيح السجون.
الطعام أكثر غلاء في تشيلي مما هو في الولايات المتحدة. الأجر الأدنى أقل عشر مرات. سائقو التاكسي في سانتياغو لم يعودوا يشترون الدولارات من السياح. إنهم يقدّمون الفتيات اللواتي يعرضن أجسادهن مقابل وجبة.. تلك مقايضة مشروعة.
استهلاك الأحذية في أورغواي انخفض خمسة أضعاف في السنوات العشرين الماضية. في السنوات السبع الماضية، انخفض استهلاك الحليب في مونتفيديو إلى النصف.
كم عدد سجناء الحاجة؟ هل هو حرّ ذلك الإنسان المحكوم عليه بإنفاق سنوات عمره في البحث عن عمل وطعام؟ كم عدد الذين مصائرهم موسومة على وجوههم منذ اليوم الأول الذي يلجون فيه العالم ويبكون للمرّة الأولى؟ كم عدد المحرومين من الملح والشمس؟
10- قائمة التعذيب، القتل والاختطاف والاختفاء، لا تستنزف جرائم الديكتاتورية.
الآلة تعلّمك كيف تكذب، وكيف تكون أنانياً. التضامن جريمة. النصر للآلة. الناس يخشون من التخاطب في ما بينهم، والنظر إلى بعضهم البعض. كل شخص يتفادى الالتقاء بالآخر. حين تلتقي بشخص ويشرع في التحديق إلى عينيك، بإمعان وتركيز، من دون أن يحوّل بصره عنك، فإنك عندئذ تفكّر في رعب، وتقول لنفسك: «آه، سوف ينال مني».
المدير يقول للموظف الذي كان صديقه: «أنا مضطر لأن أقدّم تقريراً سلبياً عنك. لقد طلبوا مني تزويدهم بأسماء. ويتعيّن عليّ أن أعطيهم اسماً.. اغفر لي، إنْ استطعت».
لماذا لا يُدرج قتل الروح، بتسميم الشكل الخارجي، في تاريخ العنف؟
11- نصف مليون من سكان أورغواي يعيشون بعيداً عن الوطن. مليون من باراغواي. نصف مليون من تشيلي.
المراكب تبحر ملأى بالشباب الهاربين من السجن أو الجوع أو الموت.
أن تحيا.. مجازفة.
أن تفكر.. خطيئة.
أن تأكل.. معجزة.
لكن كم عدد المنفيين الذين هناك.. داخل تخوم بلدانهم؟
أين هي الإحصائيات التي تحصي أولئك المحكوم عليهم بالإذعان والصمت؟
الديكتاتورية هي العار الذي أصبح سلوكاً وعرفاً. إنها الآلة التي تجعلك أصم وأبكم، غير قادر على الإصغاء، غير قادر على التكلّم، وأعمى إزاء الأشياء المحظور رؤيتها.
الموت الأول نتيجة التعذيب – في البرازيل عام 1964 – أثار ضجة واعتبر فضيحة قومية.
الموت العاشر نتيجة التعذيب تناقلته الصحف كخبر صغير غير ملفت.
الموت الخامس عشر اعتبر مسألة عادية.
الآلة تعلّم الناس قبول الرعب بالطريقة نفسها التي بها يعتاد المرء على الزكام في فصل الشتاء.
12- أفتش عن صوت عدوٍّ يصدر لي أوامر بأن أكون تعيساً. أشعر أحياناً أن الفرح جريمة، والضحك خيانة عظمى، وإنني مذنب لكوني ما زلت حياً وحراً. يسعدني أن أتذكر ما قاله الزعيم السياسي الوطني هويلكا: «لقد جاءوا إلى هنا. حطموا الأحجار. أرادوا أن يطمسوا وجودنا. لكنهم لم ينجحوا، لأننا ما زلنا أحياء.. ذلك هو المهم».
أعتقد أن هويلكا كان محقاً. أن تكون حياً: انتصار صغير. أن تكون حياً يعني أن تكون قادراً على الفرح، على الرغم من الجرائم والعزل.
ومن المنفى نقدر أن نشهد إمكانية بزوغ نوع مختلف من الوطن. المهمة التي أمامنا هي أن نخلق وطناً حقيقياً، وهذا لن يتحقّق بقرميد مصنوع من الروث. هل سنكون ذا نفع حين نرجع محطمين، مهشمين إلى شظايا؟ الفرح يقتضي بسالة أكثر مما يقتضيه الألم. والألم، على أية حال، شيء اعتدنا عليه.
13- خطة الإبادة: تجريد الأرض من العشب. استئصال النبتة الحية الأخيرة. تغطية الأرض بالملح. بعد ذلك، محو ذاكرة العشب.
لكي تستعمر الوعي، اقمعه.
لكي تقمعه، جرّده من الماضي. اطمس أي علامة تشير إلى أن هناك شيئاً ما في هذه الأرض غير الصمت والسجون والمقابر.
التذكّر ممنوع.
ثمة قوانين جمركية للكلمات،
مواقد للكلمات،
مقابر للكلمات.
وفي الليل يرسلون جماعات من السجناء ليستروا بالطلاء الأبيض كلمات الاحتجاج التي كانت تكسو، في أوقات أخرى، جدران المدينة.
غير أن المطر المتواصل، المثابر، يبدأ في إذابة الطلاء الأبيض. وهناك، شيئاً فشيئاً، تبزغ الكلمات العنيدة من جديد.
عن غاليانو
sإدواردو غاليانو Eduardo Galeano صحفي، كاتب، روائي، شاعر من أورغواي. ولد في سبتمبر 1940 في مونتفيديو، وتوفى في 13 أبريل 2015. في بداية الستينيات، عمل في الصحافة كاتباً ثم محرراً في جريدة يومية. في 1973 اعتقلته السلطات الانقلابية. انتقل إلى الأرجنتين، حيث أسس مجلة «أزمة». لكن في عام 1976، مع حدوث الانقلاب العسكري الدموي في الأرجنتين، واستهدافه من قِبل فرق الإعدام، فرّ إلى إسبانيا، ولم يعد إلى أورغواي إلا في عام 1985 مع التحوّل الديمقراطي.
من مؤلفاته: شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة، ذاكرة النار (ثلاثية روائية)، كتاب المعانقات، أفواه الزمن.
من تأملاته:
s الجدران صحافة الفقراء.
s لم تعد هناك ضرورة لكي تمنع السلطة الكتب، أسعارها وحدها كفيلة بذلك.
s طعام الأقلية هو جوع الأغلبية.
s لبحارةٍ يعشقون الريح، الذاكرة هي المرفأ الصالح للرحيل.
s لا أستطيع أن أنام. ثمة امرأة عالقة بين أجفاني. سأطلب منها، إن استطعت، أن تغادر. لكن هناك امرأة عالقة في حنجرتي.
s عندما يكون صادقاً، عندما يولد لحاجة إلى التعبير، فإن أحدا لن يستطيع أن يمنع الصوت البشري. عندما يكون محروماً من الفم، فإنه ينطق بالأيدي أو العيون، أو المسام، أو بأي شيء آخر. لأن كل فرد منا لديه شيء يريد قوله للآخرين، شيء جدير بأن يُحتفى به أو يغفره الآخرون.
s دهمت الموسيقى البيت وانطلقت محلّقة، عبر النوافذ المفتوحة، صوب الليل، صوب الأرض التي خلت من البشر، وظلت حيّة في الهواء بعد أن توقفت الأسطوانة عن الدوران.
s أنا كاتب ممسوس بالتذكر، تذكّر ماضي أميركا، وتحديداً أميركا اللاتينية.. الأرض الحميمة، المحكوم عليها بفقدان الذاكرة.