حتى وقت قريب كان الرئيس الرواندي، بول كاجامي، والجبهة الوطنية الرواندية التي يتزعمها مقربين من المجتمع الدولي ويُحتفى بدورهما في وقف جرائم الإبادة الجماعية التي جرت في عام 1994 وأسفرت عن مقتل ما يقرب من مليون رواندي، ولكن المجتمع الدولي نفسه الذي ساندهما في تلك الفترة يتهمهما اليوم بلائحة طويلة من الجرائم، فقد أشار تقرير أممي سُربت بعض مضامينه مؤخراً إلى اتهامات موجهة إلى الجبهة الوطنية الرواندية بارتكاب فظاعات داخل جمهورية الكونجو الديمقراطية بين عامي 1996 و1997 "يمكن إدراجها في خانة جرائم الإبادة الجماعية" لما اقترفت قوات الجبهة من عمليات قتل جماعية في حق عشرات الآلاف من اللاجئين الهوتو، وهكذا تحول النظام الرواندي الذي بنى شرعيته الأساسية على دوره في وضع حد للمجازر الرواندية الرهيبة إلى متهم تسعى بعض القوى الغربية إلى تحميله مسؤولية ما جرى. الحقيقة أن رواندا عانت لمدة طويلة من تصورات أسقطتها عليها القوى الغربية التي أعلنت نفسها صديقة لذلك البلد، كما أن التحليلات التي يجريها الخبراء أو من ينصبون أنفسهم على أنهم كذلك، غالباً ما تكشف "الحقيقة" التي يراها المحلل أو الخبير في استنتاجاته أكثر من الحقيقة الماثلة على أرض الواقع، أو المعطيات الميدانية الفعلية. وهذه التصورات المغلوطة المحيطة برواندا ترجع إلى عهد الاستعمار البلجيكي الذي نقل انقساماته الداخلية بين الفرانكفونيين والفلامانيين داخل المعسكر الاستعماري نفسه إلى البلاد المحتلة، بحيث برزت العلاقة بين الهوتو والتوتسي على أنها غير قابلة للمصالحة لتختلط النظريات العنصرية بالمنفعة السياسية التي تحرك الاستعمار، ثم تلاحقت الأحداث التي كرست الانقسام الإثني في رواندا الموروث من الاستعمار حتى بعد الاستقلال وأثناء الحرب الباردة عندما أصبح الرئيس "جوفينال هابياريمانا" المنحدر من الهوتو بمثابة فتى الغرب المدلل في المنطقة بدءاً من المنظمات الإنمائية والكنيسة الكاثوليكية وليس انتهاء بالرئيس الفرنسي ميتران، إذ على رغم ديكتاتورية النظام آنذاك فقد اعتبُرت رواندا في تلك الفترة إحدى قلاع الاستقرار والسلام في الأدغال الأفريقية! ولكن سرعان ما تفجر الوضع وظهرت الشقوق الإثنية بعد اغتيال الرئيس في 6 أبريل 1994 ليفتح أركان النظام أبواب الجحيم على مصاريعها ويعلن التطهير العرقي ضد التوتسي بالسعي إلى استئصالهم من على وجه الأرض، وحينها أصيب حلفاء الرئيس المغتال بالصدمة إزاء المجازر التي ارتكبها نظامه، بل إن بروكسل وباريس واصلتا دعمهما للمتطرفين الهوتو من خلال التغاضي والبطء في التدخل حتى بعد انكشاف هول الكارثة. وبعدها تمكن كاجامي ومتمردو التوتسي من السيطرة على الحكم منهين بذلك مذابح عام 1994، وبسرعة أيضاً ظهر جيل جديد من الغربيين سقط في هيام النظام الجديد مثل التحالف الذي ظهر بين السياسيين الأنجلو-ساكسونيين وموظفي الإغاثة الدولية الذين يجمعهم في ذلك الانتهازية الجيوسياسية، وتقدير حقيقي للإمكانات الأمنية للنظام الجديد وقدرته على الحكم وفرض الاستقرار. ويبدو أن الرئيس الأميركي الأسبق كلينتون ومعه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بلير، أظهرا استعداداً لتجاهل الفظاعات التي ارتكبها متمردو التوتسي ضد المدنيين بين عامي 1995 و1998، بحيث ركزوا فقط على الرؤى التصالحية التي جاء بها فريق كاجامي إلى السلطة، وإذا كان إصرار القوى الغربية على عدم الاعتراف بتصوراتها المغلوطة حول رواندا أوقعها في الكثير من الأحيان في مواقف حرجة مثل ارتكاب الأنظمة التي دعمتها للمجازر في الحالة الفرنسية البلجيكية وتاليّاً في الحالة الأميركية البريطانية، فإن الأخطر من ذلك يبقى فشل تلك القوى في منع إحدى أسوأ المجازر التي خلفت أكثر من 800 ألف قتيل. وبعدما كان المحللون في السابق يصرون على إبراز التعاطف مع النظام الرواندي على رغم طابعه السلطوي لأنه جلب السلام إلى البلاد، نرى نفس المحللين الآن اليوم يلومون نظام كاجامي ويحملونه مسؤولية المشاكل في أفريقيا الوسطى، بل لقد وصل الأمر ببعض المراقبين إلى مساءلة جرائم الإبادة الجماعية في عام 1994 وإدخال نظام كاجامي في الموضوع. وعلى رغم الرواية الموثقة والمعروفة حول ما جرى في رواندا خلال عام 1994 التي تؤكد إقدام الميليشيات الحكومية وقتها ومعها متطرفو الهوتو وعموم الناس على قتل ما لا يقل عن 800 ألف من المواطنين التوتسي في أقل من مئة يوم انتقاماً لاغتيال الرئيس "هابيا ريمانا"، فقد بدأت تظهر اليوم رواية أخرى جديدة تزعم وجود "إبادة جماعية مزدوجة" شارك فيها الهوتو كما التوتسي وتدخل في إطار صراع قديم بين العرقيتين استمر إلى أن خرج عن السيطرة. ومع الأسف لا تقتصر هذه الرواية التي تروج لها بعض الأوساط الفرنسية الساعية إلى تبرئة ساحتها من مسؤولية أخلاقية بسبب صمتها على المجازر عندما كانت في أوجها من خلال تسخيف عقدين من المذابح التي استهدفت التوتسي، بل امتدت أيضاً إلى الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، الجنرال ويلي كليس، الذي كان في عام 1994 وزير خارجية بلجيكا والمحرض الأول على سحب قوات حفظ السلام الأممية من رواندا خلال المجازر، بحيث اعتبر مؤخراً أن كاجامي الذي أوقف المذابح مشترك في إبادة مئات الآلاف من الروانديين؛ وبدلا من تحميل المسؤولية لمن فشل في إيقاف المجازر وهي القوى الغربية التي كانت قواتها منتشرة تحت المظلة الأممية في رواندا واختارت الصمت المخزي والانسحاب المذل فيما الآلاف من المواطنين تقطعت أوصالهم في الغابات على أيدي ميليشيات الهوتو نراها اليوم تسعى إلى اعتبار محنة رواندا مجرد مسألة داخلية. هاري فيرهوفن باحث من جامعة أوكسفورد متخصص في الشؤون الأفريقية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»