عاش جمهور مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، الذي اختتم مؤخرا فعاليات دورته الثامنة عشرة تحت شعار “تجليات الكون”، لحظات استثنائية مع المطربين والمفكرين الذين شاركوا في اللقاءات الفكرية والأمسيات الفنية الهادفة لتغذية الروح والوجدان والتي تعكس جوانب مختلفة من تراث الشعوب. وتميزت الدورة 18 التي احتضنها الفضاء التاريخي “باب المكينة” وقصر البطحاء وبعض “الرياضات” والدور العتيقة بمدينة فاس المغربية، بمشاركة عدة فنانين عرب وعالميين كالفنان وديع الصافي ولطفي بوشناق، إضافة إلى الفنانة الإيسلندية بجورك، والمغنية الشعبية الأمريكية جوان بايز، وفرق من هنغاريا وإيران وفرنسا ومصر والهند وإيطاليا وإسبانيا وباكستان. وكرم مهرجان الموسيقى الروحية العالم والفيلسوف عمر الخيام كرمز صوفي، حيث افتتحت الدورة بأوبريت للمخرج الفرنسي طوني كاتليف، يحتفي بالتراث الروحي والصوفي لهذا الشاعر، اضافة الى تنظيم ندوات وحفلات نجحت في تسليط الضوء على المسار الإبداعي لعمر الخيام في الشعر والفلسفة والعلوم، وتاريخه الحافل بالنظريات الرياضية والمؤلفات والقصائد الشاهدة على تميزه وعبقريته. وبموازاة مع ذلك شارك نخبة من الشخصيات من عالم السياسة والفكر والفن والإعلام في عدة ندوات تناولت حول جملة من المواضيع مثل “بعد الربيع العربي? أي مستقبل” و”الشاعر والمدينة”? و”أزمة مالية أم أزمة حضارة” و”المقاولة والقيم الروحية”. وشكل المهرجان الذي نظم في الفترة ما بين 8 و16 يونيو نقطة التقاء بين مختلف الثقافات العالمية ومحطة لتلاقح الأفكار والانصهار بين مختلف الثقافات والحضارات العالمية، ونجحت مؤسسة “روح فاس” المنظمة للمهرجان في جعله موعدا ثقافيا متميزا تمكن عبر دوراته السابقة من إثبات دوره ومكانته كملتقى لنشر ثقافة التسامح والتقارب بين الشعوب، وذلك من خلال البعد الثقافي سواء تعلق الامر بالموسيقى الروحية أو المعارض الفنية أو الندوات الفكرية. عمر الخيام استحضر الأوبريت الغنائي الذي اخرجه الفرنسي توني غاتليف التراث الروحي والصوفي لعمر الخيام، وقدم حفل الافتتاح الذي ينظم بمسرح باب المكينة التاريخي، عرضا مشهديا لسيرة صاحب “رسالة في الموسيقى”، الذي يعد رمزا لقيم المحبة والتسامح. وتابع أكثر من 5 آلاف شخص عرضا موسيقيا متميزا مقتبسا من حياة وأعمال الشاعر والفيلسوف عمر الخيام، مستكشفين “تجليات الكون” على ضوء رباعياته التي انشدها أكثر من 23 منشد وموسيقي وعازف من الهند ومصر وإيران والمغرب. وفرض السفر الروحي في حياة عمر الخيام هدوء غير مسبوق على جمهور المهرجان الذواق، الذي استمتع لمواويل صدحت بها أصوات الفنانين المشاركين بكل لغات وإيقاعات العالم، وألوانه الموسيقية، وجاء شعار حفل الافتتاح “أسعد للحظة، فاللحظة هي حياتك” متناغما مع وصلات الحفل التي دعت الجمهور الى تناسي الهموم والواقع بمرارته وآلامه ومآسيه، وتكررت الدعوة على إيقاعات الناي والدفوف وبأصوات منشدين من الهند وأوزباكستان ومصر والمغرب الذين تناوبوا على ترديد أشعار الخيام في أمداحهم وابتهالاتهم. وشارك في هذا السفر الموسيقي أصوات منشدين بينهم المصري المكفوف مصطفى سعيد والمغربيان كريمة الصقلي ومروان حجي والهندي أنور كانو، وزيّن فضاء المسرح وجنباته بلوحة فنية كبيرة وشاشات ضخمة في أسفلها صورة المحتفى به، ووسطها أبيات شعر من إبداعه، تراقصت على إيقاع الموسيقى في تناغم وإبداع فني خاص بمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة. ارتباك المصطلح وكان المهرجان في يومه الثاني على موعد مع تساؤلات ملحة بخصوص مآل الحراك العربي، حيث اختلفت وتباينت تدخلات النخبة المشاركة في ندوة “بعد الربيع العربي: أي مستقبل”? وعكس بعضها شبه إجماع حول ضرورة إعادة النظر في مصطلح “الربيع العربي” الذي تمخض عن حركات اجتماعية مختلفة المسارات وليس لها لون واحد? حيث تكررت خلال الندوة عبارة “فصول ربيع عربية” عوض “الربيع العربي”. وحاول المشاركون تناول الموضوع بما يستلزمه من حس نقدي وموضوعية? خصوصا أمام “كثرة التعليقات حول الحدث? وفي غياب تفسيرات علمية” تمكن من توضيح الصورة حول التحولات التي تعرفها المجتمعات العربية منذ انطلاقة ما أصبح يعرف بـ”الربيع العربي”. في هذا الإطار يذكر الباحث إدريس اليزمي بالتقرير الذي أنجزه? سنة 2004، خمسون باحثا عربيا حول التنمية البشرية في العالم العربية? والذي تضمن مجموعة من المؤشرات التي تنبئ باضطرابات مستقبلية? مركزا بالخصوص على عدم المساواة بين الرجل والمرأة وغياب الحقوق والحريات وإفلاس المنظومات التعليمية والتربوية? والضغط الذي يمارسه الإنفاق العسكري على الميزانيات. وأمام “الانتظارات الجارفة” التي ولدتها هذه الحركات الاجتماعية “والتي لم يكن يعادلها سوى حجم الإحباط” خصوصا في أوساط الشباب? دعت أستاذة القانون الدولي آسية بنصالح العلوي إلى “بذل مجهود من أجل إبداع أكبر لفهم الإشكاليات والانتظارات المرتبطة بالتغييرات الحاصلة” بهدف “خلق بيئة ملائمة تمكن من معالجة القضايا المستعجلة”. كما تطرقت بنصالح العلوي إلى “آفاق الريادة” التي أفرزتها التغيرات الحاصلة? وهو ما يستدعي تحرك النخب التي تقع على عاتقها “مهمة توجيه” التحولات وتقديم أجوبة “واقعية” لها. الشعر والمدينة شارك في الندوات وجلسات النقاش في مهرجان فاس نخبة من المفكرين والأكاديميين والجامعيين عرب وأجانب من بينهم طارق رمضان وإدغار موران وليلي أنور وبرتراند فرجيلي والحبيب بلكوش والمعطي قبال وغونار ستالسيت وكاترين مارشال وغيرهم، الذين حاولا البحث في التحولات التي يعيشها العالم والأسباب السياسية والاجتماعية الكامنة وراء هذه التحولات، وناقشوا الإشكالات الكبرى التي تطرحها قضايا ومواضيع متعددة ومتنوعة من قبيل “الشاعر والمدينة” و”الأزمة المالية أو أزمة الحضارة “ وغيرها. وفي ندوة “الشاعر والمدينة” اهتم المشاركون بتشريح مفهوم الخطاب الشعري ووظيفته على ضوء تمثلاته لدى مجتمعات مختلفة، واعتبر المتدخلون ان الشعر شكل مصدر احتفاء بجمالية الكون بالنسبة للبعض وسبيل لصون الذاكرة والموروث الثقافي لدى آخرين ووسيلة لزعزعة الأحكام الجاهزة لدى البعض الآخر. واعتبرت الباحثة النيجيرية في علم الاجتماع اللغوي سالاماتو سو، انه في غمرة الوتيرة المتسارعة التي يفرضها العيش في المجتمعات الغربية الصناعية، فان الشعر هو لحظة سلام وسكينة بالنسبة للحالمين بالاحتفاء بجمالية الحياة وروعة الكون، واوضحت ان النصوص الشعرية في بلدان الجنوب، هي “نصوص مبجلة تحيلنا على القيم الأصيلة فينا كالبذل وثقافة الجمال إنها باختصار أنشودة الحياة”. واضافت أن “العالم في حاجة إلى فضيلة الإنصات، التي يمكن للشعر وحده أن يمنحنا إياها، على اعتبار أن الشعر في الأصل كان شفاهيا”. اما الباحث الفرنسي فريديرك فيرني، فاعتبر ان الشعر، والفن عموما، “ليس في خدمة المثل والأخلاق، بل هو الفضيلة ذاتها أو لا شيء فهو يغير نظرتنا للكون”. واضاف ان “الشعر يستخدم خطابا يختلف عن الخطاب السياسي، بل يناقضه. ففي الوقت الذي يدعو فيه الشعر إلى استكشاف حقيقة الوجود والاحتفاء بجماليته، يصر الخطاب السياسي على إيجاد صيغ للتطرق إلى هذه الحقيقة، تكون في الغالب مؤلمة”. وحاول الباحث الاجتماعي المغربي يونس أجاري، تسليط الضوء على إشكالية أخرى ميزت علاقة الشعر بـ”المدينة” التي ترمز إلى “المجتمع” في معناه الواسع، وقال ان “وضعية الشعر الراهنة مقلقة لأن مكانة الشعر، والثقافة عموما، أضحت أقل أهمية في وسائل الإعلام”، متهما “قانون السوق” في التسبب في هذا الوضع، لأن “الشعر ليس مربحا”. محمود درويش الى جانب الندوات الفكرية والسياسية التي ناقشت التحولات التي يشهدها العالم حاليا، سواء على المستوى الإيديولوجي او السياسي أو الاجتماعي، فقد جذبت امسيات مهرجان فاس المتخصص في الموسيقى الروحية جمهورا غفيرا استمتع بأداء المطربين والمنشدين ولغاتهم وحركاتهم، خاصة حفلات العملاق وديع الصافي والتونسي لطفي بوشناق والمنشد المصري ياسين التهامي. واختار المنظمون أن يكون ختام حفلات مهرجان فاس تكريما لروح الشاعر الراحل محمود درويش في حفل جمع بين معزوفات موسيقية لرودولف بورغه وروث روزنطال ورايس بيك ونص من أشهر النصوص التوراتية وقصائد للشاعر المحتفى به محمود درويش. وشارك فنانون تشكيليون من جنسيات مختلفة في مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة? بعرض اعمالهم امثال الفنان الفرنسي من أصل إيراني حسن مكارمي والفنانة التشكيلية ليلى العراقي? والفنانة الأسكتلندية كارولين فالتون.