العلماء: حب الوطن والدفاع عنه واجب شرعي
أكد علماء الدين أن الوطن الإسلامي أصبح في حاجة ماسة لجهود كل أبنائه حتى ينهض من جديد ويتجاوز الأزمات والمحن التي تكاد تعصف باستقراره، وأن الشريعة الإسلامية تحمل لنا نماذج رائعة في حب الأوطان. وأوضح علماء الدين أن للوطن قيمة ومكانة سامية في الإسلام، وأن الانتماء للوطن ليس مجرد شعارات أو كلمات بل هو حب وإخلاص وفداء وتضحية، وأن الإسلام جعل حب الوطن والانتماء له جزءا من العقيدة وجعل الدفاع عن تراب الوطن واجباً مقدساً.
أكد علماء الدين أنه لا يجوز لمسلم أن يخون وطنه أو يبيعه مهما كان الثمن، كما لا يجوز الاعتداء على الوطن والنيل من مقدراته والعبث بممتلكاته، مهما لاقي الإنسان من ظلم وقهر.
ويوضح الدكتور زكي عثمان ـ أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر ـ أن الانتماء للوطن ليس مجرد شعارات أو كلمات تموت على الشفاه، بل هو حب وإخلاص وفداء وتضحية، فبقيمة الأوطان ترتقي الشعوب وبصلاح الأوطان تسعد البشرية، ذلك أن الوطن في مفهومه الواسع والشامل هو الأرض التي أمرنا الله عز وجل بإعمارها في قوله تعالى: “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” وقوله: “ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون”، والوطن هو الأرض والشعب والنظام والقيم، والإرادة والإدارة، وهناك قاسم مشترك بين الإنسان والوطن الذي يعيش على أرضه، ويتجسد هذا القاسم في التراب الذي تتكون منه أرض الوطن، فمن هذا التراب خلقنا وعليه نحيا وبداخله ندفن الى أن يبعثنا الله يوم القيامة قال سبحانه: “ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون”، فالإنسان خلق في هذه الدنيا للإعمار وليس الإفساد، والمؤمن الصادق هو الذي يعرف قيمة وطنه ويعلي انتماءه له فوق كل انتماء، فحب الوطن ليس ترفا أو رفاهة، بل هو واجب شرعي، كما أن الدفاع عن الوطن ضد المعتدين واجب شرعي أيضاً، لا يجوز التخلف عنه بغير عذر.
ويقول الدكتور محمد الدسوقي - أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة - أن الإسلام جعل حب الوطن والانتماء له جزءا من العقيدة وجعل الدفاع عن تراب الوطن واجباً مقدساً، وتحمل لنا السيرة النبوية الشريفة مثالا رائعاً يجسد مكانة الأوطان في الإسلام وذلك عندما خرج الرسول الكريم ـ صلى الله علىه وسلم ـ مهاجراً من مكة المكرمة الى المدينة المنورة بكى صلى الله عليه وسلم ونظر الى مكة نظرة حزينة وقال كلمته المشهورة “والله إنك لأحب بلاد الله الى الله وأحب بلاد الله الى نفسي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت” فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج مكرها وذهب للمدينة ليبلغ الرسالة ومع ذلك ظل قلبه يتجه نحو مكة التي ولد وعاش فيها ولم يطمئن قلبه صلى الله علىه وسلم حتى نزل عليه قول الله تعالى “إن الذي فرض عليك القرآن لرادك الى معاد”.
وأضاف أن الإسلام علمنا أن حب الوطن من الإيمان فالإنسان بلا وطن لاجئ أو غريب لا يشعر بالحرية والكرامة ولا يعيش حياة طبيعية، ولا تتحقق الحرية والكرامة للإنسان إلا بالحياة في وطن ينتمي اليه ويدافع عنه ويحمل جنسيته ويلتزم بالواجبات التي يكلف بها ويطالب بالحقوق التي يرى أنها لم تتحقق، وهذا لا يحدث إلا في وطن الإنسان الذي ولد وعاش فيه مع أهله وأسرته، فإذا لم يكن له وطن ينتسب اليه ويحمل شعاره سيكون متطفلا على آخرين ولا يشعر بالكرامة والعزة.
وقال د.محمد عبد رب النبي -أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين جامعة الأزهر- إن هناك فرقا بين الانتماء والموالاة، فالانتماء هو الانتساب الى وطن أو أم أو أب أو نحو ذلك، ومن ثم فانتماء الإنسان الى شيء أو شخص أو مبدأ ما، معناه انتسابه اليه واعتزازه بهذا النسب وتشرفه به، لأن من معاني الانتماء في اللغة الارتفاع، فكأن من ينتسب الى شيء يرتفع به.
أما الموالاة فمعناها المحبة والنصرة لشيء أو لشخص أو مبدأ أو نحو ذلك، فالموالاة إذن تختلف عن الانتماء ولكنها من لوازمه، فمن ينتمي الى شيء يحبه وينصره، وهما يشتركان في أن البراء أو التبرؤ يصلح ضدا لكل منهما، فمن يتبرأ من شيء ينكر الصلة التي تربطه به، ويتخلى عن نصرته ويبغضه ويعاديه، وبين المعنيين تلازم قوي، فمن انتسب الى الإسلام مثلا وجب عليه الاعتزاز به ومحبته ونصرته، كما يجب عليه بغض أعدائه والتخلي عنهم والتبرؤ الى الله منهم، وبهذا يتم الإيمان مصداقا لحديث رسول الله صلى الله علىه وسلم “من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان”.
ويؤكد أن الانتماء الى الوطن أو للإسلام ليس مجرد شعارات ولا عبارات شكلية، وإنما هو مسؤولية، فمن ادعى انتماءه وحبه لوطنه فعليه أن يقدم له الخير ويسعى للعمل على استقراره ويتعاون مع أفراده، أيا كان دينهم طالما ليسوا معادين أو محاربين للإسلام فقد قال تعالى:”لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله يحب المقسطين”. وكذلك من اختار الانتماء للإيمان عليه الطاعة والامتثال لأوامره، قال تعالى: “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم” وقد جاءت الأحاديث النبوية لتنفي صفة الانتماء عن البعض بسبب سوء أفعالهم منها: “من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم”، و”ليس منا من غش مسلما أو ضره” و”من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا” و”ليس منا من دعا الى عصبية”و “ليس منا من بات شبعانا وجاره جائع وهو يعلم”. والانتماء الى الوطن وحبه مسألة فطرية والإسلام دين الفطرة ولم يأت ليناقشها، إلا أن هذا الحب يلزمه ضوابط كما يؤكد الدكتور طه عبد الجواد - أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر - ويقول إن من بينها ألا يتعارض حب الوطن مع عبادة الله ونشر الدين، كما يجب ألا يكون حبي وانتمائي لوطني سبباً في بخس حقوق الآخرين ممن يشاركونني في هذا الوطن، فقد أوصى الله بحسن الجوار وإعطاء كل ذي حق حقه فقال سبحانه “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب”. ولأن حب الوطن فطري وتركه أمر صعب على النفس فإن الله وعد من ترك وطنه من أجل الدين بالأجر العظيم فقال سبحانه: “قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”. وقد نعى الله من كان حب الوطن حائلا بينه وبين نشر الدين في أرجاء المعمورة فقال “يا أيها الذين أمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع”.
وينبغي أن نفرق بين الانتماءات الصادقة سواء للدين أو للوطن، والأخرى الكاذبة، ويشير الدكتور طه عبدالجواد، الى أن التعصب من أبرز ملامح الانتماء الكاذب، سواء الى جنس أو لون وأرض أو وطن، موضحاً أن هناك من يدعون أن من لا يتعصب لجنسه أو عرقه أو وطنه فهو الخائن، على الرغم من حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يذوب التعصب من أجل جنس أو لون فقال:” أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى” ولما حاول اليهودي شاس بن قيس أن يشعل نار الفتنة بين الأوس والخزرج وكادت خطته تنجح، وقام من ينادي بالتعصب للأوس وآخر بالانتماء الى الخزرج، جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكم على هذا التصرف بأنه مناقض للدين فقال:”دعوها فإنها منتنة، أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم”.
إحياء الانتماء
يؤكد الدكتور محمد المختار المهدي -عضو مجمع البحوث الإسلامية- أن إحياء الانتماء للإخوة الإسلامية من أهم ما يمكن لأن في التجمع قوة، وقد أدركت أوروبا قيمة هذه الوحدة فأمرت بالاتحاد الأوروبي، أما نحن فلم ندرك هذه الحقيقة بعد، بدليل أن منظمة المؤتمر الإسلامي عندنا حبر على ورق. ويشير الا أن الانتماء للوطن يجب أن يكون في إطار الحفاظ على الهوية، بمعنى أن يكون الدفاع عن الوطن لا باعتباره أرضا ومكانا فقط، ولكن لأنه الوسيلة لتحقيق هدف الأمة الإسلامية والحفاظ على هويتها، فنحن أمة لها جذورها التاريخية ولها رسالتها العالمية، ولو أن الشباب أدرك حقيقة أن له تاريخا ورسالة، وأن مسؤوليته هي إنقاذ البشرية من منطلق قوله تعالى “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” فستتفجر طاقاته للبذل للوطن والأمة بل وللعالم كافة، والحقيقة أننا نمتلك القدرة على تحقيق هذا الهدف بشرط التكامل والتعاون بين دول العالم الإسلامي.
ويشير الى أهمية دور المؤسسات الدينية في بث روح الانتماء باعتباره المرجعية للأمة الإسلامية، محذرا من أن تراجع دور مؤسساتنا الدينية أعطى الفرصة لوجود قوى تطعن في الإسلام مستخدمة شتى الوسائل الإعلامية والدعائية، كما ساعد هذا التراجع على ظهور وانتشار تلك الجماعات المتطرفة التي تدعي أنها تصلح ما هو موجود من فساد في المجتمع، وتعتبر مبررها هو العودة الى السلف الصالح وقوة الإسلام الأولى، فإذا أردنا أن ننزع البساط من تحت أقدام هؤلاء العابثين فعلينا إعلان هدفنا والانتماء اليه والبدء في تحقيقه.
لا يجوز الاعتداء على الوطن
يؤكد الدكتور زكي عثمان، أنه لايجوز لمسلم أن يخون وطنه أو يبيعه مهما كان الثمن، كما لا يجوز الاعتداء على الوطن والنيل من مقدراته والعبث بممتلكاته، مهما لقي الإنسان من ظلم وقهر، لأن الظلم يكون من إنسان مثله وليس من الوطن، فالأوطان لا تستحق من أصحابها ما نراه اليوم من عبث وتخريب وتدمير مهما رفع المعتدون من شعارات إصلاحية، فكيف يبدأ الإصلاح بالإفساد في الأرض وتدمير الأوطان.
المصدر: القاهرة