التقارير التي تصدر عن جهات عالمية حول السعادة تحاول أن تتقصى سعادة الناس من خلال معايير معينة تختلف من جهةٍ لأخرى من أجل مساعدة الشعوب في الحصول على حاجتها من السعادة وتأمين الوسائل الناجحة لسياسة الحكومات والدول لتوفير مستلزمات السعادة، ولعل أهمها هو تقرير السعادة العالمي الذي تقوم به شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة.
في يوليو/ تموز 2011، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يدعو الدول الأعضاء إلى (قياس مقدار السعادة)، وبعد أقل من عام عقد الاجتماع الأول للأمم المتحدة رفيع المستوى حول «السعادة والرفاه: تحديد نموذج اقتصادي جديد». وبعد عام من الاجتماع صدر تقرير السعادة العالمي الأول كنص أساسي للاجتماع، ولفت انتباهاً دولياً باعتباره أول مسح عالمي للسعادة في العالم، حيثُ حدد التقرير حالة السعادة العالمية وأسباب السعادة والبؤس والآثار المترتبة على السياسات التي أظهرتها دراسة الحالة. ثم بدأت التقارير السنوية بالظهور كل عام، وهي متاحة للجمهور العام ومنشورة على موقع تقرير السعادة العالمي، في التقارير يتضمن كبار الخبراء في العديد من المجالات كالاقتصاد وعلم النفس، والإحصاء وغيرها، وتتضمن كيف يتم قياس الرفاه والمسائل المتعلقة بالسعادة، بم ا في ذلك الأمراض العقلية، والفوائد الموضوعية للسعادة وأهمية الأخلاق، وتقرير التنمية البشرية.
يضم التقريرالسنويّ أكثر من 150 دولة، ويتم وفقاً لعدد من المعايير منها: نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، ومتوسط العمر، والحرية، وسخاء الدولة على مواطنيها، كما يتضمن الدعم الاجتماعي وغياب الفساد في الحكومات أو الأعمال. نالت فنلندا المرتبة الأولى، في التقرير السنوي لعام 2018، كأسعد بلد في العالم، ونالت دولة الإمارات العربية المتحدة المرتبة العشرين في دول العالم، وكأسعد بلدٍ عربيّ.
البحوث والتحريات الميدانية
منذ الستينيات بدأت أبحاث السعادة في مجموعة واسعة من التخصصات العلمية، بما في ذلك علم النفس الاجتماعي، البحوث السريرية والطبية، اقتصاديات السعادة، وعلم الشيخوخة. وقد أجريت مجموعة من الدراسات الميدانية، العملية والعلمية، حول السعادة ومنها الدراسة الميدانية للبروفيسور هوايت بجامعة ليستر بالمملكة المتحدة والتي شملت آلاف الأشخاص في كل أنحاء العالم، ودراسة الصحيفة الطبية البريطانية، وتوصلت الأبحاث إلى مجموعة من الحقائق نُجملها هنا باختصار:
1. هناك اهتمام سياسي متزايد من قبل دول العالم باستخدام معايير لتحديد مستوى السعادة.
2. يطالب أكثر من 80 بالمئة من المشاركين فيها الحكومة أن تركز أكثر على ما يجعلهم أكثر سعادة وثراء.
3. هناك علاقة وثيقة بين مستوى السعادة والصحة والثروة والتعليم.
4. هناك مايعرف بـ (عدوى السعادة) حيث تنتقل السعادة ضمن أصدقاء أو أفراد الأسرة الواحدة، وأقل من ذلك بين زملاء العمل، وقد يساهم ذلك بشكل غير مباشر على انتقال عدوى الصحة الجيدة.
5. السعادة مفهوم نسبي، إذ أن مصدر السعادة لشخص واحد قد لا يكون مصدر السعادة لآخر.
6. تتشكل مجموعات من الاشخاص السعداء والتعساء وفق معايير اجتماعية وجغرافية، حيث تزداد السعادة كلما كان الأشخاص المرتبطين بها قريبين من بعضهما مكاناً ومرتبةً.
7. التفاوت في مستوى سعادة الفرد يمكن أن ينتشر على شكل موجات عبر مجموعات اجتماعية ويشكل بنية أوسع ضمن شبكة واحدة وتنتج عنها مجموعات من الأفراد السعداء والتعساء.
8. السعادة طويلة الأمد هي عبارة عن سلسلة من محفزات السعادة القصيرة الأمد، وتتجدد باستمرار لتعطي الإيحاء بنوع من السعادة الأبدية.
نظريات تفسير السعادة
النظريات التي حاولت تقديم تفسير للشعور بالسعادة، اعتمد بعضها على وجهات النظر الفلسفية، والآخر على وجهات النظر البيولوجية والفسلجية (الوظيفية)، والنوع الثالث على وجهات النظر النفسية الاجتماعية، بعضها ركز على الجوانب السطحية كنظريات اللذة أو المتعة، في حين أكدت نظريات أخرى على تغلب السرور على الألم، في حين أنّ نظريات الرغبة تؤمن بأنّ تحقيق الرغبة يساهم في سعادة الفرد بغض النظر عن كمية السرور. ونجد نظريات أخرى ركزت على الجانب الوراثي:
1. نظريات المتعة (اللذة): وهي نظرية لـ«بنتهام» التي ترى أن السعادة هي تغلب السرور على الألم، وأن السرور هو الأمر الوحيد المفيد للإنسان، وبحثت في المتع وأنواعها الجسدية وهي الأساسية مثل (الطعام والشراب والجنس)، وهناك المتع الروحية والنفسية.
2. نظريات الرغبة: حيث يتم إشباع الرغبة في حالة الحصول على الحالة المطلوبة وعندها تتحقق السعادة، بالتالي يعتبر تحقيق الرغبة وفق هذه النظريات شرطا ضروريا للسعادة. وتتدرج الرغبات من الرغبات البسيطة وصولاً إلى خطط الحياة طويلة المدى، أو إلى رغبات داخلية جوهرية أو رغبات خارجية عرضية.
3. نظريات القمة/القاع، والقاع/القمة: ترى نظرية القاع/القمة أنّ السعادة مجموعة من اللحظات الصغيرة السارة والإيجابية، كالعمل والزواج والنجاح، أما نظرية القمة/القاع فترى أن السعادة سمة شخصية وميل عام للتفاعل الإيجابي.
4. نظرية السعادة: وهي نظرية مارتن سيلجمان، حيث قسّم أنواع السعادة وفق نوع الحياة التي يعيشها الفرد، إلى ثلاثة مكونات (الحياة المبتهجة، الحياة الملتزمة، الحياة ذات المعنى). وفي كل نوعٍ من هذه الحيوات هناك مجموعة من القيم التي يحاول الفرد إشباعها لينال سعادته.
5. نظرية الحالة الانفعالية: وهي نظرية هايبرون حول مايسميه بـ (الوجدان الإيجابي)، حيث السعادة مجموع انفعالات الشخص وأمزجته ونزعاته الوراثية. ورأى أن هناك أحداثاً مركزية تؤثر مباشرة في السعادة، وأحداثاً محيطية لها تأثيرات غير مباشرة.
6. نظرية المعيار الوجداني الديناميكي: وهي نظرية بريمنر الذي يعتمد على مشاعر الفرد ومدى ونوع تذكره للأحداث التي سببت السعادة له، وتتغير المقاييس من عمر لآخر ومن حالة لأخرى.
7. نظرية المقارنة الاجتماعية: وهي نظرية فينهوفن التي ترى بأن السعادة تنتج من المقارنة الاجتماعية مع الآخرين، ومع شروط الحياة السابقة، ومع التطلعات التي يسعى لها الفرد.
الغزالي وابن مسكويه
يمثل كتاب (كيمياء السعادة) لأبي حامد الغزالي، بمجلدين كتبا بالفارسية ثم ترجم الغزالي مقتطفات منه بايجاز إلى اللغة العربية بكتاب صغير مكوّنٍ من مقدمة وواحد وعشرين فصلا هي: معرفة النفس، معرفة القلب، كيف تعرف نفسك، ما حقيقة القلب، لماذا خلق القلب، معرفة عساكر القلب، معرفة القلب وعسكره، وظيفة القلب، ثلاثة أشياء تبنى عليها السعادة، أحوال القلب مع عسكره، الأخلاق الحسنة والأخلاق القبيحة، هل الصور تابعة للمعاني؟، في عجائب القلب، القلب مثل المرآة، متى يحجب القلب عن مطالعة عالم الملكوت؟ متى يطالع القلب عالم الملكوت، من طلب وجد، النفس مختصرة من العالم، في معرفة تركيب الجسد، تفصيل خلقة بني آدم، متى تفضل البهائم ابن آدم.
جوهر بحث الغزالي عن السعادة هو في جانبها الروحيّ والصوفي الداخليّ التي تلتمس من المعرفة الإلهية سنداً قوياً ومن مجمل العلم والمعرفة حاضنة لها ويصرح في هذا المجال أن الانشغال بطلب العلم، وتعليمه للآخرين هو أفضل الاعمال التي من الممكن للإنسان أن يزاولها فهو يقول: وبعد أن علمت أن الجاهل والأميّ لايمكن أن يكون في مأمن من الخطر يتبين لك أن لا عمل ينشغل به الإنسان أسمى، وأكثر فضلا من العلم، لأن الأعمال الأخرى إنما يكون الهدف منها طلب الدنيا، في حين أن الهدف من طلب العلم، وتعليمه، إصلاح أوضاع الخلق في هذه الدنيا.
أما أحمد ابن مسكويه، في كتاب السعادة في فلسفة الأخلاق وكشف الغمة عن الصورة الإنسانية، فيرى أنّ السعادة جسميّة ونفسيّة معاً، والسعادة الدنيويّة ناقصة لأنها تنبع من عالم الحِس ولذلك يكون سببها ونتيجتها الألم، أما السعادة الآخروية فهي السعادة الحقيقية لأنها تقوم على أسس روحية، وهي بعيدة عن الألم والحسرات الدنيويّة، والأخلاق هي غاية السعادة، ولابد من العناية بالأخلاق وتهذيبها وصقلها للوصول إلى التوازن بين الحاجات المادية والروحية.
يونغ: التحكم بنماذج الأعماق
ينفرد علم النفس اليونغي بمعالجةٍ عميقةٍ للجوانب الداخلية الخفيّة للسعادة، حيث التحكم بالأركيتايبات «Archetypes» (النماذج البدئية) وتوازنها هو الذي يخفي سرّ السعادة، فما هي هذه الأركيتايبات؟
ينقسم اللاشعور إلى لاشعور فردي، ولاشعور جمعي، الفردي وهو الجزء العلوي من الشعور، الذي يحتوي على الذكريات الشخصية المنسية، والصدمات، والرغبات المكبوتة، والنزوات الفردية، والعقد، وهذه المكونات جرى إحباطها وعدم شحنها بالطاقة، أو الهروب منها، ودفنها، والتي قد تتحرّر، أحياناً، في الأحلام. أما اللاشعور الجمعي، فيحتوي على النماذج البدئية أو الأركيتايب، التي تُعَدُّ نوعاً من الأشكال الغريزية، التي تعبر عن نفسها بصورة رمزية تنتمي، عادة، إلى لاشعور جمعي متوارث، وهي تتنوع بحسب الطبيعة، والبيئة البشرية. ولذلك فإنّ عدد وأنواع الأركيتايب لا نهاية له، على الرغم من وجود مشتركات عامة بين البشر.
كانت الأركيتايب، بالنسبة إلى يونغ، مثل ضالة عثر عليها ليبني نظريته الجديدة في التحليل النفسي بعيداً عن طروحات فرويد، التي سيطرت على ساحة التحليل النفسي، وأعمت العيون عن احتمالات أخرى غير الجنس، ويقيناً أن يونغ اطلع على (مُثل) أفلاطون و(مونادا) ليبنتز، ولكنه اختار له طريقاً خاصاً في الأركيتايب. ويرى يونغ أن هذه الوحدات الموغلة في أعماقنا تمنحنا السعادة حين نتعرف عليها ونتداولها بيننا أو مع الواقع. ويستشهد بما يسميها بـ (أزمة منتصف العمر) حيث يشعر الإنسان، جاندرياً، بموجات من النوع الجاندري الآخر تصعد من أعماقه المحتشدة بالآركيتايب، ويرى أن مرونة التعامل معها والاستعانة بالطاقة الروحية والدينية هي من يُغني الإنسان ويجعلهُ سعيداً.
الفلسفة الصينية
ومن الصين يأتي الصوت الهامس الخفيض المتواضع في تعريف السعادة من خلال تجربة عميقة للفيلسوف الصيني (شاو يونغ) وهو أحد الفلاسفة الذين جمعوا بين التاوية والكونفوشيوسية في مايعرف بالكونفوشيوسية الجديدة، وعاش في القرن الحادي عشر الميلادي، حيث وضع فلسفته عن السعادة في قصيدة فلسفية عنوانها «أغنية السعادة» قبل وفاته بعام، بعد أن اعتزل حياة الأباطرة لثلاثين عاماً، وعاش مع العامة على ضفاف نهر (لو)، اختار الحياة البسيطة بعيداً عن الضجيج، ورسم فيها سلوك العارف العميق من خلال رؤيته المشبّعة بالتاوية والتصوف الاجتماعيّ، وهذا نصّها الذي ترجمه المفكر هادي العلوي في كتابه (مدارات صوفية ص143- 144):
اسم سيد السعادة مجهول
من ثلاثين سنة يعيش على ضفاف نهر (لو)
مشاعره هي مشاعر الريح والقمر
روحه على النهر والبحيرة
ليس عنده من فارق
بين المنصب العالي والمنصب الواطي
بين الفقر والغنى
لا يجري مع الأشياء ولا يساهم فيها
لا قيود لديه ولا تحريمات
فقير لكنه غير آسف
يشرب ولا يسكر
يستجمع وقت ربيع العالم في ذهنه
عنده بِركة صغيرة يقرأ عليها القصائد
وشباك صغير ينام تحته
وعربة صغيرة يسلّي بها خاطره
وقلم عظيم ينفّذ به إرادته
مرة يعتمر بقبعة شمسية
ومرة يرتدي قميصاً بلا أكمام
وقد يتمشى على ضفّة النهر
يتمتع بالنظر إلى الناس الطيبين
ويستمع إلى حكاياتهم عن السلوك الحسن
متعته في تحقيق الإرادة الخيرة
لا يمدح أسياد الجان
ولا يثني على صاحب الطقوس السحرية
ومع أنه لا يخرج من داره فهو مع السماء والأرض لوحده
هو من لا يُرهبه الجيش العظيم
ولا يغريه الراتب العظيم
وهكذا فهو إنسان سعيد
لمدة خمس وستين سنة