بقلم: آن شانغ
ترجمة وتقديم: عبد السلام بنعبد العالي

هذه مختارات من الدرس الافتتاحي الذي ألقته الأستاذة «آن شانغ» سنة 2008، عندما أسند إليها كرسيّ «التاريخ الثقافي للصين» بالكوليج دو فرانس، وكان تحت عنوان: «الصّين، هل هي تفكر؟».
اخترت أن أنقل هذا النصّ المهم للقارئ العربي لأسباب متعددة، فإضافة إلى ثرائه، وإلى محاولته خلخلة الصورة المترسّخة عن الصين، وكونها «حكمة قديمة» لا تفكر الآن مثلما «فكرت» في الماضي، وفضلا عن كوننا قد نجد أنفسنا في الصورة التي يرسمها للصين في علاقتها بتراثها، وبما يروج في العالم المعاصر، فضلاً عن كل هذا، فلعل في هذا الدرس أيضا جواب عن الاعتراض الذي يبديه بعضنا إزاء توجُّهنا نحو الفكر الأوروبي، وإهمالنا لما قد تحبل به ثقافات معاصرة أخرى من فكر قد يغنينا عن كل نظرة أحادية، بل يحررنا من كل تبعية لكل تمركز حول ذات ثقافية بعينها.

من أهم النقاط التي يثيرها هذا الدرس الافتتاحي هو محاولة تفنيد الرأي الذي يذهب إلى أن الفكر الصيني هو أساسا «حكمة قديمة» ظلت بمنجى عما يهز الثقافة العالمية. والغريب أن هذه الفكرة هي التي نلفيها حتى عند الدارسين الغربيين أنفسهم، بل لعلهم هم من رسخوها. تنتفي إذاً تلك الرؤية الاختزالية التي تجعل من الفكر الصيني «الآخر المطلق»، وتعتبر أن التوجه نحوه قد يمكن أن يكون طريقاً إلى التخلص من هيمنة نزعة التمركز حول الذات الأوروبية، وبديلاً جديداً كل الجدة عن «الثقافة الغربية».

رؤية اختزالية
إن هذه الرؤية الاختزالية ترى إلى الثقافة الصينية على أنها، من شدة ما فكرت قديما، لم يعد بإمكانها أن تفكر. ما يحاول هذا الدرس الافتتاحي بالضبط أن يثبته هو أن الصين فكّرت... ولا تزال تفكّر:
«..من جهتها لم تعد الصين تقبل أن تظل سلبية، مثل صورة جامدة تسلم نفسها للدرس، وإنما غدت محاورا فعّالا يساهم في جدالاتنا، وذلك لسبب وحيد، وهو أنها انكبّت، منذ ما ينيف على ثلاثين سنة (أي منذ جيل)، انكبت على تحصيل كل ما جاءت به العلوم الإنسانية الغربية، كما انكبت منذ وقت قريب، على إعادة تملك تراثها الفكري والثقافي، انطلاقا مما يخزّنه ماضيها. إن الاكتشافات الأركيولوجية، ورغم ما ينطوي عليه الأمر من مفارقة، كانت قد ابتدأت في خضمّ الثورة الثقافية، وهي تضاهي، في حمولتها والوقْع الذي خلفته على نظرتنا إلى العهود الصينية القديمة، تضاهي اكتشاف مخطوطات البحر الميت: فقد عملت على تأكيد صحة بعض المصادر التقليدية، في الوقت ذاته الذي خلخلت تصوراتنا التي ورثناها عمّا كان يُعتبر أمراً مسلَّماً به. بعد انقضاء العهد الماوّي استحوذ على المثقفين الصينيين تعطشٌ كبيرٌ دفعهم لأن يتهافتوا على كل ما هو جديد صادر عن الأوساط الجامعية الغربية، وخصوصا ما يأتي من أميركا الشمالية. ومن سخرية الدهر أنّ الموضات الثقافية الأميركية هي التي كانت واسطة في تعرّف النّخب الثقافية الصينية على الفكر الفرنسي الحديث، أو ما يُطلِق عليه الأميركيون «النظرية الفرنسية».
أعقبت هذا سلسلةٌ من «أشكال الحمَّى» طبعت العشر سنوات الأخيرة: الحمّى الثقافية المتأثرة بماكس فيبر، النزعة البراغماتية، البنيوية، التفكيكية، ما بعد الحداثة، ومنذ بداية سنة 2000 أصابت حمَّى أخرى عالم الثقافة، وهي إحياء التراث و«الدراسات الوطنية»: وهكذا أرادت الصين أن تكون هي نفسها فعالة في إعادة تملُّك ماضيها. ليس بإمكاننا والحالة هذه أن نتجاهل وجهة نظرها، حتى وإن كنّا سنجانب الصواب إن اعتقدنا أن معاصرينا الصينيين هم بطبعهم أقدر من الغربيين للحكم على تراثهم، بحكم أنهم انفصلوا عنه بفعل التحديث ومن جراء قرن من الثورات، إذ إنهم، عندما لا يكونون تحت تأثير التأويلات الغربية التي استوعبوها، بكيفية لاشعورية في بعض الأحيان، بفعل الوقوع في نوع من الاستشراق الذاتي، فإنهم قد يقعون ضحية أطروحات ذات منحى ثقافوي فيتوهمون أنهم يمتلكون الحقيقة بدعوى انتمائهم إلى أصل «أصيل»، إن لم نقل أصلا جينيا. علينا أن نوليَ انتابهنا الشديد لشروط هذا التملُّك وأهدافه، وهو تملك يتم على خلفية أيديلوجية متفجرة: إنه استغلال لشعور بالانتقام من تجربة احتقار واستلاب تمت معاناتها منذ قرن ونصف، وكذا تجربة انبهار بصعود وترقٍّ ضمن السياق المعَوْلم الجديد. صحيح أنها نقاشات وأبحاث من شأنها أن تتعرض للتوجيه من طرف هذه الرهانات نحو دلالة مموهة علينا أن نقيس قوتها كي نتحاشاها ونحتمي منها، ولكن عندما يحصل أن تكون أصيلة ومجدّدة، فعلينا كذلك أن نأخذها بعين الاعتبار.
وأخيراً، لا ينبغي أن ننسى أن كل هذا يتمّ على خلفية عولمة تكنولوجية. إن الطريق السيّار الذي يربط الولايات المتحدة بالصين الذي أومأتُ إليه في البداية، هو أيضا طريق المعلومات. إن السياق المعَولم الذي نعيش فيه اليوم، يدفعنا دون انقطاع، نحو مزيد من التنوع والحركة ورد الفعل، ولكن أيضا، نحو مزيد من السرعة والاستعجال. بفضل الشبكة العنكبوتية، التي يستخدمها الصينيون استخداما أكثر اتساعا وشدة مما عليه الأمر عندنا في أوروبا، فإن عرض المعلومات اليوم غداً لامحدوداً، كما أن انتشارها يتم من أقصى مناطق المعمورة إلى أقصاها، مما يفرض تنبها آنياً، وقدرة على الالتقاط والهضم، وسرعة كبيرة في رد الفعل تبعث على الدوار. إن التحولات التي عرفها الواقع الصيني اليوم، تعكس تمام الانعكاس هذه السرعة التي لم يتقدم لها مثيل، والتي تفرض بدورها إيقاعاً جنونياً على الدراسات الصينية. نتفهم، والحالة هذه، كون الباحثين الشباب يطالبون بتجديد الدراسات الصينية، بما هم مسلحون بأبحاث ميدانية وباتصالات دولية ومقاربات تستفيد من تداخل التخصصات. (...)

حوار الصمّ
يحلو اليوم للكثيرين الحديثُ عن «حوار الثقافات». وما من شك في أن هذه طريقة ملائكية لوقف الخطاب الحربي حول «صدام الحضارات». إلا أننا، بدل الحوار، نجد أنفسنا في بعض الأحيان أمام حوار الصمّ، كما بيّن ذلك مؤخراً أحد الصينيين المهتمين بالعلوم الاجتماعية حيث كتب: «لقد سادت لمدة طويلة أوساطَ الدارسين الغربيين للصين، الفكرةُ التي ترى أن قدماء المفكرين الصينيين قبل العهد الإمبراطوري وحدهم هم من يمكن أن يصدق عليهم نعت الفلاسفة (ولم تعرف هذه الذهنية التغيّر إلا مؤخرا). لقد كان هؤلاء المفكرون يُعَدّون بمثابة حكماء الصين القديمة. في مقابل انجذاب الدارسين الغربيين نحو الفكر الصيني القديم، نجد إعجاب الصينيين المحدثين بالفلسفة الغربية الحديثة. لقد كان التصور الضمني للحركة التاريخية هو هو، إلا أن الصين كانت مأخوذة بغرب ما بعد «عصر الأنوار»، بينما يحلم الغرب بالصين القديمة، التي لم تقتحم بعد العصور الوسطوية، الصين المفصولة عن تطوّرها الحديث».
ما يُطرح هنا موضع سؤال هو نوع من الدراسات المقارِنة التي مازالت رائجة، خصوصا وأنها فرضت نفسها كشعار يوجّه تقاليدنا الأكاديمية يسند الرغبة في الانفلات من قبضة النزعة الأوروبية المتمركزة على ذاتها. إلا أنه يظل تابعا لمنظور استشراقي من حيث إنه يرمي إلى تحويل الفكر الصيني إلى متحف، واختزاله ليلعب دور «الآخر» كطرف مقارنة لكي يتم إرغامه على الجواب على أسئلة لا تخصُّه هو بالذات. هذه كيفية في الإبقاء على نظرية في الآخر تُجمّد التعارضات وترمي بها خارج الزمان والمكان، فتحُول دون رصد التعدّد والتنوع الذي يطبع الاختلافات، حيث توجد بالفعل». وقد تتمخض عن هذا نتيجة سلبية، وهي خطر الوقوع ضحية شكل من أشكال الماهوية، والانتهاء بمساندة الأفكار الجاهزة التي ترسخت واستغرقت ما يكفي من الزمن كي تتصلب وتتخشب. (...)
وبالكيفية نفسها، بدل مقارنة أوروبا بالصين «كي نقابل بينهما على نحو جيّد»، يبدو لي أنه من الأهمية بمكان أن ندرس الكيفية التي تنقّلت بها الأفكار بينهما في العصر الحديث. إن الرؤية التي لدينا عن التقاليد الصينية، قد خضعت منذ عهد بعيد للشروط التي أملتها الكيفية التي استُقبلتْ بها بدايةً في السياق الأوروبي. يصدق هذا على تصوراتنا التي أصبحت مترسخة، عمّا اعتدنا تسميته «الكونفوشيوشية»، وهي تصورات ابتدأت في التكوّن إبان تلقّي نوع من أيديلوجية النّخَب الصينية في أوروبا القرن الثامن عشر، وما زلنا نعيش عليها حتى اليوم، وهي تعتمد الرأي الذي يذهب إلى القول إننا بصدد فكر خال من البعد الديني بعيد عن كل تعالً. يصدُق هذا على جميع النزعات الأخرى (التاوية، والبودية، إلخ..) التي تُفرَض علينا وتنغص وجودنا عوض أن تعمل على تيسيره: إن هذه النعوت التي نظن أنها ملائمة، تحجب عنّا الوقائع التي كان من المفروض أن تنظمها، فتحول بيننا وبين إدراك التفاعلات المتبادلة، والتأويلات الراسخة بين مجموعات عزلتها عزلا.
وأخيرا، فإن هذا يصدق على جميع المقولات التي بنتها العلوم التاريخية والفيلولوجية والفلسفية والدينية على امتداد القرن التاسع عشر الأوروبي. ما زالت مقولات «الفلسفة» و«العلم» و«الدين» تشرط إلى الآن طريقتنا في إدراك الوقائع الصينية ووصفها، وذلك بكيفية مهيمنة إلى حدّ أنها شُبهت في الصين بنهاية القرن التاسع عشر، وبداية العشرين عبر التوسط الياباني التحديثي لعهد الميجي. فقد ابتدع هذا الأخير معجماً بكامله، انطلاقاً من ألفاظ صينية أدخلت عليها تحويرات كي تترجم التصورات الجديدة للمعرفة الغربية. لا ينبغي أن ننخدع بهذا الأمر. إن التفكير بالصينية اليوم يعني استعمال ألفاظ ذات أصل قديم، إلا أن دلالاتها ينبغي أن توضع في السياق التاريخي المحدِّد لابتداعها الحديث. لا تكفينا إذاً معرفة قراءة المصادر القديمة، وإنما ينبغي أن نستوعب النظارات التي نحملها، والتي نقرأ عبرها تلك المصادر.
***
مجمل القول، وكما لعلكم تبيّنتم: إنني أفضل الحركة، الذهاب والإياب، والتجوال من ضفة لأخرى، حتى قبل المقارنة. مقابل ما يشبه الحوار، أفضّل النقاشات متعددة الأطراف. عوض الغيرية التي تجمّد المواجهة، أبحث عن الاختلافات التي تدرك الأشياء في ألوان الحياة وحركاتها، هذه الحياة التي ينبغي دوما أن نعود إليها.