«لقاء في باريس: بيكاسو وشاغال وموديلياني وفنانو عصرهم (1900- 1939)»، هو المعرض الجديد الذي ينظمه متحف اللوفر أبوظبي بالتعاون مع مركز بومبيدو ووكالة متاحف فرنسا، حيث يقدم المعرض أكبر مجموعة لعمالقة الفن الحديث تُعرض في الإمارات. يتضمن المعرض 85 عملاً لفنانين طليعيين من القرن الـ20، مثل بابلو بيكاسو، ومارك شاغال، وأميديو موديلياني، وخوان غريس، وشايم سوتين، وقسطنطين برانكوزي، وتمارا دوليمبيكا، حيث شهدت باريس في العشرينات نهضة فنية استثنائية على يد هؤلاء الفنانين الذين جاؤوا إلى باريس بحثاً عن حرية التعبير إلا أنهم وضعوا لبنات الفن الحديث، من خلال الجمع بين ما عاشوه في بلدانهم الأصلية، وما جربوه في باريس بلدهم الثاني، فطوروا أساليب الفن الحديث، من التكعيبية مروراً بالمدرسة الوحشية، وصولاً إلى الطليعية الروسية والمستقبلية الإيطالية ومدرسة باريس وغيرها من المدارس الفنية.

 بيكاسو وشاغال
يعتبر كل من بابلو بيكاسو ومارك شاغال من كبار الفنانين في القرن العشرين، ففي الوقت الذي اتجه فيه بيكاسو نحو التعكيبية، ذهب شاغال إلى النزعة الرومانسية، لكن ظروف حياتهما المتشابهة جعلت منهما صديقين حميمين رغم خلافاتهما وجدلهما. وكان شاغال يقدر عاليا بيكاسو ويعرف قدرته الفنية، عندما انتقل شاغال إلى باريس في عام 1910 قادماً من روسيا، أراد أن يلتقي ببيكاسو، وطلب من الشاعر غيوم أبولونير أن يقدمه له، في بادئ الأمر، رفض أبولونير، قائلاً له: هل تستبد بك مشاعر انتحارية؟ ذلك لأن هالة بيكاسو كانت كبيرة لدرجة لم يتجرأ أي مبتدأ في الفن أن يتعرف على هذه القامة الرفيعة، وكان آنذاك في منتصف طريق إبداع التكعيبية مع جورج براك آنذاك، ولكن ذلك لم يثبط أمل شاغال بل استمر في الرسم وهو يفكر ببيكاسو في عام 1914 قبل عودته إلى روسيا.
وقد تأجل ذلك اللقاء إلى عام 1944، حيث التقيا أخيراً، فقد أرسل شاغال رسالة إلى بيكاسو من الولايات المتحدة، حيث كان يقيم، طالبا مقابلته، في تلك الفترة كان بيكاسو يعيش في جنوب فرنسا يعمل على أعماله السيراميكية، فانعقدت بينهما صداقة حميمة، وظلت مراسلتهما مستمرة حتى عام 1964.
وعبر هذه الصداقة رغم حميميتها، وقعت بعض الصدامات والمجادلات مثل حوارهما على مائدة العشاء التي دعا إليها شاغال عندما سأل بيكاسو شاغال، قائلاً له: متى ستعود إلى روسيا؟
أجابه شاغال مع ابتسام: «بعد أن تذهب أنت! لأنني سمعت بأنك محبوب هناك كثيراً- كان بيكاسو شيوعياً آنذاك ـــ ولكنهم لا يحبون أعمالك الفنية، أنت تحاول أن تجعل أعمالك الفنية محبوبة هناك ولكنني أتساءل، ما الذي يجعلك تفلح في ذلك»؟
لم يحبذ بيكاسو إجابة شاغال، فرد عليه قائلاً: «أحدس أن الفن عندك يعني الأموال، وأنت لا تذهب إلى هناك إلا بحثاً عنها». وانقطعت علاقتهما إثر هذه المجادلة، ورغم ذلك رسم شاغال لوحة أطلق عليها «بيكاسو المتعب» معبراً عن ضغينته ضده، بينما كان موقف بيكاسو على العكس تماماً، فقد قال عن فن شاغال «إذا مات ماتيس، فسيكون شاغال هو الرسام الوحيد الذي يفهم معنى اللون بحق، أنا لا أتحدث عن فنه الفلكلوري مثل «عازفا الكمان الطائرين في السماء»، ولكن قماشة اللوحة عنده مشغولة بشكل فني كبير، ولا يوجد فنان بعد رينوار يعرف الإحساس بالضوء مثله».
وعلى الرغم من ذلك، فإنهما عاشا سوية الغليان الفني، رغم اختلاف رؤيتهما في الفن، إذ تأثر شاغال بالتكعيبية كما هو الحال في لوحته «منظر تكعيبي»، 1918. وحاول بيكاسو أن يرسم برومانسية كما في لوحته «العشاق الثلاثة» 1923، والصمت الذي ساد بين هذين العملاقين حتى رحيلهما يُعتبر من الأمور المحزنة في تاريخ الفن، لكن عطائهما كان غنيا على صعيد الفن.

بيكاسو وموديلياني
عرف كل من بيكاسو وأميدو موديلياني بعضهما البعض بصورة جيدة، وقد التقيا في باريس لأول مرة في عام 1906 وقد عاشا في التجمع الفني «باتو لافوار»، وكان بيكاسو يمتلك ستوديو آنذاك ويعمل على لوحاته الشهيرة لوحة «آنسات افنيون»، وفي تلك الفترة أنتج موديالياني لوحاته الشهيرة «الفتاة بالشعر البُني» في 1918، وقد رسم موديلياني بورترية لبيكاسو، التي اقتناها في عام 1930، وقد شارك الفنانان اهتمامهما في الفن الأفريقي، الذي أثر على مجمل أعمالها ورؤيتهما، كان بيكاسو يقدر موهبة موديلياني الفنية وقال فيه: «بأنه الرجل الوحيد الذي يعرف كيف يؤسس أسلوبه الخاص به»، ولهذا أعانه في البحث عن تجار لترويج لوحاته إلا أنه لم يكن معجباً بأسلوب حياة صديقه في التسكع واللامبالاة والشراب، ورغم صداقتهما إلا أن مودليانو لم يكن في حلقة بيكاسو الضيقة.

رافقوا العمالقة
من أهم الرسامين الذين رافقوا العمالقة، الرسام والنحات الإسباني خوسيه فيكتوريانو غونثاليث بيريث، المعروف باسم خوان غريس، 1887 ـــ 1927 الذي أقام وعمل طوال حياته في فرنسا، وارتبطت أعماله ارتباطًا وثيقاً بالتكعيبية. بدأ غريس تدريس الرسم باعتماده مبادئ الفن الجديد، ولكنه ما لبث أن غادر مدريد إلى باريس في عام 1912، منجذباً بمجد ابن بلده بيكاسو، وحركة باريس الثقافية المتمثلة بالشعراء والفنانين الرواد أمثال غيوم أبولينير وماكس جاكوب وبيير ريفري وغيرهم، ساهم غريس إسهامًا مهمًا في تهيئة مرحلة التصوير التكعيبي الثانية، وتجلى ذلك في السطوح المستوية، وتركيب العناصر المتينة، ودمج الفراغ مع عناصر التكوين، وهذا الأسلوب أحدث ثورة تشكيلية هائلة في بداية القرن العشرين، فهو أول من قام باستخدام التلصيق، والأوراق المصمغة التي استخدمها بيكاسو، وقد شارك في رسومات المجلات الفرنسية.
ومن أشهر لوحاته بورتريه لبيكاسو التي كانت خطوة هامة في الفن التكعيبي في هذا ذلك الوقت المبكر، وعلى الرغم من أن غريس اعتبر بيكاسو أستاذاً وقدوة إلا ان جيرترود ستاين كتبت عن غريس بأنه كان الشخص الوحيد الذي تمنى أن يختفي بيكاسو من الساحة الفنية، ومن أشهر أعماله وأجملها: «طاولة المصور»، و«البساط الأزرق»، و«القيثارة الصفراء»، و«طبق الفاكهة وكتاب».
أما الرسام الروسي شايم سوتين 1893 - 1943 فقد ساهم مساهمة كبيرة في الحركة التعبيرية، مستوحياً من تقاليد الرسم الكلاسيكي في أوروبا التي جسدتها أعمال رامبرانت وشاردان وكوربيت، طور سوتين أسلوبًا فرديًا أكثر اهتمامًا بالشكل واللون والملمس، والذي كان بمثابة جسر بين الأساليب التقليدية والتجريدية التعبيرية.
ومن تلك المجموعة الفنية، اشتهر النحّات الروماني الشهير، قسطنطين برانكوزي 1876-1957 بأنه أسس قواعد نحت مختلفة لما سبقوه من النحاتين، وركز على جوهر المنحوتة أكثر من شكلها، وحوّل ورشته إلى متحف في عام 1922، وبعد ذلك عرض أعماله في نيويورك. وهكذا احتفظ برانكوزي بتحفه الأصلية في ورشته، وكان يقوم بتقديم نسخة جصية منها، حتى لا يفقد متحفه الخاص تكامله. وكان منذ عام 1910 قد ابتكر أسلوباً يعتمد على حركة المنحوتات نفسها، ما أدى إلى تركيزه على خلق روابط جديدة بين أعماله من خلال أسلوب الإضاءة. وتأثر برانكوزي بمنحوتات الحضارات الآسيوية والإفريقية، بما في ذلك الأسلوب المصري القديم في نحت «المسلات» العواميد التذكارية. وكانت علاقته وثيقة بكل من الفنانين موديلياني وكريمي.
أما الرسامة البولندية تمارا دي ليمبيكا، التي أخذت لقب تمارا روزاليا كورسكا كورويك 1898- 1980 فتنتمي إلى تيار «الآرت ديكو»، واشتهرت برسم وجوه الشخصيات الأرستقراطية والفنانين والمشاهير بأسلوبها المتميز، في عام 1917 تمّ القبض على زوجها، وبعد الإفراج عنه من السجن، هربت ليمبيكا وزوجها إلى باريس التي كانت في ذروة ما بعد التكعيبية. وبدأت تدريبها الفني الرسمي تحت رعاية الرسامين الفرنسيين موريس دينيس وأندريه لوت. كان لوت معلمها الأكثر تأثيراً، حيث إن أسلوبه، الذي يشار إليه عادة باسم «التكعيبية الناعمة»، قابل للاكتشاف في أسلوب ليمبيكا. أصبحت تمارا بارزة في المشهد الفني البوهيمي في باريس، لوحاتها التي هي عبارة عن دمج التقنيات التكعيبية والكلاسيكية الحديثة خلقت نمط بصري متفرد يشبه المعدن كان علامتها الفارقة، وقالت ليمبيكا حول ذلك «هدفي لا ينسخ أبداً»، بدلاً من ذلك، سعت إلى «خلق نمط جديد، وألوان مضيئة واضحة»، بحلول منتصف 1920، كانت تعرض لوحاتها في صالونات باريس، وفي العام نفسه، حصلت على أول جائزة لها في معرض الفنون العالمية عن لوحة رسمتها لابنتها «كيزيتي على الشرفة».

مركز للفن الطليعي
مما لا شك فيه، إن مدينة باريس كانت مركزاً للفن الطليعي الحديث في بداياته الأولى في القرن العشرين، وقد تأثر كل من بيكاسو وشاغال بما حصل في بلديهما إسبانيا وروسيا خلال الحربين العالميتين والثورات والاضطرابات. قال بيكاسو بهذا الصدد:«كل عمل فني هو عمل تخريبي» ويقصد بذلك تخريب كل ما هو قائم من أذواق وأساليب من أجل تقديم فن جديد. واشتهر شاغال على أنه رسام الألوان والقصص، ويؤكد النقد أن هذين الفنانين هما اللذان قادا حركة الفنانين في القرن العشرين كل بأسلوبه المختلف عن الآخر، وكل منهما له مرجعياته وخلفياته، فقد استوحى بيكاسو من بلده الأصلي إسبانيا، فيما استوحى شاغال من مدينته «فيتبسك» الروسية ومناظرها الطبيعية، وكانت تلك المرحلة الزرقاء 1901- 1904 لبيماسو وأبدع فيها لوحات عديدة منها لوحة «الأم وطفلها في البحر» 1902 وخلفية مدينة برشلونة وتظهر تأثيرات الرسام الإسباني الكبير الغريكو. وتأثر شاغال بالطبيعة والحيوانات المستوحاة من مدينته.
سحرت باريس بيكاسو منذ عام 1900 التي قدم إليها، وبعد مرور أحد عشر عاماً جاء إليها شاغال، وركز في هذه البدايات على تصوير الوجوه الحزينة لموضوعاته، وانتقل في عام 1907 بصحبة الرسام براك، إلى الألوان البراقة والمتألقة وآفاق التكعيبية المتعددة، ومع الشاعر غيوم أبولونير، أصبح بيكاسو رائداً للحركة الطليعية في الفن في باريس. ولم يتبن شاغال التكعيبية الكلاسيكية بل ظل مخلصاً لمناظر مدينته الطبيعة. وأدخل أسلوب الجيومتريك «الهندسي» في لوحاته، ومزجها بالغنائية والرومانسية والخيال، وقد تبنى الاتجاهات الجديدة آنذاك ما بين أسلوبي «آرت ديكو» والسرياليية. وانخرط كلاهما في العائلة والانتقال إلى الألوان البراقة المتألقة، وبدءا برسم لوحات لأعضاء عائلتيهما، ومحبيهما.
استخدم بيكاسو أساليب متعددة ما بين التكعيبية والرسم الكلاسيكي والسريالية، وأساليب ابتكارية أخرى، أي أنه اخترق الأشكال التقليدية وتجاوزها. بينما استغرق شاغال في التعابير العاطفية من خلال رسم الورود والطيور التي أضحت من رموزه السعيدة. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية في 1939، تأثرت أعمال بيكاسو بفترة حكم فرانكو الفاشية، وقد عبر الاثنان بيكاسو وشاغال عن الأزمة السياسية لبلديهما. استقر بيكاسو في باريس ولم يغادرها، بينما ذهب شاغال بحثاً عن اللجوء في الولايات المتحدة. وعبّر الاثنان عن بؤس الحرب، ومعارضتهما الشديدة للحرب من خلال لوحات تصور الحب والسلام عبر الجداريات والسجاجيد والزجاج. وفي الاستجابة لأحداث بلده في 1937 أبدع بيكاسو لوحته الشهيرة «غورنيكا» المنكوبة بقصف القنابل، والتي عرضت في معرض باريس العالمي وأحدثت ضجة كبرى في الأوساط الفنية. فيما تأثر شاغال بموت زوجته في عام 1944.
بعد انتهاء الحرب، انتقل بيكاسو من باريس إلى مدينة «كان» في الجنوب الفرنسي. وهناك أنتج أعمال السيراميك والمنحوتات والطباعة والجداريات وأصبح سيد الفن في القرن العشرين، واستمر بيكاسو على رسم زوجته جاكلين، بينما ركز شاغال على رسم مناظر مسقط رأسه سانت بول دي فينس.

صديق الفنانين وغريمهم
عندما التقى بيكاسو بالفنان هنري ماتيس في عام 1906، كان كل منهما واعياً بأعمال الآخر، وانعقدت بينهما صداقة حميمة، لكن ذلك لم يمنع من خلافاتهما الفنية، وكانا يتجادلان أكثر مما يتفقان، رغم إعجابهما المتبادل، قال ماتيس عن بيكاسو ذات مرة بأنه «نزق ولا يؤتمن جانبه» بينما كان بيكاسو يقول عن ماتيس بأن لوحاته «جميلة وأنيقة». وتركزت رؤية ماتيس في التشكيل على «ترتيب الفن بطريقة فن الديكورات من خلال العناصر المتاحة للفنان من أجل التعبير عن مشاعره»، هكذا فهم الفن.

ماتيس وبراك وآخرون
من الواضح أن تطور التكعيبية الذي حدث في عام 1907 في باريس جاء نتيجة لمشاهدة كل من بيكاسو وبراك المعرض الشامل للفنان بول سيزان، وانجذبا إلى موضوع تبسيط الطبيعة أي رسمها بأدوات قليلة دون الدخول في تفاصيلها المعقدة مثل لوحة «صباح في بروفانس» لسيزان، وهي عبارة فكرة تبسيط العالم المرئي إلى خطوط وأشكال مع الحفاظ على مميزات الرسم وطاقته الإبداعية. وإثر ذلك، سرعان ما اندفع الفنانان إلى تجريب أسلوب سيزان وتقنياته، وهو ما أدى إلى اختراع التكعيبية. بالنسبة لبيكاسو، فقد زودته أعمال سيزان الفنية بتفسير منهجي تبناه طيلة حياته. في 1943، اعترف بيكاسو للمصور الفرنسي من أصل روماني، براسي، بأن «أستاذه الأول والأخير» هو الفنان سيزان.
تعاون بيكاسو مع الرسام جورج براك، فهما طورا التكعيبية في وجهين، التحليلي 1909، والتصنيعي 1912- 1914، وعلق براك على ذلك فيما بعد أنه هو وبيكاسو كانا «مثل متسلقي الجبال المرتبطين ببعضهما البعض»، وخلال فترة قصيرة أخذت أعمالهما شكلاً أو مظهراً متشابهاً نوعاً ما. واستمرت هذه الشراكة حتى 1914 عندما ذهب براك إلى تأدية خدمة العلم. وعلى أعقاب الحرب العالمية الأولى، انفصلت رؤيتهما الاحترافية في الرسم. وعُرف براك كأفضل من تعاون مع بيكاسو في مجال التكعيبية، لكنه فضّل أن يحافظ على هدوئه في مشغله، وجذبته الطبيعة الصامتة، ومن عام 1919 إلى 1926، حيث كتب براك ست دراسات حول هذه الفكرة.
وهناك فنانون آخرون ساهموا في تطوير التكعيبية، هما ألبير غليزيس، وجان ميتزنغر اللذان طورا التكعيبية من 1911 إلى 1914 أي انطلقا مما انتهى إليه بيكاسو وبراك. ونشر ميتزمغر كتابه «من التكعيبية»، الذي كان أول كتاب يتم تأليفه حول هذا الموضوع، وعلى عكس بيكاسو وبراك، عمل كل من غليزيس وميتزنغر في التكعيبية على نطاق واسع وبألوان حيّة، حافظ غليزيس على علاقة الجسد الانساني بالطبيعة. في الوقت الذي قام فيه الشاعر الفرنسي الكسندر ميرسيرو 1884 ــ 1945 بتقديم التكعيبية إلى بلدان أوروبا الشرقية من خلال سلسلة من معارض أقامها في موسكو وبراغ. كان غليزيس على علاقة وطيدة مع أعمال هذا الشاعر وتعاون معه ومع آخرين من أجل تأسيس جماعة «آبي دي كريتي» وهي جماعة أدبية وفنية خيالية في ضواحي باريس. ولعل لوحة ميتزيغر «راقصة في مقهى» جسدت الأحوال الاجتماعية والنفسية لباريس لما قبل الحرب العالمية الأولى، وجسدت أعماله وعيه بالفنانين الايطاليين المستقبليين الذين عرضوا أعمالهم في باريس.

المقاهي الفنية في باريس
كانت مقاهي باريس في الأحياء الصغيرة تستقبل الفنانين والكتّاب والمثقفين في العقود الأولى من القرن العشرين، وهي: «لاروتوند» و«لادوم» و«غلوزري دي ليلا»، و«لاسليكت» و«لاكوبول» و«ودنغو أمريكان» وغيرها، حيث تبلورت فيها معظم الحركات الفنية، وانتقل كبار الفنانين من منطقة مونمارتر إلى مونبرناس أمثال بيكاسو وبراك ومودلياني وسوتين ودييغو ريفيرا وزادكين وغريس.
وكان يتردد على مقهى «لادوم» أمثال آرشيبنطو، شاغال، كاندنسكي، وبعد الحرب العالمية الثانية، تردد عليها الفنانون البريطانيون والأمريكيون أمثال غيرترود وليو ستين، وازرا باوند ومان ري، وكذلك الفنانون الألمان أمثال ويلهالم أوهد، وهانس بورمان. ولا ننسى كبار السياسيين الذين ترددوا على هذا المقهى أمثال تروتسكي ولينين والثوريين الآخرين.
وقد ولدت مدرسة باريس الفنية في هذه المقاهي، وهي ظاهرة فنية، وليست حركة فنية محددة، بل مجموعة من الحقائق التاريخية والفنية عن العقود الأولى في القرن العشرين، كانت باريس آنذاك عاصمة للإشعاع الفني في عموم أوروبا وأصبحت أرض اللجوء الإنساني لجميع الفنانين من أنحاء العالم.. كان هؤلاء الفنانين فقراء الحال، واستقروا في منطقة مونمارتر وباتو لافوار وبجوارهما، وهناك عاش وأقام بيكاسو وبراك وغريس.. وفي مشاغل منطقة مونبرناس كان يعيش كل مودلياني وسوتين وشاغال وباسكن، وبرانسوسي، وكيسلنغ بحيث تحولت هذه المنطقة إلى مختبر فني لجميع الاتجاهات الطليعية التي غيرت وجه الفن في العالم.