يظل المخرج يوسف شاهين، وبعد عشر سنوات على رحيله، علامة مميزة من علامات السينما العالمية، بما قدمه، ليس فقط من أعمال فنية، بل ومن أفكار، وتصورات جريئة، ليس لها علاقة بالدراما المبتذلة، عَبْرَ منهج خاص يتميز بأسلوب ورؤية متحضرين، نتج عنه 37 فيلماً طويلاً، وستة أفلام قصيرة، تميزت بوجهات نظر مختلفة عن السائد والمعتاد في الأعمال السينمائية الأخرى، من حيث الشكل والتكوين والمضمون.
مر شاهين بعدة مراحل فنية في مشواره الإبداعي. ولم تتوقف مسيرته بسبب مواقفه الاجتماعية والسياسية الواضحة التي عَبَّرَ عنها في أفلامه، وعَكَست طريقته الفريدة التي مثلت منهجاً في عالم السينما. فقد قَدَّمَ شاهين في فترات الحروب المتتالية العديد من وجهات النظر، والشخصيات التي تنتمي لأيديولوجيات مختلفة، فتم تصنيف أعماله السينمائية على أسس فكرية– أيديولوجية.
قَدَّم شاهين هذه الأعمال وسط طيف واسع من المخرجين المختلفين من حيث الاتجاهات الفنية والرؤى السياسية والأيديولوجية، وقد انتمى يوسف شاهين إلى فئة المعارضين الاجتماعيين الذين ينتقدون أحوال المجتمع في كل فترة من فترات تاريخ مصر.
ظهرت أفكاره الاجتماعية والسياسية في عدة أفلام قدمها للجمهور العربي والعالمي، وتتضمن تلك الأفكار الاجتماعية– السياسية- التاريخية، كما في فيلم «الأرض» الذي يوضح وجهة نظره في ممارسات الاحتلال البريطاني لمصر، وما قام المحتلون به من أفعال مشينة، لا يحتاج المشاهد الأجنبي إلى ترجمتها إلى لغته أسفل الشاشة، ليدرك أن هؤلاء محتلون، وأن الآخرين مقهورون.
صدمة فيلليني
توالت أعمال شاهين التي تنتقد الأحوال السياسية والاجتماعية، مثل «جميلة بوحيرد»، و«فجر يوم جديد»، و«الاختيار»، و«العصفور»، إلى أن وصل إلى مرحلة من النضج والجرأة اللذين لا يتوافران لمعظم مخرجي الشرق الأوسط. وهي مرحلة أفلام السيرة الذاتية متأثراً بأفلام الإيطالي فيديريكو فيلليني الذي كان يرى أن كل الأفلام هي في الأصل عبارة عن سيرة ذاتية، وحيث كانت أفلامه تأتي بمستوى شديد الجدية والخصوصية، فيما يتعلق بسينما السيرة الذاتية بصفة خاصة، والسينما الإيطالية بصفة عامة. إضافة إلى تلك النقلة بين سينما ما قبل الحرب وما بعدها. وكان بالفعل واحداً من أكثر المخرجين في عصره تعلقاً بسيرته الذاتية. وكثيراً ما تضمنت أفلامه مشاهد عديدة مستوحاة منها، وتلك هي التهمة التي كثيراً ما اتهمه النقاد بها وأخذوها عليه وعلى أفلامه: «الذاتية الشديدة التي تصل إلى حد الإغراق»، على عكس ما كان متعارفاً عليه وقتها، من أن أدب وفن السيرة الذاتية من الفنون التي يتجنب المبدعون الخوض فيها، ولكن هذا النوع من الأفلام جذب يوسف شاهين الذي اتخذه نمطاً في التعبير السينمائي، حيث أتيحت له رؤية ذاته وعالمه الخاص، بطريقة أكثر تفرداً، وعمقاً، وبطريقته الخاصة، لا بالطريقة المعتادة وقتها في الأعمال السينمائية التي تقدم أعمالاً عن قصص حياة الشخصيات التاريخية أو الخالدة، بل تلك التي تجعل الذات موضوعاً ومضموناً في الوقت نفسه لفيلم واحد أو سلسلة من الأفلام.
بدأ شاهين رباعيته المعروفة بأول أجزائها «إسكندرية.. ليه؟» عام 1979، ثم «حدوتة مصرية»، و«إسكندرية كمان وكمان»، و«إسكندرية نيويورك». واقتبس تفاصيل من سيرته الذاتية المبكرة والمتأخرة ونثرها في فيلميه الأخيرين «المهاجر» 1994 عن هجرته إلى الولايات المتحدة، وفيلم «المصير»، مجسداً أزمته مع فيلمه «المهاجر»، الذي قوبل بعداء من المتطرفين، فأقاموا دعوى قضائية تطالب بعدم عرضه. وأصيب شاهين بضيق حقيقي لما يحدث لحرية التعبير من اختناق وتضييق في مصر في ذلك الحين، ثم قدم فيلمه التالي «المصير» عن زمن «ابن رشد» مرتحلاً هذه المرة إلى الأندلس، حيث تفاصيل مشابهة لما عليه الوضع الآن، محذراً وبشدة من التعصب والتكفير.
من المؤكد أن شاهين كان يتابع ليس فقط أعمال فيلليني، بل والمرجعية الفنية لهذا المخرج العالمي الكبير، الأمر الذي حَرَّكَ مكامن الإبداع داخله، ودفعه إلى الاحتذاء به، والسير على خطاه بدرجات مختلفة، وخاصة بعد واقعة شهيرة حدثت عقب إطلاق فيلم «الناصر صلاح الدين» لشاهين، فقد كان الفيلم محل تقدير غالبية النقاد، والمتخصصين في الفن السابع، وثارت حوله ضجة كبيرة، ورشحه الكثيرون لعدد من الجوائز العالمية، مما وضع شاهين في حالة مزاجية محلقة، لكن مفاجأة لم تكن في الحسبان، كانت في انتظاره، عندما انتهى فيلليني من فيلمه الجديد وقتها، «ثمانية ونصف»، فتحولت الأنظار كلها إليه، خصوصاً أنها كانت المرة الأولى التي يقدم فيها مخرج كبير بحجم فيلليني على تقديم سيرته الذاتية في شريط سينمائي، وهو الفيلم الذي حصل على جائزة «أوسكار» أفضل فيلم أجنبي.
عندها اندفع شاهين للبحث عن السر وراء احتفاء العالم بفيلم فيلليني، بالمشاهدة، والقراءة، والبحث، إلى أن أقدم على الخطوة نفسها بعد 16 عاماً من الواقعة، فقدم أول أفلام السيرة الذاتية «إسكندرية ليه»، وبعده فيلم «إسكندرية كمان وكمان» الذي تتشابك فيه الكوميديا الموسيقية بالتسجيلية الاجتماعية والفانتازيا والهزل، وانهمك شاهين في البحث عن الحقيقة وإدراك الذات، وأصبح من الواضح أن «إسكندرية كمان وكمان» هو المعادل لفيلم فيلليني «ثمانية ونصف».
لقد اتفق كلاهما على ألا يقدم تفسيرات محددة لأفلامه. إذ تَرَكَا المهمة لإحساس المتفرج، ومدى استعداده للفهم دون مؤثرات أو ضغوط خارجية. وفي نفس الوقت تركا النقاد والمحللين يخوضون النقاشات والصراعات الطويلة حول مضمون أفلامهما.
عالم من الموسيقا
لقد صنع شاهين عالماً من الموسيقا، والألوان في أفلامه، مثل «اليوم السادس»، و«عودة الابن الضال»، و«إسكندرية كمان وكمان». تلك الأفلام التي تضمنت هذا النوع الفريد من الموسيقا العبثية والكرنفالية، يقابلها من أفلام فيلليني«كازانوفا»، و«لا ستراد»، و«ثمانية ونصف»، وغيرها من الأفلام التي تضمنت العبث الغنائي. ونجد هذا النهج الموسيقي ذاته عندما نعود إلى طفولة فيلليني، وهوسه بعالم السيرك، وشخصيات المهرجين الملونة، ووجوههم وملابسهم، لتسكن صورهم، مع الزمن، في اللاوعي، كما سكنت الإيقاعات الصاخبة أيضاً، فاستخدم كل ذلك في الإسقاط على ألوان الديكورات التي استخدم فيها الألوان الصريحة من الأحمر إلى الأصفر والأزرق.
بالمثل فعل يوسف شاهين في أفلامه من حيث استخدام المواقع التاريخية والديكورات الملونة، وكذلك الموسيقا والأوبريتات السريالية التي يظهر فيها بعض الأشخاص يرتدون ملابس محاربي وملوك الرومان، بالإضافة إلى نظارات شمسية وطبية حديثة، وبعض شخصيات أخرى بملابس فرعونية وزي شعبي للفلاحين.
الشعرية والفلسفة
وبالرغم من التشابه الضمني بين المخرجين العالميين -شاهين وفيلليني- إلا أن هناك تشابهاً بين سينما شاهين وسينما مخرج عالمي آخر، هو الروسي أندريه تاركوفسكي، الذي صنع التيار الشعري للسيرة الذاتية، فلقبوه بـ«شاعر السينما وفيلسوفها»، إذ نجح في خلق اتجاه سينمائي متميز، يتناول المواضيع الكونية والوجودية التي تهم الإنسان بشكل عام.
اهتم تاركوفسكي بتقديم أفلام السيرة الذاتية كما في أفلام «حنين»، الذي يعبر عن شعوره بالغربة، واقتلاع جذوره من أرض الوطن، و«المرآة» الذي يحكي عن مراحل عمرية متفرقة مر بها، من الطفولة إلى المراهقة والشباب، وهو ما فعله أيضاً شاهين في سيرته الذاتية، والتي اتفق فيها مع تاركوفسكي على مزج الفلسفة مع البحث عن الوجود. ولم يترك كل منهما شيئاً للمصادفة، من حيث تناسق وتناغم الصوت والصورة والألوان، وتكوين الفراغات، والكتل، والبحث عن أصول الإيمان، ورفض العنصرية والخرافات.
كل هذه العناصر، تميز بها الشاعران السينمائيان. وتشابه موضوع البحث عن التطهر والسمو الروحاني في فيلمي «حدوتة مصرية»، و«المرآة»، إذ سيطر على الفيلمين ما يجري في عالم الواقع، أو بين الحلم والواقع، وبين الخيال والحقيقة. ففي فيلم «المرآة» يستطيع المتلقي فهم الإشارات الرمزية من خلال الأحلام، ومشاهدة الأبطال لأنفسهم في المرآة، بينما في فيلم «حدوتة مصرية»، وأثناء جراحة القلب المفتوح التي يجريها «يحيى»، تدور محاكمة نستطيع وصفها بمحاكمة الضمير، سعياً إلى التطهر.
لقد استخدم تاركوفسكي اللقطات البعيدة long take، والطويلة زمنياً، لإتاحة الفرصة للمشاهد أن يطيل النظر، ويمعن في جميع العناصر التي تشتمل عليها اللقطة، والتي عادة ما تكون ممتلئة بالتفاصيل، والمأخوذة من زوايا غريبة، كما في فيلم «التضحية»، عبر لقطة الحقل الفسيح التي تعمد فيها تاركوفسكي وضع الممثلين في زوايا لا تظهر ملامحهم، وتظل لفترة مبهمة، ثم يبدأ الأب ألكسندر مونولوجاً فلسفياً صوفياً، بالضبط كما تعامل شاهين مع الكاميرا في فيلم «عودة الابن الضال»، الذي يعتبر فيلماً ملحمياً عن الغربة وهزائم الوطن في تلك الفترة، فنرى مشهد الحوار الفلسفي الذي دار بين الأب والابن العائد في وسط الصحراء الشاسعة، والتي لا يرى المشاهد نهايتها سوى من خلال كاميرا شاهين العريضة، وتلك اللقطة البعيدة التي عبرت عن تيه وضياع الابن العائد.
أخيراً، قد يرى البعض أن شاهين أقرب إلى فيلليني في بعض الأفلام المنفردة، بينما يرى البعض الآخر أن شاهين أقرب لتاركوفسكي، سواء في المرحلة الواقعية للاثنين، أو في مرحلة «السيرة الذاتية»، لكن المؤكد بالنسبة لي أنه من الصعب مقارنة شاهين مع تاركوفسكي، أو مقارنة أي منهما مع فيلليني، فرغم التشابهات والتقاطعات، إلا أن كلاً من المخرجين العالميين الثلاثة يمتلك تفاصيله الخاصة، وخصوصيته الفنية النابعة من بيئته، وتفاصيل مجتمعه.