محمد أركون... ناقد العقل الإسلامي
عشرات الكتب، ومئات المقالات، وعدد لا متناهٍ من المحاضرات والمقابلات التلفزيونية والإذاعية، وتجربة تربوية في كبريات الجامعات العالمية كانت كفيلة بأن يسطع نجم آخر من شمال إفريقيا في سماء الفلسفة العربية والإنسانية. إنه محمد أركون ابن منطقة القبائل الجزائرية الذي رحل عنا يوم الثلاثاء الماضي عن سن ناهز 82 عاماً بعد مرض عضال، كما يحلو لوسائل الإعلام أن تقول، عند وفاة كل قامة علمية شامخة.
محمد أركون الجزائري الولادة والفرنسي الجنسية أضيف إذن هذا الأسبوع إلى قائمة التنويريين الذين غيبهم الموت في أقل من سنة. فبعد عبد الكبير الخطيبي ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، ها هو مبدع المفاهيم الأصيلة يغادر ساحة الفكر العربي، ليقل ماء التنوير القليل أصلا. والراحل يستحق فعلاً لقب مبدع المفاهيم الأصيلة. فمن "الجهل المؤسس"، إلى "الجهل المقدس"، وصولا إلى نقد العقل الشرعي والسياجات الدوغمائية، ظل أركون وفيّاً لآرائه غير المهادنة وهو يعيد قراءة التراث العربي الإسلامي. وإذ كان انتماؤه إلى حقل الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية العربية قد شكل إضافة نوعية، فإن اجتراحه لمفاهيم جديدة بوأه مكانة خاصة ضمن صناع المفاهيم ومستحدثيها المبدعين، وتبقى دعوته لإعادة قراءة النص الديني برؤية عصرية النقطة الفاصلة في مسار باحث لم يعرف المهادنة العلمية قط، وهو ما جعله عرضة لانتقادات التيارات الأصولية المتشدّدة.
لقد أعمل أركون معاول النقد البناء والقراءة التجديدية في بنية العقل العربي الإسلامي، مسلحاً بمناهج علمية أمضى أكثر من أربعين سنة في اختبارها، جاعلاً من حقل الإسلاميات مجال اشتغاله الأول، اشتغال جلب له العديد من الأعداء على امتداد أكثر من أربعة عقود.
لقد تعرض لغارات الأصوليين بمختلف توجهاتهم الشرقية والغربية، فاتهمه أصوليو بني جلدته بأنه مجرد صدى للمستشرقين، وأنه معادٍ في العمق للفكر الإسلامي بصورته المعروفة. وفي الجهة المقابلة هاجمه الغربيون بدعوى أنـه مجـرد مفكر إصلاحـي لا أكثر، أو لنقل إنه مفكر وسطي، أو توفيقي، يحاول التوفيق بين الدين والعقل، تماماً كما حاول ذلك الفلاسفة المسلمون من قبل.
يقول مترجمه هاشم صالح في هذا الصدد "بعد أن تركت محمد أركون رحت أفكر فـي حجم المعركة التي يخوضها بكل ملابساتها وتفاعلاتها، وهالني الأمر فكلما توهمت أن حدودها قد أصبحت واضحة محصورة، كلـما اكتشفت أنها متشابكة معقدة، شبه لا نهائية. هناك شيء واحد مؤكد على أي حال: هو أن محمد أركون يخوض المعركة على جبهتين جبهة الداخل، وجبهة الخارج، جبهة أصوليي المسلمين، وجبهة أصوليي المستشرقين".
والأكيد أن لائحة الاتهامات التي تعرض لها أركون ثقيلة ومتعددة، ولكن على رغم كل ما قيل عنه، وما سيقال سلباً أو إيجاباً، سيبقى محمد أركون اسماً مرادفاً للقضايا التي أخذته إلى العالمية. وبعيداً عن تطرف أصوليي الداخل والخارج، رسم أركون لنفسه مساراً متميزاً يتأسس على البحث المنهجي بأحدث ما وصلته العلوم الإنسانية من مناهج، ولم يقطع نهائيّاً مع الأسس الحداثية للتفكير، بل استخدم مقولاتها دون أن ينتهي إلى إقصاء الماضي. وبذلك ظل هدفه تنقية هذا الماضي من شوائب التخلف والخرافة لملاءمته مع العصر دون تهميش نصوصه.
لقد أهله موقعه النقدي والعقلاني ليحتل موقعاً مهماً في تاريخ الفكر العربي إلى جانب الرواد الأوائل من قبيل محمد عبده وفرح أنطون وشبلي الشميل والأفغاني والكواكبي وطه حسين وصادق جلال العظم وعبدالكبير الخطيبي ومحمد عابد الحابري ونصر حامد أبو زيد.
إن إنسانية المذهب الذي انتمى إليه أركون، وعشقه للفلسفة وللفكر الإسلامي، جعلاه مثيراً لزوابع فكرية صاخبة لن تهدأ طبعاً بوفاته، مما أهَّله ليكون في مرمى سهام كل الأصوليين بمختلف مشاربهم الشرقية والغربية، غير أن هذه السهام انكسرت، بفعل استيعاب أركون للتراث بشكل استثنائي دون اغتراب عن الحضارات الحديثة.
صحيح أن الموت حتمية لابد منها، ولكن ابن منطقة القبائل على غرار كل المفكرين الكبار، لم يمض دون أن يترك أثره الواضح في الفكر العربي والإنساني المعاصر، بعد أن فرض على العالم اسماً قادماً من العالم الإسلامي، ولكن بمرجعية علمية جعلته مقدراً في جميع الأوساط المستشرفة للمستقبل، وهو احترام لم يصله جزافاً، بل بمكتبة ثرية من المؤلفات والكتب التي سطرها.
إن أصالة الفقيد الحقيقية لا تكمن فقط في ثراء إنتاجه، وإنما تكمن أيضاً في قدرته على ابتكار مفاهيم ذات طبيعة إنسانية كونية، ولم يكن كتابه الأخير "الإنسانية والإسلام" سوى خاتمة رحلة إنتاج ثرية جاوزت الأربعين سنة. وهكذا برحيل محمد أركون يكون الموت قد غيب رابع مرجع فكري عربي من القامات الشامخة في سماء الفكر الإنساني، في أقل من أربعة أشهر. ولذا قد يصدق وصف سنة 2010 بأنها سنة اختطاف الموت لرموز التنوير العربي. فبعد الخطيبي والجابري، ونصر حامد أبو زيد، يرحل أركون ليترك ثغرة أخرى في الفراغات الكبيرة للفكر العربي الإسلامي، لتضاف إلى الفراغات الجوفاء المتعصبة الدينية والطائفية، ليس في العالم العربي فحسب بل في العالم بأسره، وهنا لا يمكن سوى التحسر على فقدان شخصية علمية فذة مثل أركون، وبخاصة إذا استحضرنا مقولة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الذي يقول في عبارات لاذعة: "كلما توفي مفكر عظيم، ارتاح الأغبياء".
عزيز مشواط - كاتب مغربي
ينشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»