حدث ذلك على الأرجح في العام 1996 في العاصمة الأردنية، وفي المنتدى الثقافي لمؤسسة عبد الحميد شومان، فقد كانت تلك هي المرّة الأولى التي يزور فيها المثقف الكبير محمد أركون عمّان وينتدي فيها. كان صيت الرجل قد سبقه عبر كتابه الصادر للتوّ: “تاريخية الفكر الإسلامي”، عن مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي في السنة ذاتها بترجمة إلى العربية أنجزها هاشم صالح. كانت القاعة الكبرى في المؤسسة قد غصّت بجمهور متنوع ما بين علماني، بكل أطيافه، وإسلامي بكل أطيافه أيضا، وقد جاء بمواقف مسبقة وربما لم يقرأ الكثير من الحضور ذلك الكتاب الإشكالي الذي تناوله محمد أركون معيدا جملة مقولاته الأساسية تاركا للنقاش التوسّع أكثر بناء على ردود الأفعال والتعقيبات التي من المفترض أنه قد قرأ الكتاب أولا ثم، وبوصفه جمهورا مثقفا، فإن الحوار سيحتمل اختلافا في وجهات النظر. كان أول المتحدثين رجل طويل في مطلع الستينات من عمره، بأناقة عمّان الخمسينات والستينات حيث يمتزج الريفي بالمديني على نحو عجيب، يرتدي الحطة (الغترة) والعقال مع بدلة سموكينغ يختلف فيها لون البنطلون عن لون الجاكيت. بدأ الرجل بالكشف الصريح عن الجهة التي يمثّلها (!) ثم تاليا قدّم نفسه، كأنما يحفظ خطابه عن ظهر قلب. كان الرجل هادئا فقدم وجهة نظر جهته كما لو أنها ابتعثته إلى هذا المكان تحديدا لينقل وجهة نظر بعينها إلى محمد أركون بعينه لا سواه، ثم ختم بالقول أنه إنْ اتبعت الأمة ما تقول “فقد تُوُدِّعَ منها”، أي استوى وجودها من عدمه وذلك بالاقتباس عن الحديث النبوي الشريف: “إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم” فما كان من أركون إلا أن مطّ شفته السفلى ورفع ذراعيه إلى أعلى محدقا في أوراقه فيما ارتفع حاجباه الدقيقان، كأنما يقول بتعجب: “هذا كلّ ما لديّ”. وإذ يستعيد المرء هذه الذكرى الملِّحة التي تطرق على جدران الوعي والوجدان الفرديين، فربما أن ذلك يحدث لأمرين يتصلان بالثقافة العربية الراهنة وحدّة الاستقطاب المعرفي الذي تشهده: الرفض الأصولي لمحمد أركون الذي يبدأ بشتم مكانته العلمية وربطه بالاستعمار والعمالة وسائر مفردات معجم الشتائم الجاهزة، ونفي أي صلة له بأصول الاجتهاد وتكفير علمانيته. وهذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فإن محمد أركون لم يقرأ حقيقة ولم يتم استدخال مشروعه الثقافي والمعرفي إلى بنية الثقافة العربية الراهنة مَثَله في ذلك مثل مثقفين آخرين من طراز محمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وسواهم بل حوّلتهم الثقافة العربية إلى أيقونات من نوع ما أو رموز ثقافية جابهت الظلامية وسعت بأدواتها البسيطة غير المدعومة من أي سلطة علنية أو خفية إلى أن تفكر بحرية وتُبرز مشروعها التنويري للخروج من مأزق الثقافة العربية بكل أطيافها، وتحديدا مع ازدياد الخناق عليها منذ العام 2001 بحيث بدا هؤلاء المثقفون جميعا غير “مرضيٍّ” عنهم سواء من قِبَل جهابذة الثقافة العربية المتجمدة في العصور الوسطى وكذلك من الدوائر الأكاديمية الغربية، الاستشراقية منها تحديدا، كما هي حال أركون مع الاستشراق الفرنسي الذي هاجمه بشدة. وعودةً إلى ذلك الرجل الستيني، فإن الرفض الذي تعرّض له الخطاب الأركوني بدا هيِّنا وأنيقا، بالقياس إلى سواه من أنواع الرفض الذي لا يتسم بالجمود الشعاراتي وحده بل يتجاوز ذلك إلى قراءة مغلوطة لمنجز الرجل، وهو أمر عززت منه بعض الترجمات المغلوطة التي أودت إلى تكفيره من البعض، في حين لم تكن ترجمة أركون إلى العربية بالأمر الهيّن لاتصال لغته بمصطلحات قادمة من حقول التاريخ وعلم الاجتماع والسياسة والإنسانيات كما هي في سياق الثقافة الغربية منقولة إلى اللغة العربية التي تشهد ترديا في إنتاج مصطلح علمي حديث يتمتع بالديناميكة المعرفية كما هي الحال في ثقافات العالم راهنا دون أن يعني ذلك انتقاصا من اللغة العربية بحدّ ذاتها بل هي إشكالية الثقافة العربية برمتها. وحقيقة الأمر، أنه لم تتم قراءة محمد أركون، عموما، بوصفه ناقدا لتاريخ أفكار ومنتجا لأفكار موازية بديلة تنتسب إلى العالم الراهن وكيفية العيش فيه والتعامل مع سائر مفرداته وقضاياه الإنسانية والتاريخية بحكم أن الأمة العربية والإسلامية متواجدة على وجه البسيطة إلى جوار أمم اخرى تعيش راهنها بأكبر قدر ممكن من العافية والسوية الإنسانية، بل عومل محمد أركون، أكثر مما عومل منجزه الفكري، بوصفه هادما لبنية من الأفكار المنزهة التي من غير الجائز لأحد الاقتراب منها إلا من قبل “الخاصة” التي كانت تعيد تكرار تلك المقولات اللاتاريخية التي تنزّه التاريخ وكأنه ليس من صنيع الأفراد. وبمرور الأيام بدءا من منتصف التسعينات تلك وحتى رحيل الرجل، مرّت بالثقافة العربية “مصائب معرفية” عاصفة كادت تودي بمشروعه إلى النسيان لولا دأبه وإصراره وطاقته الهائلة على متابعة كل ما يستجد من وجهات نظر رصينة تدرس الإسلام في سياق العلوم الاجتماعية والإنسانية والرد عليها من حيث هي، وبدفاع عن الفكرة النقية للمشروع الثقافي الإنساني الإسلامي وفي الوقت نفسه متابعة الخطاب الديني وتحولاته منذ العام 2001 وتحليله وطرح أفكار بصدد هذه التحولات هي نقدية بالأساس لكنها عميقة بعمق ثقافة الرجل وتخلو من مواقف مسبقة أو شخصية أو موجَّهة بفعل فاعل من هذا الاتجاه أو ذاك. مع ذلك خَفَت صوت الرجل وسط هذا الضجيج كله من معارك وغزوات مدفوعة الثمن سلفا من أرواح الأبرياء، في حين لم يكفّ عن مواقفه ولم يتنازل عن آرائه السابقة فيما يتعلق بنقده للأصولية المتطرفة بالمطلق سواء الغربية العلمانية منها أم العربية الإسلامية. وفي هذا الصدد يمكن الرجوع إلى كتابه الحواري الممتع: “من مانهاتن إلى بغداد ـ ما وراء الخير والشر” مع المختص الفرنسي بشؤون العالم العربي والإسلامي جوزيف مايلا الصادر عن دار الساقي بلندن عام 2008 بترجمة أنجزها عقيل الشيخ حسن. ومثلما ركّز أركون خطابه النقدي للعقل الذي أنتج التراث بهدف تجديد الفكر العربي الإسلامي في كتبه فقد انتقد بشدة خطاب العنف والعنف المتبادل، في محاضراته التي تنقّل بها بين كافة أرجاء الأرض وعلى نحو لا يخلو من الجرأة التي مبعثها الثقة بالذات والمنهج والأدوات والتحليل والنتائج المترتبة على كل ذلك وبالأساس المقدرة على الاختلاف والتغاير. ومع ذلك كله لم يُتَح لهذا المثقف العربي أن يوصف بأنه واحد من علماء الأمة العربية ومجتهديها في نقد تاريخ الممارسة السياسية التي تمت عبر قرون طويلة باسم الإسلام إلى حدّ أصبحت من المسلمات التي لا ينبغي التفكير بها. بالمقابل، لم تستفد أي من التيارات الفكرية في المجتمع العربي من أفكار محمد أركون، كما لو أن هذه التيارات التي صارت هامشية بل وتخاف من المجاهرة بآراء منفتحة ولو على هامش ما ذكره أركون ونصر أبو زيد والجابري وسواهم من المثقفين الأحياء، بل تنازلت هذه التيارات عن أي موقع لها إما لصالح خطاب السلطة القائمة أو لصالح الخطاب الأصولي بدعوى أن المرحلة هي مرحلة مقاومة لا جدل فيها حول سياقات فكرية ذات طابع تاريخي لا أولوية لها. ما يعني، في حقيقة الأمر، أن محمد أركون لا يزال قارّة معرفية مجهولة بالنسبة للثقافة العربية إجمالا ولا يدرك أهميته الثقافية سوى القلّة، وأن قلّة بين هذه القلّة قد قرأت هذا الرجل بعمق. سيرة أكاديمية ولد محمد أركون في بلدة توريرة ميمون بمنطقة القبائل الكبرى بالجزائر. قضى فترة الدراسة الابتدائية في توريرة ميمون والثانوية في وهران. الدراسة الجامعية بكلية الفلسفة في الجزائر ثم في السوربون في باريس. درّس اللغة العربية والأدب في باريس سنة 1956. حصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون سنة 1968. من 1961 إلى 1991 كان أستاذاً جامعياً في جامعة السوربون واستاذاً زائراً في برلين 1977 ـ 1979 وسنة 1990 ضيفاً باحثاً في Wissenschaftskolleg، وفي برنستون 1992 ـ 1993 في معهد الدراسات المتقدمة، واستاذاً زائراً في جامعات: لوس أنجيلوس 1969، برنستون 1985، لوفان لانيف 1977 ـ 1979، روما في معهد Pontificial d’ Etudes Arabes، وفي فيلاديلفيا 1988 ـ 1990، أمستردام 1991 ـ 1993، جامعة نيويورك لشهري مارس وأبريل في سنة 2001 وسنة 2003، في جامعة أدنبرة Gifford Lectures نوفمبر 2001. كتبه بالعربية من كتب محمد أركون الصادرة باللغة العربية: قضايا في نقد العقل الديني.. كيف نفهم الاسلام اليوم، من الاجتهاد الى نقد العقل الاسلامي، محمد أركون وجوزيف مايلا: من منهاتن الى بغداد.. ما وراء الخير والشر، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، أين هو الفكر الاسلامي المعاصر، الفكر العربي والفكر الإسلامي ـ قراءة علمية، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، الفكر الاسلامي ـ نقد واجتهاد، القرآن من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني، الاسلام أوروبا الغرب ـ رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، العلمنة والدين، تاريخية الفكر الإسلامي.