بعد الفضيحة المدوية التي ضمت اتهامات بالاغتصاب، التحرش، صراعات المصالح وجرائم أخرى، تم تعليق جائزة نوبل للآداب، المؤسسة الأخلاقية العتيقة، العام الفائت. المحلفون، حسب إعلان أسماء الفائزين الأسبوع الماضي، ضربوا عصفورين بحجر واحد: نوبل 2018 للبولونية أولغا توكارتشوك، ونوبل 2019 للنمساوي بيتر هاندكه.. لكن فوز بيتر هاندكه أثار جدلاً كثيراً، ربما لمواقفه السياسية، وربما أيضاً لقلّة أعماله المترجمة إلى اللغات الأخرى، وهو ما أثار أيضاً عربياً أسئلة كثيرة حول هوية بيتر هاندكه وعالمه الإبداعي لدى العديد من المثقفين والقراء بسبب غياب معظم أعماله عن اهتمامات المترجمين ودور النشر العربية، وعلى ضفة الفائزة الأخرى أولغا توكارتشوك انهالت التهاني بالفوز المستحق للروائية البولونية. في هذه الإطلالة مقالين مترجمين عن صاحبي نوبل 2018 و2019.

بيتر هاندكه.. اللاعب السوداوي!
بقلم: فيليب لانسون*
منح جائزة نوبل للآداب هذا العام 2019، للكاتب النمساوي، الموسوم بالثقافة المضادة خلال الستينيات والسبعينيات، يكرس كاتب التجاوز والتحول. مواطنه توماس برنهارد، الذي لا يقدره أبدا، لم يحصل عليها. مواطنته ألفريده يلينك، التي تصغره بأربع سنوات، حصلت عليها في عام 2004. مع بيتر هاندكه، كرس المحلفون الأقل عدوانية من الثلاثة، ولكن ليس الأقل تمردا. هاندكه راو ملحمي بصمت، كاتب أوروبا المسيرات والهامش، روائي شاعر أو شاعر روائي، كاتب يذكر قراءه دوماً بأنهم - مثل شخصياته ومثله تماماً - منعزلون وأقلية. صور الترحال التي يسردها توحدهم، تضعهم في العالم، تجعلهم يطفون في هذا العالم: من روايات قصيرة إلى روايات طويلة، دراسات قصيرة استبطانية إلى حوارات فلسفية نوعاً ما، من مسرحيات إلى سيناريوهات أفلام لفيم فندرز... عالم كما البحيرة.

ابن الأقلية الوجودي
هناك شيء من البيتنيك beatnicks (المتمرد على طريقة جيل البيت الأميركي) في هذه البحيرة، على أي حال في موجات الثقافة المضادة التي انتشرت خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي: مقاومة القواعد، وفي بداية الأمر قواعد السرد، من خلال التحول والتجاوز. نشعر بسريان مياه بحيرة هاندكه في أوروبا الوسطى، بين جبال شتيفتر ومدن كافكا، ولكن أيضاً نجدها في أميركا وفي قلب إسبانيا، هناك حيث يرتوي شبح روسينونت (حصان دون كيخوته). أحياناً، هذا الشبح يثب وسط المشاكل الإنسانية: أثار دعمه للصرب وحضوره جنازة سلوبودان ميلوسوفيتش في عام 2006 (1)، فضيحة مدوية، وأديا إلى حذفه من برامج الكوميدي فرانسيز.
ابن الأقلية الوجودي انضم إلى أقلية سياسية. محلفو المؤسسة الأخلاقية توجوا كاتبا لا يهتم قراؤه بالأخلاق المؤسساتية. سوف نسمعه دوماً يقول لنا، بصوت ضاحك وعينين مغضنين: «الخرقاء على وشك التلاشي». إنهم الأناس الذين يتزايدون من دون منطق.


بعض العناوين الكبيرة في هذا النتاج الغزير تعبر عن عالمه: «قلق حارس المرمى لحظة ضربة الجزاء»، «ساعة الشعور الحقيقي»، «رسالة قصيرة لأجل وداع طويل»، «الغياب»، «المرأة العسراء»، «عودة بطيئة»، «عامي في فرجة الشخص»، «ليلة مورافية» (مورافيا، إقليم تشيكي). يكتب بيتر هاندكه عن الحد، عن الحدود، حدوده وحدودنا، حدوده في حدودنا. لم يكف عن اجتيازها مشيا، قراءة، ظهورا جديدا، وحيدا، منفتحا على كل شيء، مذنبا وبريئا، بكتاب في الجيب ونظارة طبية مستديرة على الأنف لكي يستطيع رؤية كل ما يتبدى وما يجرى أمامه، وسط ضباب المناظر الطبيعية والوعي. إلى من يتوجه؟ إلى نفسه، إذاً إلى القارئ. مترجمه الرئيسي، جورج-آرتور غولدشميت، وصف ما يبحث عنه: «الوصول، بقوة التركيز، إلى هذه النقطة من الحميمية لما يكتب تهز من يقرأ». راو «عامي فرجة الشخص» (1994) يقولها بطريقته: «أتسلى بالمشي وحيداً ومع ذلك أشعر بالحاجة إلى المشي مع الجموع، وبينما تملأني البهجة، أتضرم لأجل الغائبين: من اللازم، لكي يكون هذا الكمال صالحاً، توزيعه في نفس اللحظة معهم، وتوسيعه، فالبهجة في دواخلي لا يمكن أن تندفق إلا وسط الرفقة، ولكن مع من؟». وعن بهجة القارئ، يطلب بيتر هاندكه منه قليلا من الانتباه: الوجود.

انتحار الأم.. الملهم
ولد بيتر هاندكه في عام 1942، عند الحدود الواقعة بين إيطاليا وسلوفينيا. أمضى الجزء الأول من طفولته في برلين. في سن الثانية عشرة، انتقل إلى مؤسسة دينية. تم إرساله إليها بسبب قراءاته لفولكنر وبرنانوس على وجه الخصوص. حكى هذه الواقعة في «الإعادة». ألهمه انتحار أمه في عام 1971 كتابة أحد أعماله المهمة «التعاسة اللا مبالية». سافر إلى الولايات المتحدة، آلاسكا، ثم أقام في فرانكفورت، باريس وسالزبورغ. بيوغرافيته تذوب في كتبه، التي تقتات على غيابه وكرمه. منذ ذاك، يعيش في ضاحية باريسية (شافيل)، قرب غابة جميلة. يحب (فريق الروك) كريدينس كليرووتر ريفيفل، وقطف المشروم. جعلته الشيخوخة جميلاً بلا عمر. دوماً، متسكعا وأمير اللغة، شاعر الأرصفة التي يذرعها جيئة وذهابا، بهيئة بطيئة، دقيقة وعصبية. يذرعها كما طفل، كما شبح، مندهشاً مثل جوال تارة، قلقاً مثل «ك» (بطل رواية لكافكا) وهو يقترب من القصر المنيع، وكثيراً كما الاثنين: مندهشاً بقلق. «أسكن برجا عاجيا، 1967: لفترة طويلة، كان الأدب بالنسبة لي الوسيلة الوحيدة، وإن اعتقدت بكونه غير واضح في دواخلي، إلا أنه كان واضحاً بقوة. ساعدني الأدب على التعرف على حالتي، على وجودي في العالم. بالتأكيد، شعرت بنفسي قبل أن أنشغل بالأدب، ولكن لا يعد الأدب وحده من بين لي أن هذا الوعي ليس حالة فريدة، ولا حالة ولا حتى مرضا. قبل الأدب، هذا الوعي بذاتي كما يقال اجتاحني، كان كالشيء الرهيب، المخجل، المخل بالحياء. تبدت لي هذه الظاهرة الطبيعية أشبه بالغواية الثقافية، العمل الشائن، الحافز المؤسف، لأنني أعتبر كوني وحيداً في هذه الحالة». مشى وكتب عن الخجل الناشئ منذ الطفولة لئلا يلاحقه أبداً.
هناك فيلم عنه، تحقق في عام 2012، بمناسبة بلوغه الستين عاماً، يدعى «لاعب سوداوي». كانت السوداوية حاضرة في كل نتاجه، ولكن من دون الثقل، الموجة والفتور التي نعيرها في غالب الأحايين لهذا التصور. أنها سوداوية دوماً كامنة، دوماً منحرفة، بما أن سيرورتها قام بتحديدها، مثلاً، في عام 1989: «لم يكن التعب موضوعي، وإنما مشكلتي، مقاربة أتموضع قبالتها. (...) ولأجل كل ما يتأتى لاحقاً، صور التعب اللطيفة، الجميلة للغاية، الأجمل من كل الأشياء التي تحرضني على إنجاز هذا البحث، وددت أن أظل بلا قلب: وهذا لكي أستطيع الذهاب إلى آخر صور مشكلتي، وأن أتخذ مكاني بمعنى الكلمة وسط الصورة وأحيطها باللغة وبكل اهتزازاتها وتعرجاتها، إن أمكن بلا أي مشاعر».
......................................................................... (1) منذ خميس الجائزة، ارتفعت الكثير من الأصوات، ومن بينها جمعية «قلم أمريكا»منددة بحصوله على الجائزة.
(*) Philippe Lançon، Peter Handke، Nobel promeneur، Libération، 11 octobre 2019.

أولغا توكارتشوك.. خارج الشرنقة
بقلم: نيقولا فيل*

بطرفة عين تاريخية، استحقت الروائية البولونية أولغا توكارتشوك جائزة نوبل للآداب عن عام 2018، بعد عام من التأجيل، في العاشر من أكتوبر الحالي. مصادفة بأن تهدى هذه الجائزة لكاتبة جعلت من الجراح الفلمندي فيليب فيرهين (1648 1710)، منظر «العضو الشبح»، إحدى شخصيات روايتها «رحلات» (أسود على أبيض، 2010). هذا العمل منحها، في بلدها، جائزة نيكه، الجائزة البولونية المعادلة لجائزة غونكور، وفي عام 2008، حازت على جائزة المان بوكر المرموقة.
هذه الجائزة، جائزة نوبل، تثني على نتاج مهم، على الرغم من شباب الكاتبة النسبي. في واقع الأمر، أولغا توكارتشوك الكاتبة البولونية الأكثر ترجمة خارج بلدها. وفي بولونيا، تباع كتبها بعشرات الآلاف من النسخ. الاستقبال الفرنسي لكتبها حتى اليوم حذر وفاتر. بعد مطبوعات روبير لافون، صدرت كتبها الرئيسية لدى مطبوعات «أسود على أبيض»، التي تديرها فيرا ميشالسكي، وهي ناشرة بولونية الجنسية أيضاً.


ولدت أولغا توكارتشوك في عام 1962 في بلدة سولشوف (سيليزي السفلى). في «رحلات»، تذكر سيرة طائفة روسية خلال القرن الثامن عشر، يقوم أتباعها بتعظيم الحركة المستمرة من أجل تجنب الهلاك الأبدي. وهي نفسها مدحت حياة الترحل خيالياً ومارستها في الحياة. ولكن في زمن بولونيا الشيوعية، كانت الرحلات تتحقق في الكتب والموسوعات التي يجلبها والدها، أمين المكتبة، لها. من هنا، ربما، ذوقها تجاه الأعمال العالم، حيث نجد أن بعضاً من كتبها كلفتها سنوات من التوثيق، القراءة والاستكشاف. وبالتالي، «كتب جاكوب» (أسود على أبيض، )2018، يعيد بناء وجود الهرطوقي اليهودي جاكوب فرانك، عبر تركيا، بودوليا (أوكرانيا) وألمانيا، خلال عصر الأنوار.

كتابة مبتكرة
بعد طفولة في شرنقة عدد من المدارس الأساسية، التحقت بجامعة فارصوفيا، حيث درست البسيكولوجيا. ظلت موسومة بحالة الطوارئ واستيلاء العسكريين على السلطة ونجاحات نقابة التضامن. تمكنت من الحصول على وسيلة للسفر إلى لندن وطبعت أول أعمالها، ديوان شعري، في عام 1989. بعد ذاك، استقرت أولغا توكارتشوك في فروكلاف (براتسلافا سابقا)، في جنوب غرب البلاد، وهي مدينة ذات ذاكرة متعددة (بروسية، بولونية، يهودية).
مازجا بين الوضوح التاريخي، المخيلة الشعرية والصوفية، يتبلور نتاج أولغا توكارتشوك من خلال كتابة مبتكرة، تتأتى من الشذرات، حيث ينبثق التناغم من داخل النص وليس من الضبط الصارم للراوية الخارجية أو القدرة الكلية. كما جرى في سلم جاكوب الذي تصعد الملائكة عليه وتهبط، نجد أن سردياتها ترتقي لأعلى بدرجات. كل شخصية من شخصياتها تتخلى عن مكانها لشخصية أخرى مختلفة تماماً عن الأولى. وهذا لا يمنعها من استغلال مختلف الأجناس، ومن ضمنها البوليسية في «على عظام الموتى» (أسود على أبيض، 2012) حيث نرى الحيوانات تثأر من صياديها. وقد امتلكت إمكانية غير طبيعية لتغيير العالم والشخصيات، وضعت توكارتشوك النساء في المقدمة، في جدارياتها كما في حميمية العلاقات بين ثلاثة أجيال بولونية وصفتها في «حكايات نهائية» (أسود على أبيض، 2007).
......................................................................
(*)Nicholas Weil، Nobel de littérature: la Polonaise Olga Tokarczuk، écrivaine au carrefour des peuples، distinguee، Le monde، 12 Octobre، 2019.