أولاً اسمحوا لي أن أقدم نفسي: أنا شخص لا يعرف كيف يقود سيارة حتى الآن، ولا حتى دراجة هوائية أو بسكليت. بحياتي كلها لم أقد إلا حمارنا الصغير العزيز في القرية. كانت أمي ترسلني إلى الطاحونة البعيدة بعد أن تربط كيس القمح بكل قوة على ظهره ثم تضعني أنا أيضاً عليه وتدعو لي بالتوفيق والنجاح، وتوكلني إلى المجهول. وتبتدئ الرحلة الطويلة عابراً القرى والمزارع بل وحتى الأنهار. ما أجملها من حياة! حتى رامبو لم يعش هذه اللحظة أو تلك المغامرة.. وكان أخشى ما أخشاه أن يقع الكيس على الأرض وأنا في منتصف الطريق خلال الذهاب أو الإياب.
والآن أصبح هذا الفلاح الريفي (كاتب هذه السطور) يركب الطائرات والقطارات الفائقة السرعة أو ما يدعى هنا في المغرب باسم جميل جداً: البُراق. هكذا تلاحظون أنني انتقلت دفعة واحدة من مرحلة ما قبل التاريخ إلى مرحلة ما بعد الحداثة! عشت كل العصور دفعة واحدة أو على دفعات. ولله في خلقه شؤون.

لكن لندخل في صلب الموضوع. كان اكتشاف القطار من أهم الاختراعات التي حققتها البشرية. ولم يؤد فقط إلى تسهيل نقل البشر والبضائع من مكان إلى آخر، وإنما أدى أيضاً إلى توحيد الأقطار والبلدان. هل نعلم بأن القطار ساهم مساهمة فعالة في توحيد ألمانيا إبان القرن التاسع عشر؟ وبالتالي فلا يعود الفضل إلى بسمارك فقط وإنما إلى التكنولوجيا الحديثة. هكذا نتبين العلاقة بين المخترعات التكنولوجية وانعكاساتها السياسية والاقتصادية المباشرة والمثمرة. وقل الأمر ذاته عن إيطاليا وبقية الدول الأخرى. وأما فرنسا فكانت موحدة حتى قبل الثورة، ولكن وحدتها زادت تراصاً بعدها وبعد اختراع وسيلة النقل السريعة هذه. وبالتالي فاختراع القطارات وسكك الحديد أدى إلى تقوية أواصر الوحدة الوطنية داخل كل بلد على حدة عن طريق ربط أجزائه النائية بعضها بالبعض الآخر. ففي السابق كانت الأقاليم المتباعدة جداً مفصولة عن بعضها البعض بسبب بعد المسافة وعدم وجود وسائل مواصلات حديثة للربط بينها بشكل يومي كما هو حاصل حالياً. كانت معزولة عن بعضها البعض ومنغلقة على ذاتها. ولم يكن سكان جنوب فرنسا يعرفون أهل شمالها. كانوا يعتبرونهم شعباً آخر. لماذا؟ لأنه لم يكن هناك تواصل يومي ولا حتى شهري بينهما على عكس ما هو حاصل حالياً. لم يكن يوجد آنذاك إلا الحمير والبغال والعربات التي يقودها الحصان.. وهذه الأشياء كانت إمكانياتها محدودة ولا تستطيع ربط شمال فرنسا بجنوبها أو شرقها بغربها إلا بشق الأنفس. فقد كانت سرعتها ضعيفة لا تقاس بسرعة القطار، بل وحتى القطار ذاته تطور كثيراً على مدار القرنين الماضيين: أي منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين.

المدعو «البُراق»
أتذكر أني عندما وصلت إلى فرنسا في بعثة دراسية عام 1976 كانت الرحلة بالقطار من باريس إلى مرسيليا تستغرق تسع ساعات وربما عشر، ولكنها الآن اختزلت كثيراً ولم تعد تستغرق أكثر من ثلاث ساعات. والفضل لمن؟ للقطار الفائق السرعة المدعو بالبُراق! لكن لنعد إلى الوراء قليلاً ولنطرح هذا السؤال: متى ظهر القطار لأول مرة في تاريخ البشرية؟ والجواب هو على النحو التالي:
ينبغي العلم بأن بريطانيا العظمى كانت أول دولة تبني شبكة لسكك الحديد وتستخدم القطارات في المواصلات. ولم يحصل ذلك دفعة واحدة على عكس ما نتوهم وإنما بالتدريج. ففي عام 1825، أي في الربع الأول من القرن التاسع عشر، لم تكن سكك الحديد فيها تتجاوز الأربعين كيلومتراً! ولكنها ازدادت عام 1835 فأصبحت مائتين وثلاثة وخمسين كيلومتراً. ثم قفزت قفزة كبيرة عام 1845 فأصبحت أكثر من أربعة آلاف كيلومتر! وفي عام 1900، أي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، أصبحت سكك الحديد فيها تشمل مساحة تزيد على الخمسة وثلاثين ألف كيلومتر. وبعد ذلك بفترة معينة أصبحت شبكة القطارات تغطي البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها. ويا له من تقدم هائل! لماذا سبقت بريطانيا غيرها إلى هذا التطور الكبير، إلى هذا المخترع التكنولوجي الرائع؟ لسبب بسيط هو أنها مهد الثورة الصناعية في الغرب. فقد ظهرت فيها أولاً ثم انتقلت بعدئذ إلى ألمانيا وفرنسا وبقية الدول الأوروبية بالتدريج. فانجلترا هي التي صنعت الآلة البخارية والسفن الضخمة التي تسير عليها. وكانت تسيطر طيلة القرن التاسع عشر على البحار بفضل أسطولها الضخم الذي لا يضاهى. وكانت بريطانيا تسيطر على نصف التجارة العالمية بفضل سفنها التجارية العديدة. وبالتالي فالقرن التاسع عشر هو قرن الهيمنة الإنجليزية على العالم.

قطار الحزن
كانت الثورة الصناعية التي غيرت وجه العالم قد ظهرت إبان القرن التاسع عشر. وكانت تعني الانتقال من الاقتصاد التقليدي القائم على الزراعة أساساً إلى الاقتصاد الحديث القائم على الصناعة والتكنولوجيا. وقد رافق ذلك تثوير وسائل النقل، سواء نقل البضائع أو نقل الأفراد. ففي السابق خلال العهد الإقطاعي الزراعي كانت وسيلة النقل الوحيدة هي الدواب من حمير وبغال وأحصنة. وكانت العربات التي تجرها الخيول هي سيارات أو قطارات ذلك الزمان. ونحن لا نزال نراها في الأفلام السينمائية حتى الآن. ولا نزال نتذكرها بنوع من الإعجاب والحنين. ولكن هل تعلمون كم كانت تستغرق الرحلة من باريس إلى بوردو آنذاك؟ ثمانية أيام. وكانوا يغيّرون الخيول المتعبة في كل محطة. وكانوا ينامون على الطريق ويأكلون ويشربون. ثمانية أيام! وأما بعد اختراع القطار الكلاسيكي فقد أصبحت ثمانية ساعات. والآن بعد اختراع القطار الفائق السرعة أصبحت ساعتين فقط. فلاحظوا الفرق بين ثمانية أيام وساعتين: ثورة حقيقية! لاحظوا الفرق بين عصر الحصان وعصر القطار. لقد حقق القطار ثورة كبرى في المجال الاقتصادي عن طريق اختصار الزمن والمسافات. والآن أصبحت هناك قطارات تحت الأرض (أي مترو) بغية تخفيف الزحمة في مدن كبرى من أمثال نيويورك وطوكيو وهونغ كونغ وموسكو وباريس ولندن.
أخيراً اسمحوا لي أن أختتم بهذه القصيدة الجميلة لنزار قباني. فهي تمجد القطار حقاً. لم أقرأ في حياتي كلها قصيدة عن القطار أجمل منها. عنوانها: أنا قطار الحزن، ولا أعرف لماذا؟ فأنا شعرت بفرح غامر عندما قرأتها. لم أشعر بأي حزن أبداً، على أي حال لنستمع إليها كاملة قبل أن نقدم بعد التعليقات والشروحات الشخصية:

«أنا قطار الحزن»

أركبُ آلاف القطارات
وأمتطي فجيعتي
وأمتطي غيم سيجاراتي
حقيبة واحدة.. أحملها
فيها عناوين حبيباتي
من كن بالأمس حبيباتي

يمضي قطاري.. مسرعاً
يمضغ في طريقه لحم المسافات
يفترس الحقول في طريقه
يلتهم الأشجار في طريقه
يلحس أقدام البحيرات
يسألني مفتش القطار عن تذكرتي
وموقفي الآتي
وهل هناك موقف آتي؟
فنادق العالم لا تعرفني
ولا عناوين حبيباتي
لا رصيف لي
أقصده.. في كل رحلاتي
أرصفتي جميعها.. هاربة
هاربة.. مني محطاتي
هاربة.. مني محطاتي

حركتان متناقضتان
ماذا يمكن أن نقول عن هذه القصيدة الخفيفة الظريفة؟ أشياء عديدة ولكن نكتفي فقط بذكر رؤوس الأقلام. كان الناقد الفرنسي جان كوهين قد قدم أعمق وأنضج نظرية عن اللغة الشعرية في رأيي. وقد قابلته يوماً ما في باريس أيام العز والمجد والركض وراء العلم وغير العلم. وتتلخص نظريته فيما يلي: اللغة الشعرية تختلف عن جميع اللغات الأخرى من حيث كونها مليئة بالمجازات الإبداعية الخلاقة والخارقة. والشعراء الكبار هم وحدهم القادرون على ابتكار هذه المجازات المذهلة التي تخرجنا عن طورنا وتدخلنا في حالة النشوة الشعرية ما أن نطلع عليها. من هنا سحر القصائد الناجحة. ونظرية جان كوهين تنطبق كل الانطباق على قصيدة نزار قباني هذه.
سوف أفرز المجازات الأساسية التي توصل إليها شاعرنا الكبير قبل أن أشرح بدقة أكثر نظرية الناقد الفرنسي اللامع. لاحظوا معي هذه التعابير الخلابة: «وأمتطي غيم سجاراتي»، «يمضغ في طريقه لحم المسافات»، «يفترس الحقول في طريقه»، «يلتهم الأشجار في طريقه»، «يلحس أقدام البحيرات»!..الخ.. هذه هي المجازات أو الاستعارات أو الصور الرائعة التي تلفت الانتباه للوهلة الأولى في القصيدة، وهي التي ولدت الشحنة الشعرية التي أمتعتنا. ماذا تقول نظرية جان كوهين؟ بالمختصر الشديد تقول ما يلي: الشحنة الشعرية ناتجة عن حركتين اثنتين: الأولى سلبية والثانية إيجابية. إنها ناتجة عن انتهاك نظام اللغة المعتاد أولاً. ولكنها ناتجة أيضاً عن تقليص هذا الانتهاك في المرحلة الثانية أو اللاحقة. ووحدهم الشعراء الكبار يستطيعون الجمع بين هاتين الحركتين المتناقضتين. إنهم ينتهكون منطق اللغة أولاً قبل أن يقلصوا هذا الانتهاك ثانياً. ولذلك فإنهم يقدمون مجازات مقنعة على الرغم من كل انتهاكهم للمعنى اللغوي المعتاد. أما الشعراء الصغار فيكتفون بالانتهاك المجاني والتعسفي لنظام اللغة. ولذلك فإن دواوينهم تمتلئ بالمجازات العشوائية غير المقنعة. إنهم ينتهكون نظام اللغة وقوانينها بشكل مجاني على عكس الشعراء الكبار. فهؤلاء وحدهم القادرون على اختراع أو افتراع المجازات الشعرية المبتكرة والخارقة.
لندخل في التفاصيل أكثر: ماذا تعني كلمة نزار قباني: وأمتطي غيم سجاراتي؟ للوهلة الأولى يبدو التعبير عبثياً. إذ كيف يمكن أن تمتطي أو تركب على غيم السيجارة أو دخانها؟ مستحيل. ولكن الشاعر الكبير في الحركة الثانية يقنعك بهذا الانتهاك المعنوي واللغوي عن طريق الإيحاء بأن غيم السيجارة يصعد إلى أعلى بطبيعة الحال، وبالتالي فامتطاؤه يصبح معقولاً على سبيل المجاز. هكذا نلاحظ أنه قلص من انتهاكه الجريء لنظام اللغة ومعانيها المنطقية. ثم ما أجمل هذا المجاز الذي لا يقدر عليه إلا نزار قباني عندما يقول عن القطار بأنه: يفترس الحقول في طريقه! أو: يلحس أقدام البحيرات!..
تحية للشعر إذاً، تحية لنزار قباني..