لطالما كانت الكتابة الوسيلة الأفضل لتوثيق الحضارات وحفظ تاريخ الأمم ومعارفها، ودائماً ما سعى الإنسان إلى تطوير أساليب أكثر فاعلية للمحافظة على ما تم تدوينه من قصص الشعوب وحكم العلماء وأدلة العلم، لتتوارثها الأجيال وتتطور بها المجتمعات ويدوم ازدهار الحضارة الإنسانية.
اليوم، يشهد عالمنا ثورة تكنولوجية جعلتنا في حاجة دائمة لمواكبتها، إذ أنها طورت من طرق تدوين المعلومات وتوثيقها ومشاركتها، لينتج عنها ما يعرف بالنشر الرقمي الذي أسهم في منح المعلومات عمراً افتراضياً طويل الأجل. كما أنها ساهمت في إشاعة القراءة وتشجيع حب المعرفة بين مختلف الأوساط والشرائح، وبات تحبيب القراءة للأجيال الأصغر عمراً أكثر سهولة وتشويقاً مع إتاحة وسائل أكثر جاذبية للكتاب.
في الوقت الذي يشكّل فيه النشر الرقمي حلقة أساسية في عالم الثقافة والمعرفة، فإنه بات لاعباً استراتيجياً في تمكين الكتابة، وإتاحة مشاركة المعلومات على نطاق لا حدود له، كما أنه سهل مهمة الكتّاب الجدد بنشر كتاباتهم ومشاركتها مع الجمهور عبر أدوات النشر البسيطة وما يعرف بالمدونات الإلكترونية ذات التكلفة المنخفضة.
رغم توفر هذه المميزات وغيرها في النشر الرقمي، إلا أن هناك بعض التحديات لا تزال قائمة أمام العاملين في قطاع النشر العربي، منها افتقار الكتّاب للمعرفة بتقنيات وخفايا مجال النشر الرقمي، إذ أن المخاوف من فكرة قرصنة الكتب الإلكترونية ما زالت سائدة، لتجعل بعض الكتّاب يفضلون النشر التقليدي على الرقمي.
لتخطّي هذه التحديات، يركز منتدى أبوظبي للنشر الذي تنظمه دائرة الثقافة والسياحة بأبوظبي اليوم على تقديم حلقات نقاشية للبحث عن حلول للتحديات التي يواجهها قطاع النشر، وذلك في ظل الثورة التقنية التي يشهدها العالم، بالإضافة إلى ورشات تثقيفية تعرّف الكتّاب والناشرين بآلية النشر الإلكتروني الآمن، وتعرّفهم على برامج إدارة الحقوق الرقمية وقوانين ونظم حماية حقوق الملكية الفكرية في العالم والشرق الأوسط بشكل خاص، علاوة على تحفيزهم عبر إلقاء الضوء على قصص النجاح العالمية التي ساهمت في تطوير صناعة النشر وعززت من انتشار المعرفة.
إن فرص انتشار المعرفة وتوسعة المدارك الفكرية التي يوفرها النشر الرقمي باتت ملموسة في يومياتنا، وبخاصة مع شيوع استخدام الهواتف الذكية، والتي أصبحت رفيقاً لا غنى عنه للفرد، وكذلك الألواح الذكية التي تختزل مكتبات عامة ضخمة في جهاز واحد، وهي إحدى الوسائل التي لم يتم تطوير محتواها العربي بعد، فمثلاً إمكانية نشر وبيع الكتب العربية رقمياً لم تتح عبر منصة «كيندل» التي يديرها الموقع العالمي «أمازون» إلا في عام 2017، وهي واحدة من أضخم منصات النشر الرقمي في العالم. في منتدى أبوظبي للنشر نقدم ورشة عمل متخصصة عن هذا الموضوع تحديداً لتوضيح مميزات هذه الخاصية وكيفية الاستفادة منها، وذلك بالتوازي مع ورشة عمل أخرى عن كيفية حماية الكتاب الإلكتروني من القرصنة، وغيرها من ورش العمل التي تدعم نمو النشر الرقمي في المنطقة.
إن النشر الرقمي ليس نداً للنشر الورقي كما يعتقد، بل هو مكمل له؛ إذ أنه يعمل على توسعة القدرة على الوصول إلى المحتوى المكتوب ويفتح المجال للمواهب الجديدة للدخول إلى عالم الكتابة بأسهل الطرق، إلا أنه مجال بحاجة إلى التطوير من خلال دعم المحتوى العربي من جهة بتشجيع الاتجاه إلى الرقمنة من قبل الناشرين والكتاب والقراء على حد سواء، ومن جهة أخرى هناك حاجة ملحة لرفع الوعي بأهمية النشر الرقمي في عالم بتنا نتحكم بتفاصيله من خلال الأزرار وباللمس، فقد أصبح النشر الرقمي فناً بحد ذاته لتوثيق المعرفة ونشرها بأشكال تواكب العصر ومتطلباته، بما فيها تفضيلات المستهدف وهو القارئ، والذي تغيرت ملامحه بتغير العصر وأدواته، وعلينا أن نستعد منذ الآن لنلبي متطلبات القارئ المستقبلي.

*وكيل دائرة الثقافة
والسياحة - أبوظبي