غالية خوجة (دبي)

يتسم الإبداع الروسي بزخمه النوعي في كافة الأجناس الأدبية والمجالات الإنسانية العلمية والمعرفية الأخرى، ويتمتع الشعب الروسي بعراقة الذاكرة والمخيلة والحضور والجذور، وله من القوة الفاعلة في الحضارة الإنسانية فضاء تأثيري وأثيري يمتد مثل غابات الأزمنة، ويتلألأ مثل ثلوج روسيا، ويبدو غائماً مثل سمائها المتفتحة بين صحو وصحو، متحركاً في شبكة من التحولات الفنية، والمذاهب والمدارس والتيارات الفكرية والفلسفية والفنية والنقدية والأدبية، منها الرومانسية، الواقعية، الطبيعية، التقليدية، الكلاسيكية، الاجتماعية، البلاغية، الواقعية الكلاسيكية، الرمزية، الكلاسيكية الجديدة، الدادائية، والسوريالية، والتجريدية، وما إلى هنالك من تيارات الحداثة وما بعد الحداثة.
هذا العمق الحضاري المتواصل في اليوميات الروسية، يتجسد متألقاً بين الأجيال، ويستمر روحاً واحدة لدى الشعب والسلطة، ويجسده الاحتفاء الراقي بالمبدعين، مثل استصدار طوابع رمزية وطنية بصورهم، وتسمية الأماكن والشوارع والمباني والمعاهد والجامعات والمدارس وسواها من مرافق الحياة بأسمائهم، وإقامة التماثيل لهم في الأماكن العامة، وهذا ما عكسه، أيضاً، قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شهر مايو الماضي، عندما أطلق أسماء أدباء وعلماء على بعض مطارات روسيا، بدءاً من ألكسندر بوشكين الشاعر الروائي المسرحي، المعروف بأمير شعراء روسيا، عبوراً بالعالم ميخائيل لومونوسوف، والروائي فيودور دوستويفسكي، والمغني الشاعر فلاديمير فيسوتسكي، وهي بادرة حضارية تُحسب لروسيا آملين أن تصبح تقليداً عالمياً.
ولأن الأدب الروسي بأشكاله المتنوعة، تمركز متمحوراً حول الإنسان وقضاياه الداخلية بفضاءاته الإنسانية والمجتمعية والمخيلتية العابرة للزمان والمكان، فإنه أمسك بمركز دائرة الخلود، ولذلك فإن أهم الآثار الإبداعية تظل من المآثر الحضارية رغم مرور الأزمنة، ومن هنا تتوهج كلاسيكيتها في الديمومة لتستمر مع أجيال القراء، ولتستمر ترجمتها إلى مختلف لغات العالم ومنها اللغة العربية بكل تأكيد.

تأملات الشعر
يتميز الشعر الروسي بمحليته وعالميته في آن معاً، وتظهر مفردات الطبيعة من بحر وثلج وأمطار وفصول وغيوم وأشجار متضافرة مع الحالات الوجدانية والفلسفية والتأملية والواقعية لتنجز الحالات الإنسانية المختلفة من حب وحزن وحرب وصراع وسلام وموت وحياة ومخيلة، وجدلية تتشابك بين الصمت والصوت ومقاماتهما وتحولاتهما في الثيمات الفنية من مباشرة، وواقعية، ورمزية، وتصويرية، ومشهدية، وتشكيلية، مما يجعل القصيدة الروسية تنثر بيئتها الطبيعية تحايثاً مع بيئتها النفسية والاجتماعية ضمن تموجات اللحظة المترسبة في النصوص الشعرية.
ومن أهم الشعراء الروس شاعر روسيا العظيم بوشكين، الذي أسس لأسلوب روسي جمالي في الأجناس الأدبية، شعراً وسرداً ومسرحاً، غير متخلّ عن مشهدية الحدث التصويرية والتصورية والخيالية، ليكتب الحياة بدلالاتها الأعمق، وبجُملٍ شعرية ناصعة بالخلود، ومرصعة بالكثافة والفضاء الملحمي، والحدث السردي الشعري الذي يواصل رشقاته الفنية بين مقطوعات تتفرع إلى ثيمات فنية، منها قصيدة الومضة المعاصرة، والمقطوعة الموسيقية، والملحمة الكلاسيكية، والفصول الروائية التي تنطلق من منصة المخيلة لتعود بفسيفساء المعنى وصورته المتعددة الدلالات والألوان.
ومن شدة فجيعة الشاعر ميخائيل ليرمنتوف بوفاة بوشكين، كتب له قصيدة بعنوان «مصرع شاعر»، بينما تبرز حساسية سيرغي يسنين الشعرية في التشكلات التصويرية المعتمدة على الجملة الصورة، والمشهد اللوحة، بتناغمية وجدانية تتحرك بين البصر والكلمة.
وتجذبنا تجربة الشاعر الرمزي الغنائي ألكسندر بلوك الذي تأثر بالشاعر الفيلسوف سولفيوف الأب الروحي للرمزية الروسية، إضافة إلى عدد من رواد الحركة الرمزية الروسية، أمثال قسطنطين بالمونت، فاليري بريوسوف، ميرشكوفسكي.
ويزدحم المشهد الثقافي الروسي بالعديد من الأسماء، منها: نيقولاي غومينيف، فلاديمير ماياكوفسكي، مارينا تسفيتاييفا، أوسيب مندلشتام، جوزيف برودسكي (نوبل 1987)، والروائي ألكسندر فادييف، وأندريه بيلي، ومن الكاتبات والشاعرات الروسيات، نذكر أولغا بيرغولتس، تاتيانا مامونوفا، ماريا مورافسكايا، بيلا أحمدولينا، ومن المعاصرات لينور غوراليك، يانا توكاريفا، فيرا بافلوفا، كسينيا مارينينكوفا، أللا كريلوفا، إلا أن أشهرهن ماريا تسفيتاييفا وشاعرة الحب الروسية آنا أخماتوفا، لكن كلمات الشاعر رسول حمزاتوف تظل صادحة بين الحب والوطن والحكمة.

مسرح البولشوي
أمّا المسرح الروسي، فمشهور بتاريخه، ومعروف عن الشعب الروسي احتفالاته المسرحية الأولى، بدءاً من الاحتفالات الشعبية، الدينية، والطبيعية، والحياتية، التي يعبّر فيها الناس عن أحوالهم وطقوسهم واحتفالاتهم بمواسمهم، كموسم الانقلاب الصيفي والشتوي، وموسم الربيع «ياريلا»، وصولاً إلى تبلوره مع عصر النهضة، أواخر القرن 18 وبداية القرن 19، وتظهر مبان خاصة بالمسرح مثل مسرح بيتروفسكي في موسكو، ومدرسة فنون التمثيل المسرحي، ومسرح أوسيب إيفانفيتش، ومسرح بوشكين، ومسرح فيودور أدامافيتش.
ثم توالت الحركة المسرحية وانتشرت في المدن الروسية، وتنوعت بين الكوميديا والميلودراما والتراجيديا والفلكلور والرومانتيك والرقص والعبث والمفاهيمية والتجريب، إلى أن ظهرت مسارح أخرى للموسيقا، والباليه «دُور الأوبرا»، ومسرح الأطفال، ومنها مؤخراً المسرح المائي.
ويعتبر فيودور غريغوريفيتش فالكوف أبا للمسرح الروسي، لأنه أول المؤسسين لمسرح قومي روسي (البولشوي)، إلى جانب أول الممثلين إيفان إيفانفيتيش ديمترييفسكي، ومن رواد المسرح الروسي الذين تركوا بصماتهم العالمية كتابة وإخراجاً، نذكر: قسطنطين ستانسلافسكي، والطبيب القاص والمسرحي الدرامي أنطون تشيخوف، والكاتب ألكسندر أوستروفسكي، ماير هولد، أيفروس، توفستونغوف، فومينكو، إضافة للعديد من الشعراء والساردين والحكائين، وبهذا الصدد، أصدر مشروع «كلمة» في أبوظبي كتاب «الثقافة الفنية العالمية في القرن العشرين/‏‏ المسرح ـ 2018)، للمؤلفة لودميلا نيكراسوفا، وهو جزء من موسوعة روسية تشمل الموسيقى والسينما، وتذكر فيه أهم التيارات المسرحية الروسية، وكيف لعب مهرجان تشيخوف العالمي للمسرح دوره المحوري بين المسرحين الروسي والأوروبي.

فلسفة المفاهيم
وعندما نعبر إلى النقد الروسي وتاريخه ومعاصرته، فإننا نتبين كيف برزت أهم الأفكار والمفاهيم والمصطلحات النقدية، بدءاً من الشكلية، وصولاً إلى البنيوية وما بعد البنيوية والتجريدية والنفسية والحداثة وما بعد الحداثة، وتبرز فاعلية العديد من الأسماء الأدبية في هذا المجال، منهم: فاسيلي روزانوف، فيكتور شيكلوفسكي، ناديجدا غيبيوس، يوري تينياتوف، بوريس إيشينباوم، رومان جاكبسون، غريغوري فينكور، مايكل باختين، يوري لوتمان.
وتظل لأدب الأطفال أهميته لدى الروس، سرداً ومسرحاً وموسيقا وتشكيلاً، وهو مبني على توظيف عدة عوامل مفيدة، كالتشويقية، والتربوية غير المباشرة، والتعليمية، وزيادة مفردات كل من المخيلة واللغة، والاهتمام باللوحة والصورة، إضافة إلى الاهتمام بالمسموع والمرئي والمكتبات التكنولوجية، ومن الأسماء البارزة في هذا المجال: أغنيا بارتو، فيتالي غوباريف، يفغيني فيلتسيتوف، نيقولاي نوسوف.

إيقاعات السرد
أهم ثيمات السرد الروسي تشابك البنية السطحية والعميقة فنياً، وسيكولوجياً، ولغوياً، في نتاجات المبدعين الروس، الذين اعتمدوا على الحكاية، والمسرحة، والمشهدية السيناريوهاتية، والسينمائية، والصورية، والواقعية المباشرة، والواقعية الكلاسيكية، والرمزية، والإيحائية، والسيميائية، والشعرية، وهذا ما نلاحظه في العديد من أمهات السرد الروسي، بين رواية وقصة، ومن الممكن ملاحظته، بمفهوم ما، في السرد التصويري المسرحي، السينمائي، التلفازي، والتشكيلي والنحتي، والموسيقي لا سيما في السيمفونيات، والأوبرا، وعروض «الباليه».
ويكتشف القارئ كيف صمدت روايات ليو تولستوي الذي رفض جائزة نوبل عام 1906، ومنها روايته الملحمية «الحرب والسلم»، بتردداتها العالية بين الصراع والمحبة والأمان، وهو ما تركز عليه رواية «الحياة والقدر» لفاسيلي جروسمان، بينما يكتبه ميخائيل شولوخوف (جائزة نوبل 1965) برومانسية محاصرة بالماضي العائلي ومتغيرات الحياة الروسية في روايته «الدون الهادئ».
وتبرز زمنية اليوم الواحد في رواية «يوم واحد في حياة إيفان» لألكسندر سولجينستين (جائزة نوبل 1970)، ويُظهر بوريس باسترناك (جائزة نوبل 1958)، بطل روايته «دكتور زيفاجو»، مناضلاً يثبت وجوده المهني والشعري والفني، ويأخذنا فيودور دوستويفسكي مع روايته «الأخوة كارامازوف» إلى الصراع الفلسفي الفكري العاطفي بين أبناء الجيل الواحد، ونستشف عاطفة مختلفة في رواية «الأم» لمكسيم غوركي، وتتضح المدرسة الواقعية الساخرة مع نيقولاي غوغول الشهير بـكتاباته لا سيما «المعطف»، وتبدو رواية «بطل من زماننا» لميخائيل ليرمونتوف أول رواية نفسية روسية، وتتميز رواية «الآباء والبنون» لإيفان تورجينيف بشعرية سوسيولوجية. بينما يمزج الكاتب المهجري الشاعر الروائي إيفان ألكسيفيتش بونين (جائزة نوبل 1933)، سيرته الذاتية مع بطل روايته «حياة أرسينيف»، وبدورها، تخبرنا رواية «حفلة الجنازة» ليودميلا التيسكافا عن آلام الغربة والهجرة الروسية المعاصرة.
ويستوقفنا ألكسندر بوشكين في أعماله الشعرية والسردية الشعرية لا سيما في روايته الملحمية «يفجيني أونيجين»، وفنياتها المترنمة بإيقاعات الجملة المختزلة، والمعنى الإشاري، وهذا ما جعل الكثير من النقاد اعتبار هذه الرواية رواية الحداثة التأسيسية في روسيا، ولأهميتها العابرة للأزمنة والأمكنة، حوّلها الموسيقي الكلاسيكي تشايكوفسكي أوبرا مؤلفة من (3) فصول، ربما نسمعها من خلال كلمات هذه البانوراما فيما لو أصغينا بعمق شديد.

كلاسيكيات الموسيقى
تستوقفنا الموسيقى الكلاسيكية الروسية، بين سيمفونيات وأوبرا وعروض «باليه»، ولا بد أن تحضر «بحيرة بجع» تشايكوفسكي، و«شهرزاد»، و«ألف ليلة وليلة» نيقولاي ريمسكي كورساكوف، وباليه «طقوس الربيع» إيغور سترافنسكي، وسيمفونية «لينينغراد» لديمتري شوستاكوفيتش، أوبرا «بوريس غودنوف المأخوذة عن مسرحية بوشكين الشعرية للموسيقار موديست موسورسكي، كما لا ننسى الجهود الموسيقية لكل من ميخائيل غلينكا، ميلي بالاغريف.

سحر التشكيل
لا تخلو احتمالات الفن التشكيلي الروسي من موجات نهر النيفا، لاسيما مع نشأته أواخر القرن الـ 17، وتأثره بالفن الأوروبي والواقعية الاشتراكية والمواضيع الدينية وصور النبلاء ورجال البلاط والقديسين، مما ساهم في تأسيس الأيقونة الروسية، ثم، وبالتدريج، بدأت تظهر التيارات الأخرى، ومنها الرومانسية، الواقعية السحرية، الانطباعية، التكعيبية، والتجريدية، إلى أن تأسست أكاديمية الفنون الروسية في منتصف القرن الـ 18، لتحتفي بالرسم والنحت، ومن منا ينسى (الأم ماتروشكا)، وتماثيل العباقرة الروس المنتشرة في كل مكان، ولا بد من أن نذكر أحد أكبر متاحف العالم (الأرميتاج) الذي افتتحه القيصر نيقولا الأول عام 1852، الحافل بالأنشطة والمهرجانات والذي يضم ملايين التحف الفنية العالمية، والممتدة فروعه إلى لندن، لاس فيغاس، أمستردام، فيرارا.
ومن أهم التشكيليين، نذكر الرومانسي نستروف، الأيقوني كيبرنسكي، جماعة علم الفن وصالونها الخريفي 1906 كحلقة وصل بين الفنين الروسي والفرنسي، ثم بدأت مع كتاب (الشعاعية) لكل من لارينوف، غنشاروفا، مالفيتش، مرحلة جديدة للفن الروسي، تزامنت مع تيارات مختلفة مثل الواقعية التي تجسدها أعمال الكثيرين، منهم ماليافين، شيبتسوف، بافل كورين، لاكيتوف، والشكلانية وممثلوها فربل، سيروف، باريسوف، موساتوف، كما برزت مجموعة الوردة الزرقاء المنجذبة إلى الرمزية، ومن فنانيها كوزنتسوف، بتروف، فودكين، كما ظهرت التكعيبية وأبرز فنانيها أكستر، وكان لا بد من التجريدية، ومن عوالمها أعمال الفنانين ماليفتش، تاثلين، وفاسيلي كاندينسكي الذي أبدع في توظيف التراكيب اللونية، ودلالاتها، مع الخطوط والأشكال الهندسية، وإيقاعات العناصر، وتراكيبها المتصلة المنفصلة في آنٍ معاً بين الكتلة والفراغ، ومرادفاتها الظلالية بين موسيقا الإيحاء والسرديات الرمزية.