غالية خوجة (دبي)

بديع جحجاح من الفنانين التشكيليين الهائمين في عالم (أفلا) ورباعيتها (يتفكرون، يتذكرون، يشكرون، يعقلون)، وهو مشروعه الذي يجمع بين تشكيلات الخط، ودوران الأفلاك، وأعماق الإنسان الدائرة بين الفصول الروحية والنفسية والأرضية والكونية، بغية الولوج من تلك اللحظة في تلك (النقطة) بمدلولاتها المختلفة، ليشرف الكائن على الالتقاء بروحه، بعد رحلة بين الفناء والبقاء، وكأنه ينشد مع ابن عربي: «ما تبحث عنه موجود فيك»، لكن السؤال: كيف تجد ما هو موجود فيك؟
تجيبنا حركية الألوان وفلسفتها الروحية التي تدور مع شخوص لوحاته دوراناً مولوياً مع الرقصة التي ابتكرها جلال الدين الرومي، وتواصلها كائنات لوحاته الأخرى، المؤلفة من الطبيعة وأساطيرها، وتكويناتها، وتحولاتها، خصوصاً اللوحة الممطرة بالضوء الخفي والحكايات والتأمل وتجليات الشجر العتيقة، التي تحيل ذاكرتها لبيت شعري من قصيدة البردة/‏‏‏‏ البوصيري: «جاءت لدعوته الأشجار ساجدة، تمشي إليه على ساق بلا قدم»، ورغم ما تتمتع به اللوحة من إحالات رومانسية وانطباعية تذكّرنا بالفنان العالمي سيزان، إلاّ أنها أكثر قرباً من الواقعية السحرية الماركيزية، مما يجعل الأشجار شخصيات بطلة في اللوحة، إضافة إلى دور الضوء المشع من وهج الشمس، العاكس لشخصية بطلة رئيسة أخرى، لا يقلّ فيها دور الظل عن دور المطر والألوان المتحركة بشفافية رغم القتامة الظاهرة، لتنشر دلالاتها بين تدرجات الأصفر والزيتي والأبيض والترابي والأسود والبنفسجي العابر.
ولأن الأشجار في هذا الفضاء شخوص إنسانية، فإننا نلمح ظلالها في أعمال جحجاح الأخرى وسلسلة مشاريعه المتوالية، مثل (يحبهم ويحبونه)، و(حبق)، وغيرها، التي تتمركز حول نظرة إلى الأعماق الباطنة والأعماق العليا، لتكون البصيرة ضوءاً ياقوتياً كاشفاً للحالة التي يبدو فيها المتصوف، الدرويش، وهو يدور عكس الزمن، محدقاً في أعماقه المرسومة شخصاً آخر هو ذاته الأخرى التي يبحث عنها، والتي يتساءل عنها في لوحات أخرى تعتمد على فنيات الطاقة وألوانها ومفرداتها وهالاتها وجاذبيتها اللامرئية، تماماً كما في «جحيم نيوتن» للشاعر عبد العزيز جاسم، كما تعتمد على تخليص الروح من الشوائب، حيث المحبة تصبح قلباً «قابلاً لكل صورة» (ابن عربي)، كما يصبح (الحبق) بلونه الأخضر الممزوج بالزمردي نبضاً لألوان الوجدان، والكشف، والوجد، وهي المحبة العاشقة ذاتها المنعكسة من لوحته (رباعية الشخوص)، بما يشير إليه الرقم (4) كرمز أساسي للأقطاب، والجهات، والأبعاد، وبما تتبلور به كل شخصية من خلال تدرجات الألوان الرامزة للطاقة: اللازوردي، الأرجواني، الأصفر، الأبيض الممزوج بلون قمريّ خفيف، وتشكّل حركة هذه الألوان وشخوصها مشهداً يدور حلزونياً منطلقاً من الأعماق، ومتجهاً إلى الأعلى، أي، نحو الضوء الناتج عن الحركة وهي تتملص من الخلفية السوداء بكل معانيها ونصوصها، محلقة نحو المركز الكوني.
نذكر أن الفنان السوري بديع جحجاح، صاحب غاليري ألف نون، حوّل مشروعه (أفلا) إلى كتاب مصور، وإلى «إكسسوارات» ذهبية وياقوتية وزمردية، ومنحوتات بخامات متنوعة، كما أنه أقام العديد من المعارض العربية والعالمية، نذكر منها في كل من سورية، ومصر، واليونان، والدانمارك، والإمارات، حيث ألقى، منذ 4 سنوات، محاضرة عن «تحولات النقطة، مفهوم أفلا» في ندوة الثقافة والعلوم بدبي، تلاها معرض فردي في دبي أيضاً.