محمد عريقات (عمان)

من المؤكد أن طفولة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899- 1986) هيأت له كل ما يحتاجه في فتوته وشبابه وسنوات نضوجه ليكون على هذه الدرجة الرفيعة بين كتاب وشعراء ونقاد عصره، فوالده المحامي وأستاذ علم النفس هيأ له في كل مراحل عمره ما يحتاجه للدخول إلى عالم الأدب، وأمه أيضاً، المترجمة الأدبية، كانت سبباً في إتقانه للغة الإنجليزية إلى جانب الإسبانية، ومن ثمّ إتقانه للفرنسية بعد انتقال العائلة إلى جنيف، وفيها تخرج في جامعتها، وبجهد منفرد أضاف إلى تلك اللغات التي امتلكها اللغة الألمانية.
وحول ذلك يقول بورخيس الذي يصادف بعد غد 24 من أغسطس ذكرى ميلاده الـ119: «أبي، قدم لي مكتبته، التي بدت لي لانهائية، وقال لي: اقرأ كل شيء، لكن إذا شعرت بالملل، اتركها فوراً، هذا كل شيء. على العكس من القراءة الإلزامية. القراءة سعادة، وهذا هو التفكير في المشكلة التي لا يعد اكتشافها أقل أهمية من اكتشاف الحل، لا أعرف إن كانت هناك حلول قد اكتُشفت، لكن الكثير من المشاكل قد اكتشف. العالم يصبح أكثر غموضاً، أكثر إثارة، أكثر سحراً بالقراءة التي كرست لها وللكتابة حياتي. بالنسبة لي كلاهما نشاطان ممتعان. عندما يتحدث الكتّاب عن عذاب الكتابة، لا أفهم عن ماذا يتحدثون، بالنسبة لي الكتابة ضرورة».
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، سافر بورخيس إلى إسبانيا، وفيها ظهرت بواكير نتاجه الشعريّ في المجلات الأدبية، وشرع في تأسيس عدد من المجلات الأدبية التي تبنت توجه «الفن لأجل الفن»، وفي تلك الفترة كان في أوج إبداعه وذروة نضوجه الفكري والسياسي والأدبي، ومع بدء ضعف بصره انعطف بورخيس نحو التعليم للغة الإنجليزية، وتولى منصب رئيس جمعية الكتاب الأرجنتينيين، ونال بعدها الدكتوراه الفخرية من جامعة كوبو وعمل أستاذاً للآداب في جامعة بيونس آيرس حتى عام 1970 وبدأ اسمه، كأديب وناقد، ينتشر في العالم أجمع، وبدأ نتاجه يحصد أهم الجوائز العالمية الرفيعة.
كانت علاقة بورخيس بالنساء علاقة غرائبية مثيرة للفضول لغموضها، وهذا ما انشغل به بعض الدارسين لأدبه، ويذكر البعض أن والدته ظلت تعتني به حتى شيخوختها، وذلك لضعف بصره الشديد أو بالأدق عماه، فكانت بمثابة سكرتيرة خاصة له، وأجبرته على الزواج لعدم مقدرتها على الاعتناء به، فتزوج لمدة ثلاث سنوات، وتم الطلاق بعدها دون أن يقترب من زوجته، وهذا ما كرره في زواجه الثاني، واستعاض عن الزوجة بخادمة تقوم على شؤونه الحياتية، والتي صرحت «بأنه رجل يحتاج لامرأة متسلطة تتحكم به»، ولكن ما هو مؤكد عنه أن حياته العاطفية كانت برغم صخبها مجرد ألغاز ورموز، حيث ظهرت بعض الكتب تناولت هذا الجانب، أهمها كتاب «السيد بورخيس» للكاتب أليخاندرو ?اكارو، الذي لخص به اعترافات خادمته، وكتاب «بورخيس وزوجته: القصة غير المروية» لكاتب سيرته نورمان توماس دي جيوفاني.
وها هو بورخيس يقول: «الحب هو تلك الروعة الغامضة. اسم المرأة يدينني. المرأة تسبب لي الألم في كل جسمي، وما يمكن إلا أن أعطيه للذاكرة/‏‏‏ سماعك تقولين لي أنك تحبينني/‏‏‏ وأنني أرقت حتى الفجر/‏‏‏ ممزقاً وسعيداً». لكن رسائله للكاتبة الأرجنتينية «أستيلا كانتو» تشير إلى خلاف ذلك، حيث أظهرت رسائله حبه المجنون لكانتو وإلحاحه في طلبه الزواج منها، حتى انتهت علاقتهما بقطيعة امتدت لسنوات كتب خلالها مجموعته القصصية «الألف»، وأهدى مخطوطتها لها ولم تظهرها إلا بعد وفاته. وهكذا ظل هذا التناقض يشكل للدارسين الباحثين عن النساء في أدب بورخيس متاهة ولغزاً يصعب الجزم به.
رحل بورخيس عن عمر يناهز 87 عاماً، أنجز خلالها العشرات من الكتب الأدبية المتنوعة بين الشعر والقصة والنقد، والسير الذاتية، امتازت في أغلبها بالواقعية، وفي بعضها كان يمزج الوهم بالخيال والحقائق بالأوهام، وفي شعره تحديداً، تجلى البعد الفلسفي، مقدماً تأملاته في الحياة والإنسان والكون، ورغم كل ما أنجزه، ووضعه في مصاف كبار كتاب القرن العشرين، إلا أنه يفخر بكونه قارئاً كبيراً وليس كاتباً: «ليفخر الآخرون بعدد الصفحات التي كتبوها، أما أنا فسأفتخر بعدد تلك التي قرأت».