بعد الغزو الأميركي للعراق في مارس 2003، أغرقت إدارة بوش البلد المحتل بكميات هائلة من الأموال المرصودة لجهود إعادة الإعمار وإنجاز مشاريع أخرى خلال السنة الأولى، إلى درجة استحداث وحدة جديدة للقياس غير مسبوقة. فقد لجأ المسؤولون الأميركيون إلى استخدام طائرات "هركوليز" العملاقة من طراز C-130 التي قدروا أنها تحمل 4.2 مليار دولار من الأوراق المالية من فئة مائة دولار، حيث أرسلوا في البداية طائرة محملة بالأوراق المالية متبوعة بعشرين طائرة أخرى إلى العراق حتى عام 2004 ليصل إجمالي الأموال المنقولة إلى العراق حسب المسؤولين الأميركيين إلى 12 مليار دولار، فيما يعتقد الأميركيون أنها أكبر عملية نقل للأموال عبر الجو في التاريخ. ومع انتهاء هذا الشهر تسعى البنتاجون والحكومة العراقية إلى طي دفاتر الحسابات وإغلاق البرنامج الذي نقل كل تلك الأموال في عملية جرد للمصاريف والوجهة التي أنفقت فيها الكميات الطائلة من الأموال. لكن رغم سنوات من التدقيق المالي الذي أجراه الخبراء الأميركيون، ومعهم المحاسبون من وزارة الدفاع (البنتاجون)، مازال المسؤولون عاجزين عن تعقب 6.6 مليار دولار غير موجودة في الدفاتر، وهي أموال قادرة على إدارة المنطقة التعليمية في ولاية لوس أنجلوس، أو مدارس شيكاجو الحكومية لأكثر من عام، فضلاً عن أشياء أخرى يمكن لتلك الأموال المفقودة إنجازها. وللمرة الأولى، أمام هذا العجز في تفسير فقدان الأموال، يشير المحاسبون الفدراليون إلى احتمال سرقة الأموال، ما يفسر حسب رأيهم اختفاءها بهذه الصورة، وبأن الأمر في النهاية ليس مجرد خطأ في الحسابات كما قد يتوقع البعض. وفي هذا الإطار يقول "ستيوارت باون"، المفتش العام المكلف بجهود إعادة الإعمار في العراق، والذي يترأس مكتباً مختصاً استحدثه الكونجرس، إن الأموال الضائعة قد تكون "أكبر عملية سرقة في التاريخ الوطني" بالنظر إلى حجم الأموال الكبيرة والمقدرة بحوالي 6.6 مليار دولار. ويمثل هذا اللغز مصدر إحراج كبير للبنتاجون الذي كان يسهر على نقل الأموال، فضلا عن ما تشكله من مشكلة في العلاقة بين واشنطن وبغداد، لاسيما بعد تهديد المسؤولين العراقيين باللجوء إلى المحاكم لاسترجاع الأموال مجهولة المصير والتي جاءت من مبيعات النفط العراقي وباقي الأصول العراقية الأخرى التي احتجزتها الأمم المتحدة خلال فترة الحصار وأثناء برنامج النفط مقابل الغذاء الذي كان معمولاً به أواخر عهد صدام؛ بيد أن الكونجرس الذي أنفق هو الآخر الكثير من أموال دافعي الضرائب الأميركيين والمقدرة بحوالي 61 مليار دولار لجهود إعادة الإعمار، ليس متحمساً لسماع الاتهامات من الجانب العراقي ولا يريد الحديث عن تعويض الأموال العراقية، وهو ما عبر عنه النائب "هنري واكسمان" بلهجة واضحة قائلاً: "لا ينوي الكونجرس صرف المزيد من الأموال للتعويض عن أموالهم التي لا نستطيع تفسير اختفائها، ولا نعرف إلى أين ذهبت ومن أخذها". ومع أن سرقة أموال بهذا الحجم لا يبدو أمراً مرجحاً، إلا أن العديد من المسؤولين الأميركيين يشيرون إليه كسيناريو محتمل، حيث وجهت تهم لبعض المتعاقدين الأميركيين الذين استنزفوا أموالاً طائلة تقدر بعشرات الملايين من الدولارات وزعت في شكل علاوات وأنواع أخرى من الفساد، لاسيما في الأيام الأولى التي أعقبت دخول القوات الأميركية وما رافقها من فوضى. لكن هذه الاتهامات الموجهة للمتعاقدين لم تمنع البعض من توجيه أصابع الاتهام إلى المسؤولين العراقيين أنفسهم، واحتمال ضلوعهم في عملية السرقة وإهدار الأموال. فقد كانت عملية نقل الأموال جواً التي لجأت إليها الولايات المتحدة خطوة يائسة اعتمدت عليها إدارة بوش لتسريع عملية البناء بعد الغزو، ولإقناع العراقيين بأن الخدمات ستتحسن على نحو أفضل مما كانت عليه أيام صدام حسين، فقرر البيت الأبيض ضخ الأموال فيما سمي "صندوق التنمية العراقي" الذي أنشأه بنك الاحتياط المركزي في نيويورك، هذا البنك الذي كان يحتفظ بالأموال العراقية التي ترجع إلى فترة صدام والعقوبات الاقتصادية المفروضة على نظامه. وكانت الأموال تُنقل بشاحنات كبيرة من مقر البنك المركزي إلى القاعدة الجوية في مريلاند لتنقل بعد ذلك إلى العراق، وهناك كان يتم الاحتفاظ بها في قواعد عسكرية أميركية لتوزع لاحقاً على الوزارات العراقية المختلفة وعلى المتعاقدين مع الحكومة الأميركية الذين يضطلعون بمهام إعادة الإعمار. لكن المسؤولين الأميركيين، وفي وظل ضيق الوقت والفوضى السائدة، لم يمارسوا رقابة شديدة على تلك الأموال، حيث كانت ملايين الدولارات محشوة في حقائب قماشية تنقل عبر الشاحنات، إلى مناطق مختلفة. هذا التهاون في مراقبة الأموال لاحظه المحققون في الكونجرس الذين قالوا في عام 2005 إن "المسؤولين الأميركيين لم يستخدموا أية أدوات للرقابة بعد وصول الأموال إلى العراق، وهناك دلائل على إهدار حقيقي للأموال وعمليات احتيال وسوء استخدامها في عملية الإنفاق". ورغم تأكيد المسؤولين في البنتاجون قدرتهم على معرفة مصير الأموال إذا أتيح لهم الوقت لمراجعة الوثائق وتعقب السجلات، فإن المحاولات المتكررة للعثور على تلك الوثائق باءت جميعها بالفشل، أما المسؤولون العراقيون فيجادلون من ناحيتهم في أن الحكومة الأميركية كان يفترض بها حماية الأموال العراقية بموجب اتفاق قانوني وقعت عليه الولايات المتحدة في عام 2004، لذا يحملون واشنطن مسؤولية اختفاء الأموال، وهو ما دفع "عبدالباسط تركي"، رئيس هيئة المدققين الماليين في العراق، إلى تحذير المسؤولين الأميركيين من أن حكومة بلاده ستتجه إلى المحاكم إذا لزم الأمر لاسترجاع الأموال الضائعة. بول ريتشر محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"