ليس التنقيب في ذاكرة الماضي، وطرح أسئلة الحاضر، وهو يمشي على أقدام من رماد حسب «أدونيس»، ولا سؤال الحداثة المطحون بأسئلة وجوده الأساسية عربياً، هو ما يشغل الفنانة التشكيلية الإماراتية فاطمة لوتاه، بل ما يشغلها هو كيف توصل ألوان ياسمين الروح، وقد تدربت على الحب طويلاً، من حسّية المكان، وصوفية المفردات، من «أناها» البصرية، إلى «الأنوات» الإنسانية الأخرى، بحيث تمهد الأرض لغد صالح، يصبح فيه للحياة معنى الممكن بأبسط أشكاله.
فرح ساخن يسرق منها الكلمات، وبثقة الواثق من امتلاك الحاضر وبخشوع محبة الأرض إلى السماء، ردت فاطمة لوتاه عن سؤال «الاتحاد» حول الإضافة الجديدة في معنى العالمية الفنية لها، وقد افترشت بعض لوحاتها مؤخراً أكبر الشاشات الإلكترونية في الولايات المتحدة، في ساحة «تايمز سكوير» في نيويورك، بعد أن وقع الاختيار عليها من قبل «بورصة ناسداك دبي» لعرض مختارات من أعمالها الفنية المميزة، ولمدة ثلاثة أشهر كاملة. تقول لوتاه: «تفاجأت تماماً بهذا العرض الذي أعتبره هدية من السماء، ولا شك أنني فخورة بتمثيل الإمارات العربية المتحدة سابقاً، وحاضراً، عبر رسالة أنبل الفنون الإنسانية، والتي تقوم في جوهرها على صياغة المودة الإنسانية المتبادلة، وتوسيع أفقها نحو لغة أعلى من القيود التي تعرقل مفهومنا في الانسجام الكوني، والتحليق معاً في أفق الوجود الرحب، بلغة كينونة الجمال في أسمى وأنقى أشكاله».
بين سفر لوتاه الجغرافي في مشوارها الإبداعي الطويل، بحثاً عن جوهر الامتلاء الفني، وتحصيل معارفه، وأدواته اللازمة، ضمن أضلاع المثلث الجغرافي (العراق، أميركا، وفيرونا الإيطالية)، وسردية لوحاتها البصرية المشبعة بذاكرة نابضة من جماليات المكان والتراث، لا توجد خصومة تعيق سَفرها البصري الحر على فراغ اللوحة، في انفتاحها المتسامي والذي يشبه في نموه «شجرة الحياة» في تبدلاتها المفتوحة دوماً على التجريب، والتغيير، والتنوع، ما أسهم في تمكينها من ريادة محلية، وعالمية، برؤية معاصرة فيها الابتكار والتجديد، ينتصر فيها الفن، لمعنى الجمال في توقه إلى براءته الأولى وهو ما يدفعنا لسؤال فاطمة لوتاه عن العلاقة الجدلية بين تجربة الذات، وصوتها في اللوحة، فتقول: رحلة المكان هي رحلة توسيع حدود المعرفة، بحثاً عن «الأنا في امتلائها»، حيث كانت بغداد المكان الذي فجّر عشق الفن، بيني وبين اللون والفحم، أما في الولايات المتحدة فبدأت أتعرف إلى الفن بصورة أعمق، أما في إيطاليا فكان مختبر التجربة ووضعها على المحك والانتشار. هنا بدأ التداخل، ولم يعد باستطاعتي التخلي عن لحظة واحدة، فأصبح الفن أنا، والأنا فن.
للفراغ الحاضر أبداً في لوحات لوتاه، حضور ناضج يلفت النظر، يكبر ويصغر في ترحاله بكل وقار، وأناقة، وهو يصدح من زوايا اللوحة، وخباياها، ليشغل غابات اللون الساطعة، والماكرة، في جنوحها للخروج من الحسي إلى المجرد، بحيث يأخذ أحياناً شكل الشيء في عبثية اللاشيء، وهو يمضغ ظلال أجساد بلا ملامح ناضجة الرؤية والتكوين، تتشكل على إيقاع سفر الحواس، ويقين الظن والحدس، في احتفاء جميل، بإغواء صفاء الجمال البسيط، وقد أسرف في حلم خيال الروح، واحتفائها بالشبه بين ما تود فاطمة لوتاه قوله، وبين ما تقوله لوحاتها، والتي تدفع بساطتها الظاهرة إلى مزيد من إثارة فضول الرائي، حول البرزخ الرابط بين العقل والحدس، في حواره مع الفراغ، وهل تخضع لوحتها مسبقاً لوضوح الفكرة ولمشروعها الذهني؟ وهنا تقول فاطمة حول معنى الفراغ: الفراغ هو الوجه الآخر للروح في تجلي المعنى، وانفتاح الرؤية على اتساع حدقة المعنى، وباب جديد للتأمل والتفكير، وصفاء الذهن على مروحة واسعة من المعاني الروحية، واتساع ياقاتها، في نضج تحليقها نحو الأعلى، حيث التوق إلى الاتحاد، والتبلور في سكينة الخشوع، وطمأنينة تكامل الوجود، وجلاء السلام، يتبدد ويتسع عفوياً، حسب حديقة الروح، في سعيها إلى اختزال الموجود في المحسوس على إيقاع خميرة النضج الروحي في اكتشافه لمعنى كينونة الحياة، وجوهر مراميها.
وعن واقع الفن اليوم، وهل تخلي الفن عن جمالياته أمام إغواءات سوق الفن بمفاهيمه الجديدة الملتبسة فهماً وممارسة، تقول فاطمة لوتاه: الفن مواجهة مع كل بشاعة الحروب، والدمار، ومعاني الزوال، والفناء. الفن ذاكرة ومسؤولية ثقافية، ومجتمعية، ورسالة كونية تحتاج لنضج روحي وذاتي دائمين، فالفن لم يخلق ليكون مقطوع الصلة عن محيطه الجمالي والاجتماعي، ومعزولاً عن أفقه البيئي والتراثي، ففنون اليوم بلا ذاكرة وبلا معنى عندما تكون صدى لنداءات لا تخضع لوعي الفكر، ورسالة الوجود الإنساني. وللأسف الفن اليوم ضحية أولى لمفاهيم التسليع سريعة الزوال وهي بلا قيمة وجودية.

عبير زيتون (دبي)