روعة يونس
ما يجري في العالم من أحداث عنف وتطرف وشعبوية، هو ما يوازي استحقاق هذا العالم للتسامح، المنظومة الفكرية التي تنضوي فيها جملة من القيم الإنسانية تجمع الناس على اختلاف أطيافهم حول «مشترك إنساني» يرتقي بهم، خاصة بعد أن تجرعت البشرية مئات السنين من العنصرية والطائفية والحروب. وبالذهاب إلى الفن التشكيلي عبر عدة فترات زمنية نجد أنه في الكثير من الأوقات كان كموسيقى السيمفونية، ويشكّل التسامح جوهر الخطاب التشكيلي وألوانه وإن بنسب متفاوتة بين عصر وآخر.
حاز فن البورتريه والطبيعة والبلاطات على اهتمام الرسامين منذ القرن الرابع عشر، واستمرت هذه المواضيع حتى عصر النهضة. هذا ما أوردته الأديبة الإعلامية عواطف الحفار إسماعيل في كتابها «مطالعات في الفن التشكيلي العالمي». وفي باب الأعلام والتيارات الفنية من كتابها تشير إلى «انشغال معظم الفنانين في عصر النهضة بمواضيع رسم المعارك والمواضيع الدينية» حال دون أن نجد مواضيع إنسانية الهدف! ففضائل وقيم المحبة والتسامح والسلام التي نادى بها المسيح، كان تصويرها يقتصر على لوحات المسيح نفسه (بورتريهات، العشاء الأخير، غسل أقدام تلاميذه، موعظته على الجبل...) ونجدها في لوحات كل من الفنانين (جيوتو، ومانميغنا ودافنتشي وبونتونو، ورامبرنت ومايكل أنجلو وفيلاسكس وميجيلا وكوكان) الذين اختصروا بالسيد المسيح رمز التسامح. وتعزو إسماعيل أن معظم اللوحات التي تناولت في عصر النهضة مواضيع إنسانية ـ اجتماعية كالتسامح والسلام، غير متاحة إعلامياً! كونها موجودة في متاحف عالمية تمنع تصويرها خشية التلف!
منبر من قماش
أثبت الفن التشكيلي عبر التاريخ أنه لغة العالم المشتركة، وكانت مساحات القماش الخام المنبر الذي عبّر من خلاله الفنانون عن رفضهم للحروب والعنصرية ومحاولة إيقافهما من خلال التعبير عن المآسي الإنسانية الناتجة عن العنصرية والحروب والمجاعات وغيرها.
هذا ما يراه الفنان التشكيلي خالد حجار الذي يقدّم نموذجاً رائداً من القرن السادس عشر، كان التسامح موضوع مجمل لوحاته، يقول «رسم بيتر بروغل مجموعة من اللوحات الإنسانية الاجتماعية، يمكن القول معها إنه كان أول من دعا إلى التعايش والسلام في الألفية الماضية، فلوحاته تعبر عن الفرح وروح الفكاهة لأنه حاول مواجهة الشر والعنصرية والعنف والحروب والظلم والجوع، بالفكاهة والإمتاع في الرسم» إذ لا بد من الابتسام حين ينظر المتلقي إلى لوحة لبيتر بروغل يصوّر فيها حياة الفلاحين، وكيف يتسامحون ويقدمون الخدمات لبعضهم البعض. فكان حتى في الرسم متسامحاً مرحاً لأن التسامح روح وقلب وعقل وسلوك وأسلوب حياة لا أسلوب رسم فقط.
يرى الفنان التشكيلي موفق مخول، الموجه في وزارة التعليم، أن التسامح في الفن التشكيلي ليس بالضرورة أن يكون رسم موضوع محدد. يقول موضحاً: لا يمكننا تجاهل أعمال عالمية لكبار فناني عصر النهضة (دافنتشي وفان جوخ وبروغل ومايكل أنجلو ورابرنت وكلود مونيه)، وغيرهم ممن عكسوا التسامح والسلام حتى في لوحات البورتريه، فالتعبير عن التسامح لا يكون برسم حمامة أو وردة. إن بورتريه لابتسامة رجل مسن أو ضحكة طفل أو بريق في عيني امرأة يمكن أن يعبر عن التسامح، فقضية معظم فناني العالم «الحب والسلام» وكل منهم تطرق إلى السلام من وجهة نظره، وعزز قيم التسامح وعمل على نشرها في بيئة تسودها الحروب والشعبوية والتمايز العرقي والطبقي. يسترسل مضيفاً: الناقد والراصد للوحات الفن عبر التاريخ، لا بد أن يدرك ظروف ومعطيات كل عصر ومساحة الحرية والفهم الشخصي للفنان وأسلوب معالجته الفنية، فتحتَ العنوان العريض للوحة تندرج مئات الأفكار التي تتناوله وتغطيه. وتاريخ المدارس الفنية يؤكد أن كل فنان عرض رأيه الشخصي ورؤيته الفنية حول التسامح وفق انتمائه الإنساني، ثم وفق انتمائه إلى مدرسة فنية بعينها، سواء كانت الكلاسيكية أو الواقعية أو الانطباعية أو التجريدية.
يطلق الفنان التشكيلي بسام بيضون على نجوم التشكيل في القرون الأربعة الأخيرة لقب «فدائيات- فدائيون» لأنهم قدموا نتاجاً فنياً نبيلاً في ظروف صعبة نسبياً. يقول: عاشت أوروبا قروناً يسودها الاحتلال والمعارك والعنصرية والطبقية والثورات، لذا ظهرت مدارس فنية رمزية وأخرى إيحائية تجلّت في بعض أعمال التشكيليين البارزين آنذاك، سواء كن من النساء كالفنانات (إليزابيث لوبرون، أنغويسولا، ارتميزيا جنتيلتشي، سوزان فالادون، وأنّا دوروثيا) وغيرهن ممن كن يعملن رسامات في بلاط ملك إسبانيا أو في إيطاليا أو فرنسا، فقد كن كالفدائيات لأن عمل أي منهن رسامة آنذاك، كان تحدياً للمجتمع وكسراً للتقاليد ويثير الأقاويل حولها. فكيف إن طرحت في لوحاتها أفكاراً كالدفاع عن حقوق الإنسان والعدالة والتسامح؟ يضيف بيضون: إن عدم تناقل لوحات الفنانين (كارسيا، هوغارث، ارهول، هوبر) ثم الفنانين (رينوار، شافانز، دوغا) في الشرق، لا يعني نكران ما حوَته أعمالهم من الرموز والإيحاءات المتصلة بالتسامح، خاصة مع ما يعرف عن قناعاتهم الإنسانية وأساليبهم الفنية.
نجوم القرن العشرين
قدّم الفن التشكيلي خلال القرن الماضي، بوصفه لغة بصرية عالمية للتواصل الإنساني، بأبجدية مغايرة لأبجدية الحروف، كافة الأفكار المتصلة بجوهر الحب والسلام والأمان والسعادة والحرية والعدالة والعطاء. هذا ما تراه الباحثة المستشرقة د. كلويي برجير، تقول: برزت القضايا الإنسانية في النصوص اللونية التشكيلية بالقرن العشرين، سواء في الشرق أو الغرب ولدى الفنانات والفنانين على حدّ سواء. وتميزت الأعمال بتقنيات وفنيات لم تعتمد على رسائل بصرية مغلفة برموز! بل كانت مباشِرة واضحة جريئة. وتذكر من الفنانين نجوم الفن الإنساني الذين رصدوا الحروب ومعاناة الأقليات العرقية والمذهبية.
تقول: لعل لوحة بيكاسو The Guernica التي رسمها عام 1937 تعتبر أشهر اللوحات في التاريخ، باعتبارها رمزاً مضاداً للحرب وتجسيداً للسلام.
وكذلك لوحات الفنانات (أسماء الفيومي من سوريا، وأنجي أفلاطون من مصر، وليلى العطار من العراق) التي تناولت التسامح من خلال مآسي التمييز العنصري وحركات تحرر الشعوب وويلات الحروب. وبالمثل لوحات لفنانين عرب تميزوا بالتزامهم بهذه القضايا ومطالبتهم من خلال لوحاتهم بتعزيز قيم التسامح والسلام مثل (أدهم إسماعيل، لؤي كيالي، فاتح المدرس، إيفلين عشم الله، جاذبية سري، محمود سعيد، فؤاد كامل) وغيرهم.
«ينعكس تناول القضايا المصيرية في التشكيل إيجاباً على الفنان، ويتم تصنيفه بأنه إنساني ملتزم».. هذا ما تقوله د. ماري الموصلي- أستاذة في كلية الفنون جامعة بغداد، وتضيف: لم يكن فن التشكيل يوماً في منأى عن الهم الإنساني. وكلما التزم الفنان بقضايا مجتمعه والبشرية ككل، كلما عكس التسامح بكل مفاهيمه، وحظي بالتقدير والاحترام. فقد شهدت العقود الأخيرة انتشار لوحات الفنانين (جبرا إبراهيم وبولص خفري ونزيهة سليم وفائق حسن) كونها تناولت كل ما يتصل بمشاعر وحياة الإنسان. وفي فلسطين فإن لوحات (مصطفى الحلاج وإسماعيل شموط) تمثل جوهر الإبداع والسلام في آن، كونها عكست معاناة الإنسان الفلسطيني وتطلعه إلى التحرر والسلام. ومن المرجح أن يظل «التسامح» الفكرة الأولى والهدف الأسمى لدى الفنان التشكيلي بغض النظر عن جنسه وجنسيته، إلى أن ينعم العالم بالسلام.
أعمال السنة
يقول الفنان التشكيلي أيمن الدقر- نقيب الفنانين التشكيليين في سوريا: شكّل مفهوم التسامح وضرورة ترسيخه في ثقافات الشعوب دافعاً لنا نحن التشكيليون للعمل الدؤوب في سبيل توضيح معناه السامي ونشره عربياً وعالمياً. وفي الطليعة شهدت الإمارات هذه السنة عشرات المهرجانات والفعاليات ومعارض الفنون التشكيلية التي تغذي التسامح وتعززه. واستضافت العديد من بلدان العالم مجموعة من الإبداعات الفنية خطتها أيدي فنانين إماراتيين أبرزهم (عبدالقادر الريس وعبدالرحيم سالم ونجاة مكي) وغيرهم من الإبداعات الشابة، وضع جميعهم نصب أعينهم تعميم ثقافة التسامح بأدوات فنية إبداعية أمام الجمهور. بما يعني أن أي تطرّق لوسائل الإعلام والبحوث والكتب إلى موضوع «دور الفن التشكيلي في تعزيز قيم التسامح» لن يخلو من وقفة أمام دور الحركة التشكيلية في الإمارات.
ويشير الباحث والناقد أحمد علي هلال، إلى أهمية إعلان القيادة الرشيدة في دولة الإمارات 2019 عاماً للتسامح وانعكاساته تحديداً على التشكيل.و يقول: على الرغم من كون الحركة الفنية التشكيلية في الإمارات نشطة وتشهد حراكاً لافتاً. وشجّع هذا القرار جميع الفنانين داخل وخارج الإمارات على الإنتاج والاهتمام بقيم التسامح وعكسها في أعمالهم بحيث مثّل الجميع اتجاهاً إنسانياً صرفاً عبر معادلة الفن والحياة والجمال، وتجاوز الماضي بما ينطوي عليه ذلك التجاوز من تحديث في الفكر والنظر والانطلاق من خصوصية اللون وأنظمته التشكيلية، إلى رسائل بُثت إلى العالم وتعني القيم الجديدة، من ضمنهم (عبدالقادر الريس، د.نجاة مكي، عبدالرحيم سالم، محمد الأستاد، خلود الجابري، مطر بن لاحج) وغيرهم من مئات المبدعين الإماراتيين الذين سعوا جميعاً، إلى معاندة القبح، والجهر بجوهر الإنسان، تأكيداً على أن الفن التشكيلي في الإمارات مهد التسامح وفكره وفنه، إذ نجد التسامح في عشرات الفعاليات التي أقيمت في إمارات الدولة، هو الثيمة التي قامت على حوار العالم، من أجل العودة به إلى البديهيات الأولى والفطرة الأولى، فطرة الإنسانية، وبما اشتقه أولئك الفنانون من معادلات بصرية تُقرأ في غير زمنها لتعبر إلى أزمنة جديدة، تُعنى ببناء الأرواح.