ترجمة : أحمد حميدة
نحن نعيش اليوم عصر الثّورة السّمعيّة البصريّة، وفي العالم الذي يحيط بنا لا تنفكّ الصّورة عن ملازمة الصّوت والاقتران به. فكيف لنا أن نتأمّل لوحة فنيّة في صمت، أو أن ننصت إلى موسيقى ما بأعين مغمضة؟ ينبغي أن ندع العمل الفنّي نابضاً في المكان والزّمان الباطنيّين، كيما نرى ونشعر بذلك التّوافق المتزامن.
الغريب، الذي في كنفه «تتناغى الرّوائح والأصوات والألوان»، وذلك بدلاً من أن يتمّ تقبّل تلك التّوافقات في صيغها الجاهزة من الخارج. ويؤكّد الرسّام كاندينسكي في مبحثه الشّهير، «الرّوحانيّة في الفنّ»، أنّ «سماع الألوان يكون على درجة عالية من الدقّة، حتّى أنّنا لن نجد من قد يتظاهر بالتّعبير عن الأصفر الفاقع بعزف الصّوت الجهير للبيانو، أو القرمزيّ القاتم بصوت السوبرانو (صوت حادّ ومرتفع)». و إنّه ليرى أنّ «اللّون الأزرق الفاتح يكون مشابها لصوت الفلوت، وأنّه متى كان داكنا أصبح مماثلا لصوت الكمان، ومتى كان هذا اللّون أكثر دكانة.. غدا شبيها بالجهارة المهيبة للكنترباس.
وفي درجاته الأكثر عمقا والأكثر جلالا، يغدو الأزرق شبيها بالأصوات الغليظة.. الوقورة لأورغن». وسوف تجد كلّ درجة لونيّة على الأغلب، كلمة محدّدة للتّعبير عنها، ولكن ستتبقّى دائما درجات لونيّة لا تستنفدها الكلمات، والتي لن تكون مجرّد إضافة باذخة للصّوت، وإنّما هي الصّوت ذاته في جوهره الصّميم.
أصوات وألوان
«سوبرانو بقشدة مضاعفة..»، هكذا قام قائد الأوركسترا جورج صولتي بتوصيف صوت المطربة الأمريكيّة رينيه فلامّينغ. بمثل ذلك التّعبير الاستعاري، كان هذا الموسيقيّ قد ألمح لا فحسب إلى صوتها الممتلئ والباذخ، وإنّما أيضا إلى نعومته وعمق أدائه. وبمثل ذلك التّوصيف الذّوقيّ، أمكنه التّعبير في ذات الوقت وبشكل حسيٍّ، عن تركيبة ونكهة ودفء إحساس سمعيٍّ. وإنّ اللجوء إلى مثل هذا المعجم الحسيّ الثّمين لأثير لدى المفسّرين متى تعلّق الأمر بإدراك اِنفعال صوتيّ ما. فكم من آلات الكمان اللاّذعة أو النّاعمة، وكم من المزامير المنعشة وآلات التّرومبون السّاخنة.. في فم محبّي الموسيقى أو في ما يخطّه حبر النقّاد.. هذا دون الحديث عن التّناغم الخشن والرّخامة اللّذيذة والإيقاعات العاصفة. فكلّ معايير الموسيقى تجد لها هكذا استعارات مستعارة من معجم يخصّ حاسّة الذّوق والشمّ واللّمس. على أنّ الحاسّة التي غالبا ما يتمّ استدعائها هي بلا شكّ حاسّة البصر، وبشكل خاصّ بُعدها اللّونيّ.
ففي سنة 1843 كان تيوفيل غوتييه الشّاعر المحبّ للموسيقى وصاحب الصّدريّة الحمراء الشّهيرة، قد عرف تجربة استشعار متزامن لأحاسيس مختلفة، لا شكّ في أنّ المخدر ساهم في إثارتها: «كنت أنصت إلى صوت الألوان.. أصوات خضراء وحمراء وزرقاء وصفراء. كانت تصلني على شكل أمواج مختلفة تمام الاختلاف». وفي بداية القرن الموالي، وفي الحصص الأولى لسماع ثلاثيّته السمفونيّة «مسائيّات»، يتحدّث دي بوسّي في مقدّمته «غيوم» عن «احتضار رماديّ تمّ خلطَهُ بلطف بقدر من الأبيض». وفضلا عن ذلك فإنّ عناوين أعمال كثيرة لهذا المؤلّف نلمس فيها رجع صدى للوحة ألوان الرسّام: أسماك ذهبيّة، بالأبيض والأسود. وكان من الطّبيعيّ أن توضع الصّيغة الهارمونيّة (التّناغميّة) لتوليف الأصوات تحت شعار اللّون، مع الدّرجات الإثني عشر للتّراتب اللّوني، ولكن أجراس الآلات والأصوات هي بصورة أساسيّة، التي تستدعي الألوان. اللّون.. كما المادّة ذاتها لآلات النّفخ النّحاسيّة: المصفرّ والأحمر والذّهبيّ، التي ترنّ مثلا في «الطّائر النّاريّ» لسترافينسكي.
وللإيحاء بصوت طفل لا يشوبه ارتجاف، قد نتحدّث عن صوت أبيض بمزيد من الخبرة.. قد يغدو الصّوت أخضر... فيما أنّ المخمل الباذخ لصوت الباص العميق أو الصوت المتوسّط (ميدّزو) المعطاء، قد ينعت بالبرونزيّ. غير أنّنا نلاحظ بسرعة أنّ طيف الألوان وحده لا يكفي لوصف كلّ لوحة الأصوات ما لم يغتن بالمعجم الخاصّ بالضّوء. ألا نكون بحاجة، حين نريد التحدّث عن الألوان، إلى أن نذكر قبل كلّ شيء الضّوء (...). وقد أشار جوته في بحثه عن الألوان أنّ «الألوان أفعال إضاءة»..
فيما يخبرنا روبير شومان في إحدى رسائله التي تعود إلى سنة 1833:«أكون في غاية السّعادة حين يتراقص شعاع شمسيّ فوق لوحة مفاتيح البيانو، كما لو أنّه يريد ملاعبة الصّوت، الذي لا يكون هو ذاته سوى ضياء يرنّ».
معجم الرسّام
يمنح اللّجوء إلى معجم الرسّام.. للصّوت المتفلّت والطّافي.. مرسىً، يجعله يترسّخ في واقع يكون حقيقيّا وأكثر ثباتا. وفي حركة مماثلة، حين أراد الرسّامون التحرّر من تشخيص الواقع لفائدة الشّكل والذّبذبة اللّونيّة، استعاروا بصورة طبيعيّة من الموسيقى، تعبيرات بُناها.
وقد صرّح فرانك كوبكا سنة 1913 أنّه يريد تأليف «فوغا» (موسيقى تجسّد هروبا شروديّا) ملوّنة كما فعل باخ ذلك بأسلوب موسيقيّ«وفاسّيلي كاندنسكي الذي جمع باستمرار بين الألوان والأنغام (و كان هو ذاته عازفا على البيانو والتشيلّو)، كان قد أعدّ سجلاّ ضمّ، وبإحالة مباشرة للصّيغ الموسيقيّة، تآليف بسيطة أو سمفونيّة، وارتجالات.. أمّا بول كلي الذي كان عازف كمان متمكّناً، ولكن أيضا «مسكونا» بالألوان، فقد استدعى الموسيقى في الكثير من أعماله.
ففي لوحة «أبيض مرصّع بأنغام متعدّدة» (1930)، قام كلي بحصر مربّع أبيض في شبكة من مربّعات أخرى كانت ملوّنة، مثبّتا هكذا اللّحظة المنخطفة، وكأنّه كان يريد أن يبيّن أنّ»الرّسم المتعدّد الأصوات أرفع من الموسيقى المتعدّدة الأصوات، طالما أنّ العنصر الزّمني تمّ تعويضه هنا بعنصر مكانيّ، ويبرز مفهوم التّزامن هنا بصيغة أكثر ثراء».
أزرق الموسيقى
في التمثّلات الأيقونيّة والأدبيّة، يقترن الأزرق بالحالين المتكاملين أو المتعارضين للعنصرين الطّبيعيين، الماء والهواء: الأزرق العميق والدّاكن للّيل، اللاّزورد المشعّ والهادئ لسماء مشمسة وبحر كالزّيت. في المجال الرّمزيّ، تمّ تحميل الأزرق أيضا بلوحة أحاسيس شاملة. مستهان، إن لم يكن مصدر خشية في العصور القديمة، فإنّه قد غدا بعد ذلك مشرقا باندفاعات صوفيّة في طور المسيحيّة القروسطيّة، ليستعيد ظلاله مع الرّومنطيقيّين.
يتأرجح هذا اللّون بين الأبيض والأسود.. البلوز والوردة الزّرقاء، ولكنّه يحتفظ رغم ذلك بدلالة ثابتة عمّا يكون مُلغزا (حالة غموض أو تسام)، ويحافظ على ما يشبه حالة كآبة عصيّة على الإمّحاء، ومردّ تلك الحالة إلى «تناسينا في مجال الفكر والعمل، بل وحتّى في مجال الإحساس، أبديّة أدنى الأشياء المكوّنة لهذا الوجود، في أمكنتها وفي أزمنتها المحدّدة». وفي قصائد نثريّة قصيرة لشارل بودلير، نعثر في قصيد «صلاة اعتراف فنّان» على هذه الكلمات:
ثمّة مشاعر لذيذة سائغة، لا تلغي حدّتها.
غموضها، ولا حدّ أقطع من حدّ الأبديّة.
وأيّ لذّة أعظم من أن يغوص المرء ببصره في الامتداد الرّحيب للسّماء والبحر، أن يستعذب الوحدة والصّمت، والزّرقة البكر التي لا تضاهى؟ في الأفق، يرتعش شراع صغير، يحاكي في ضآلته وعزلته، وجودِيَ العصيب.. العسير، حيث يُسمع الإيقاع الرّتيب للموج المتدافع، وكلّ تلك الأشياء التي بي تفكّر، والتي أنا بها أفكّر (لأنّه في حلم اليقظة سرعان ما تضمحلّ الأنا). أقلت تفكّر؟ إنّها لتفعل ذلك على نحو مُموسقٍ، مثير، دون حجج أو براهين، دون قياس منطقي ودون إستخلاص للنّتائج..«.أن نفكّر ونعيش الموسيقى مثل سكون مزاج أسود، فإنّ ذلك قد يذكّرنا أنّ جوته في توليده لمثلّثه للألوان، عرّف الأزرق على أنّه تنوير للأسود (بحث في الألوان). وثمّة تيّار هامّ في الموسيقى الشّعبيّة لزنوج أميركا يعرف بالبلوز، وعامّة ما تحيل هذه الموسيقى على حالة نفسيّة مكتئبة ومتجهّمة. ويغنّي الموسيقيّ البلوز لترويض تلك الحالة، أي «حالة البلوز» التي تنتهبه. وسوف يحتفي الموسيقار الكبير جورج غرشوين بهذه الموسيقى في مقطوعته الشهيرة: «رابسودي زرقاء» (والرّابسودي لحن موسيقيّ يعبّر عن المشاعر القويّة). وخلال التّدريب الأوّل على أداء هذه المقطوعة سنة 1924، حاول عازف الكلارينات روسّ غورمان إثراء العزف بأدائه «غليسّندو» (إسماع أكبر عدد ممكن من الأصوات بين نغمتين) على طريقة عازفي الجاز، فعُدّ ذلك «الغليسّندو»، وإلى غاية اليوم، زخرفة لحنيّة نموذجيّة زادت في بذاخة هذا العمل. وكان أن اُسند ذلك التصرّف إلى الصّوت الأملس والنّاعم للكلارينات، التي ألقت بالسّامع في خضمّ عالم أزرق... أمّا العلامات التي تزرقّ بفعلها الموسيقى فهي عدم وضوح جرس الصّوت، والفتور الذي يعتري بعض درجات سلّم النّغم.. فتلك هي النّغمة الزّرقاء التي استشعرها جيل الرّومنطيقيّين.
محنة أورفيوس
أين أنتِ يا ألوان الموسيقى.. أين تراك تكونين؟ فحين يسمعك البعض في عالم الظّاهر، ففي العالم الباطن يراك البعض الآخر. فمن بوسعه تحديد مكانك أو الإحاطة بك أو تسميتك؟ إنّ كلمات الرسّام لمبذولة للموسيقيّ، ولكن لتحقيق أيّ نوع من التّواؤم والتّوافق؟ فهل إنّك تقيمين داخل الرّموز الموسيقيّة؟ فمنذ حوالي ألف سنة، حين كانت درجات الصّوت لا تزال نسبيّا خفيضة، كان «غيدو البنيدكتان» يلوّن بالأصفر خطّ الدّرجة الأولى للدّو حتّى يتعرّف عليها المرتّلون في الجوقة. وفي القرن الثّامن عشر، حين كانت معايير النّغم والأمزجة متغيّرة، كان «كستال اليسوعي» يجمع بين الأزرق ودرجة الدّو على لوحة معزفه المعدّ لفاقدي السّمع. (...) إنّ تغيّر النّغمات وتبدّل درجة تناسقها، ينتج عنه بالضّرورة تغيّر في الألوان.
وقد أوضح «غريتري» في هذا الصّدد أنّه: «وفقا للتماثل الكامن في كلّ الظواهر الطّبيعيّة، تعثر الموسيقى في انسجام الأنغام، على كلّ الألوان. فالأصوات الغليظة لها على سمع الإنسان نفس تأثير الألوان الكئيبة على العين، فيما يكون للأصوات الحادّة، على العكس من ذ لك، نفس تأثير الألوان المشرقة والصّارمة». وماذا عن المعايير السّماعيّة للصّوت، وعن درجاته وجرسه؟ ليس تغيّر الإيقاع والوزن هو الذي يثير سماعا بارقا، فالموسيقيّون والعلماء، غالبا ما لا يتحدّثون عن الألوان حين يتناولون مسألة الإيقاع. فقد كانت الموسيقى القروسطيّة القائمة على تكرار أشكال إيقاعيّة متماثلة، تميّز بين «لا كولور»، المقطع الميلوديّ المتكرّر، و»التّاليا»، وهي بنية إيقاعيّة معدّة سلفا. يقينا أنّه ثمّة إيقاعات مرتبطة بأماكن محدّدة، ولكنّ الإحالة على اللّون تعود إلى أزمنة قديمة: فـ «الهابنيرا».. كوبيّة، و»البوليرو».. إسبانيّ.
***
أين تكونين أيّتها الألوان؟ فأيّ طبيب للأمراض العصبيّة يكون بمقدوره أن يخبرنا عن الأسباب التي تجعل الإحساس المشترك أو المتزامن، مختلفا من شخص إلى آخر؟ وهل أنّ للرسّام الذي يسمع موسيقى الألوان.. نفس خطاب الموسيقيِّ الذي يرهف السّمع إلى ألوان الأصوات؟ وبعيدا عن الغرب، ماذا عساه يقول عازف العود الذي يؤدّي ارتجالا على مقامات الموسيقى العربيّة، أو عازف السيتار الذي يرتجل الرّغا الهنديّة؟ وأيّ قاسم مشترك يوجد بين ذبذبات الصّوت وذبذبات الضّوء، وهما الّذان يتميّزان بطبيعة مختلفة؟ لماذا، وكما هو الشّأن بالنّسبة للألوان، يكون رنين الأوتار باردا أو ساخنا حسب درجة الإنحناءات التي تميّز الصّوت، كما هو الشّأن بالنّسبة للألوان.
هكذا تزدحم الأسئلة وتتوالى بأعداد كبيرة. لقد كان أورفيوس وهو يصعد من الجحيم، قد التفت إلى الوراء، رغم المنع القاطع لبروسبيرين، فحاول الاحتفاظ بأوريديس، ولكنّه لن يضمّ بالنّهاية سوى ظلّها المتلاشي، ليفقد بذلك، ودون رجعة، محبوبته.
وهل سيكون بوسع الموسيقيّ، الذي يعمل على جعل موسيقى الظّلمة تنحسر، ويحدس ما في تلك الموسيقى من ألوان مشرقة وأخرى معتّمة، أن يلتفت إلى الوراء، وأن يتفكّر كيما يمسك بها، من غير أن تظلّ تلك الألوان متملّصة ومراوغة؟