شبّهته الصحافة الأميركية مرةً بأنه قرين الممثل الفذّ مارلون براندو “صاحب دور العرّاب في الفيلم الذي يحمل العنوان نفسه من إخراج فرانسيس كوبولا” وبأنه ندّ هذا الممثل الأعلى موهبة وشأناً من بين الممثلين الأميركيين في القرن العشرين ومنافسه على العرش. وقد تكرر ذلك غير مرة كلما عُرض أحد أفلامه المهمة أو فاز بجائزة. غير أن أنطوني كوين “1915 إلى 2001، وقد مرّت الذكرى العاشرة لرحيله في الثالث من هذا الشهر” ذا الأصل المكسيكي والإيرلندي معاً، كان يرفض هذه المقارنة ويعتبر “أنطوني كوين” مدرسة فنية قائمة بحدّ ذاتها كما هي حال “مارلون براندو” ومدرسته الشهيرة بصرامتها في إبراز أدوات الممثل وتقنياته التي تفوق أهمية دور النص ودور المخرج ربما، إنما شريطة أنْ يبدو الأداء على نحو عفوي تماماً وغير مصنوع إلى درجة إثارة الإعجاب والإدهاش معاً، يُضاف إلى ذلك عنفوان الجسد ومقدرة الممثل على التحكم بانفعالاته وضبط الحركة وفقاً للملفوظ “النص ومتطلباته الدرامية”. كانت مدرسة براندو تقوم على اعتبار الممثل فوق النص وداخل الكادر التصويري فحسب؛ لذلك لم يتخرج في هذه المدرسة أحد رغم كثرة المقلدين الذين تسعى وراءهم هوليوود، الآن، لأسباب ذات صلة بشباك التذاكر بالدرجة الأولى وبالممثل صانعاً بدرجة أقل. على العكس من ذلك، كان أنطوني كوين ممثلاً بالفطرة؛ ولذلك أدّى أدواره في أفلامه الأساسية بعفوية كبيرة، وقد أضاف إليها من ذكائه الخاص وموهبته النادرة، فكان يترك لجسده أن يتفاعل مع الملفوظ بكامل عنفوان الجسد المصقول بالتدريب والحسّ السليم في اختيار الدور ليأتي كلٌّ منهما – أي الممثل والشخصية - وقد امتلأ بالآخر تماماً. مع ذلك، ثمة أدوار متفاوتة الأهمية في حياة كوين الفنية، لكن فيها ما هو شديد اللمعان والتأثير، بحيث من الممكن القول إن نجوميته العالمية كممثل كانت بسبب هذه الأفلام، ومع أن مدرسة “كوين” في التمثيل كانت عصية بدورها على أن يتخرج منها أحد، إلا أن نقّاد السينما قلّما وضعوه في مصاف الممثلين الأميركيين الأهم خلال القرن العشرين لأسباب توضحها سيرة الممثل وخياراته الخاصة. وإذا كان براندو قد نحى باتجاه الدراما الاجتماعية في أصعب تجلياتها وأكثرها تطلباً بالنسبة للممثل، فقد ذهب كوين باتجاه الدراما التاريخية التي تتطلب من الممثل قراءة قصة الشخصية وتاريخها وسياقها وموقفها من العالم كي يتمكن من تلبسها، بحيث تصبح الشخصية هاجساً ومدار بحث في التمثيل واختبار لآليات مختلفة في الأداء داخل الكادر، وهذه الخيارات ليست ذات بال على صعيد المقارنة بين الاثنين، ربما لأن جذرها نابت في ميول الشخص ورغباته وثقافته الشخصية، لكنها توضح فارقاً بين طريقتين في الأداء. “فيفا زاباتا”.. الطريقان إنْ اختلفتا رغم أن فيلم “فيفا زاباتا” أو “يحيا زاباتا” الذي أُطلق للعرض عام 1952 قد جمع القمتين: مارلون براندو في دور “إميلانو زاباتا” قائد ثورة الفلاحين في البرازيل “حدثت في العقد الثاني من القرن الماضي وتحمل اسم ثورة زاباتا”، أي دور البطولة المطلقة فيما أخذ أنطوني كوين دور شقيقه “أوفيمو زاباتا”، أي دور الممثل المساعد ذي الرقم اثنين، إلا أن كوين حاز عن دوره هذا جائزة الأوسكار عن أفضل دور ممثل ثان ولم يحز براندو جائزة في أوسكار ذلك العام، لكن الفيلم أطلق موهبتين كبيرتين في فن التمثيل، إذ سلكت كل منهما طريقاً مختلفة. وقد كانت طريق كوين صعبة بعد ذلك إذ قدّم العديد من الأدوار في أفلام الوستيرن التي لم تضف لرصيده شيئاً ليبرر ذلك بطريقة غير مقبولة نسبياً، وهي أنه كان يعمل فقط لتعيش عائلته برغد أما هو فيكفيه بنطالين من الجينز الأزرق، كما أشار في أحد لقاءاته الصحفية. وفي تلك الأثناء، أي الخمسينيات، كانت المدرسة الواقعية الجديدة في السينما الأوروبية، تحديداً الفرنسية والإيطالية، تشق طريقاً مختلفة في عالم الإخراج والتمثيل على المستوى العالمي خطفت نجم هوليوود على أيدي مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة ومخرجين من طراز الإيطالي فيدريكو فيلليني وسواه. كانت مدرسة فيلليني تقوم على مبدأ يمكن وصفه بالقول: إن البساطة هي أشدّ درجات التعقيد وفقاً لمبدئه القائم على “أنْ نُبدع يعني أنْ نتذكّر”، فكان فيلليني يتذكّر بوصفه كاتباً للسيناريو ومخرجاً للفيلم ويترك للممثل أن يتذكّر بدوره. وهكذا كانت فرصة كوين مع فيلليني التي أعادته إلى الواجهة بوصفه ممثلاً لامعاً ومختلفاً في فيلم “لا سترادا” أو “الطريق”، حتى لكأن كوين قد وجد في هذا الفيلم كل ما يمكن أنْ يعبّر عن الطاقة التعبيرية الكامنة في جسده وروحه على مستوى التمثيل، فقدم واحداً من أجمل الأدوار التي لعبها خلال حياته الفنية، إلى حدّ يجعل المتفرج يقتنع بالفعل بأن كوين بوصفه شخصاً عادياً قد خرج من هذه العوالم السينمائية المملوءة بالغجر وأساطيرهم والسيرك الذي يقدمه هؤلاء البؤساء وترحالهم الحزين بين الحدود، وكذلك تبدل المشاعر والأحاسيس الإنسانية وما يرافقه من انفعالات ورغبات تصل إلى درجة الفاشية أحياناً. في الخمسينيات تلك التي ودّعها بإخراجه فيلم سياسي تاريخي بعنوان “المغامر” أو “القرصان” ليكتشف أنّ من غير الممكن له أنْ يكون مخرجاً وممثلاً معاً، قدم كوين أدواراً كان عددها مبالغاً فيه بالنسبة لممثل موهوب من طرازه بلغ أحياناً الثلاثة أفلام في العام الواحد، لكنه قدم اثنين من الأدوار المهمة: الأول من بينهما هو “زوربا الإغريقي”، الذي كما لو أن “الطريق” تمرين قاس في الأداء وترويض الرغبات لتسير باتجاه ما نحو درامية أعلى توتّراً للشخصية. وكان الأخير فيلم “رغبة الحياة” عن حياة الرسام الهولندي فنسنت فان غوغ، فأدى خلاله دور الرسام الفرنسي بول غوغان صديق غوغ الأقرب إليه في سياق يقدم الأبعاد النفسية لعلاقة الرجلين معا اكثر مما أنه يقدم سيرة حرفية كرنولوجية لحياة غوغ. “زوربا الإغريقي” الرقص يمجِّد الحياة في فيلم “زوربا الإغريقي”، لم ينحرف كوين عن مواصفات الشخصية، كما تخيّلها ورسمها مؤلف رواية “زوربا اليوناني” نيكوس كازانتزاكيس كثيراً، بل كانت تلك الشخصية التي تُشبع الميول والموقف الإنساني من العالم والحياة بكل تفاصيلها، كان زوربا/ كوين ابن الحياة وجدلها الحقيقي حقاً وليس افتعالاً إلى حدّ أن اليونانيين اليوم ما زالوا يرقصون رقصة “زوربا” ذاتها التي رقصها الممثل في الفيلم، رقص بقدر ما إنه يمجد من هذه المعجزة التي اسمها الحياة، فإنها أيضاً تُعلي من شأن الإنسان بوصفه كائناً عادياً. أيضاً كان الفيلم، على صعيد فكرته، يضع فاصلاً بين الحياة، كما تبدو عليه في الأفكار المسبقة والتي قد يطالها الخطأ بنصيب منه وبين الحياة، كما هي في الواقع، وهي في الأصل فكرة كازانتزاكيس الذي تقلّب طويلاً بين الأفكار الطوباوية بحثاً عن خلاص لم يجده إلا على مستوى المتخيل الروائي عن واقعية الحياة كما هي بعبقريتها الفذة. لقد أتقن كوين هذا الدور، إلى حدّ، أن فيلم “زوربا الإغريقي” قد جعل من “زوربا اليوناني” رواية عالمية قُرأت بأغلب لغات العالم وترجمها إلى “العربية” مطلع الثمانينيات، على الأغلب، الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، هو الذي سُمِّيَ بدوره بـ “زوربا العربي”، كما في عنوان كتاب تأبيني صدر عنه بُعيد رحيله. ثم كانت الستينات أيضاً فترة ذهبية بالنسبة لأنطوني كوين، حيث ترشح عبر أدواره لعدد من جوائز الأوسكار، لكن يبرز من بينها فيلمان هما: “لورنس العرب” للمخرج ديفيد لين الذي اقتبس الفيلم عن مذكرات لورانس ذاته، ويأتي الحديث عنه لاحقاً، ثم الفيلم بالغ الأهمية “الزيارة” لأحد ألمع مخرجي القرن العشرين السويدي إنغمار بيرغمان. كان منهج بيرغمان في التعامل مع الممثل، أو بالأحرى منهجه في صناعة الدور كما يريد هو لممثله أن يؤديه في سياق الفيلم، هو أن يجعل الممثل يخترع قصة حقيقية للشخصية لجهة منشأها والقيم الإنسانية والجمالية وانتمائها الطبقي الاجتماعي وكل ما يميزها عن شخصيات الفيلم الأخرى، بحيث يتمكن الممثل من صناعة دوره وفقاً لمميزات خاصة تجعله مختلفا مختلفا عن غيره من الأدوار في الفيلم بل وفي سيرة الممثل نفسه، وبالفعل فقد كانت هذه التجربة انعطافة في تجربة كوين استفاد منها في تقديم العديد من الأدوار التي لم تكن كثيرة لكنها مؤثرة. ولعله من المفيد الإشارة هنا إلى أن هذا المنهج في التمثيل لدى بيرغمان قد بدأ مع بيرغمان المخرج المسرحي أولاً، لكنه اكتمل في سينما حملت بسبب هذا المنهج اسم: “سينما إنغمار بيرغمان”. أنطوني كوين العربي شهد عام 1962 إطلاق فيلم “لورنس العرب” ليؤسس كوين بذلك، ربما دون أن يعلم، محبة واسعة له في العالم العربي عبر هذا الفيلم الذي يعتبر أحد مآثر السينما العالمية في القرن العشرين، إذ إنه ما زال يجري تدريسه في الأكاديميات السينمائية الراقية في العالم. لقد أدى أنطوني كوين دور أحد أبرز القادة الذين قاوموا الاستعمار الإنجليزي في فترة مبكرة من نشأة الدولة الأردنية وعلى نحو غير متوقع، حيث لم يأخذ دور “لورانس”، بل دور هذا القائد المعروف بصرامته في تحديه للاستعمار الإنجليزي وحُسن علاقاته بالمقاومة في فلسطين الانتدابية وتحديداً في فترة ما يعرف بثورة عام 1936. أيضاً، المدهش هنا، أن كوين قد لعب الدور كما لو أنه يعرف مَنْ هو عودة أبو تايه والسياق الاجتماعي الذي قاد فيه ثورته وأسبابه في ذلك في الوقت الذي كان ينشط فيه العميل الإنجليزي توماس ادوارد لورانس مستكملاً دوره في إقناع العرب في الإمعان في الانفصال عن الباب العالي في سبيل وحدة الأمة العربية. رغم كل هذه الظروف السياسية والاجتماعية بالغة التعقيد، فقد ترك كوين لإحساسه الخاص أن يقدم هذا الرجل الذي يعتبر واحداً من قادة التحرر الأكثر شعبية في الأردن، وتحديداً في الجنوب منه حيث مدينتي معان التي اعتقل في سجنها لورانس ومدينة البتراء الأثرية التي كانت معقل أبو تايه بتلك الجبال الحجرية الوردية المحيطة بها، حيث ساعدت هذه البيئة بغموضها على أن يقدم كوين دور عودة أبو تايه بطريقة جعلت للرجل صورة رومانسية بهذا القَدْر أو ذاك. لكن معرفة الجمهور العربي بأنطوني كوين واتساع شهرته بين أجياله العديدة وحتى الآن ربما تعود إلى الفيلمين: “أسد الصحراء”، كما هو العنوان بنسخته الانجليزية و”الرسالة” كما بنسخته العربية ثم “عمر المختار”، وهما للمخرج الشهيد الراحل مصطفى العقّاد. فإذا كان أنطوني كوين ينزع إلى تجسيد الشخصيات التاريخية إلى حد الهوس، وفقاً للمعنى الإيجابي للكلمة، فضلاً عن أنه قد راكم خبرة إنسانية في فهم الأبعاد النفسية للشخصية العربية من خلال دور عودة أبو تايه، فقد التقى بمثقف ومخرج سينمائي عربي كان يسعى على نحو حثيث لتقديم صورة أخرى عن الإسلام على غير ما هي عليه وفقا للاستشراق الغربي. يُضاف إلى ذلك أن الفيلمين لم يخدشا في أيما شيء صورة الإسلام كما هو لدى أهله والمؤمنين به واحترام هذه الصورة بقَدْر كبير من النبل والتقدير لمشاعر الناس العاديين قد أسهما أيضافي تكريس محبة الرجل في أوساط الجمهور العربي إجمالاً، وربما ليس أدلّ على ذلك من أن الفيلمين ما زال يتم عرضهما في القنوات التلفزيونية التقليدية والفضائيات العربية حتى الآن بمناسبة ودون مناسبة وبعيداً عن مناسبة دينية ما أو توجه ديني لدى هذه القناة أو تلك. لقد قدّم كوين في الفيلمين دوري شخصيتين عنيدتين في مجابهتهما لواقعهما: حمزة بن عبد المطلب “أمير الشهداء”، أحد أصلب الشخصيات الصحابية في تحديها لصلف وبطش قادة قريش، وقائد الثورة الليبية الحديثة ضد الاستعمار الإيطالي الشيخ الشهيد عمر المختار. أيضاً، لقد قدّم كوين الشخصيتين بعفوية شديدة وبكل ما فيهما من شموخ وكبرياء إنساني ومقدرة على تحدي ذاته وعدوه في آن معا، وربما بطريقة أداء تنسجم مع مبدأ فيلليني أكثر مما هي أقرب إلى منهج بيرغمان. في أية حال، وليس في سبيل المقارنة، فإن مارلون براندو عندما كان يتألق في دوريه في فيلمي “العراب” الجزء الأول منه و”التانغو الأخير في باريس” فإن أنطوني كوين كان يتألق كذلك في “أسد الصحراء” و”عمر المختار”، إنما بسبب اختلاف اهتمام كل منهما عن الآخر فقد وجد الدرس النقدي السينمائي الأميركي والغربي عموماً، وكذلك “بروباغندا” الصحافة في دوري براندو مادة للتشريح النقدي أكثر مما في دوري أنطوني كوين، إذ بدت خيارات الممثل الأخير كما لو أنه من غير الممكن التطرق إليها لسبب تكمن بساطته في تعقيده!، وهو أنه يهدم التصور الاستشراقي عن العرب والمسلمين مع ظهور الإسلام وفي العصر الحديث، وذلك في عالم لا يمكن للفن فيه إلا أنْ تهبّ عليه رياح السياسة برمال قد تعمي البصر والبصيرة إلا ما ندر، ومن بين ما ندر كان أنطوني كوين.