علي مصبح الطنيجي .. حكاية كفاح أثمرت رضا
ضمن أحياء اتخذتها قبيلة الطنيج مقراً لأبنائها، عاشت أسرة علي مصبح الطنيجي مدير بلدية الذيد، وكان منزل والده مصبح الطنيجي في وادي الذيد الشمالي، وهناك مجموعة من الآبار التي تغذي المناطق في واحة الذيد التي تحولت إلى مدينة فيما بعد، ولا يزال بعضها موجودا حتى اليوم ومنها بئر طش الروايح وطش البرد والرفاعة، وقد ولد علي مصبح عام 1957 وذلك غير مؤرخ بشهادة عند ولادته، ولكن ماحدث أن أحد جيرانهم ولد له ابن فذهب لمستشفى الإرسالية مستشفى سارة هازمن، لاستخراج شهادة في نفس يوم الولادة من اجل استخراج جواز سفر، وبالتالي سجل الأهالي كل المواليد الذين ولدوا في ذلك اليوم بنفس التاريخ.
عمل والده مصبح رحمة الله عليه في تجارة المنتجات المحلية حيث كان يحمل الأخشاب والفحم والخضار والفواكه الموسمية إلى إمارة الشارقة، التي كانت تعج بحركة لا تتوقف منذ الفجر، حين يصل البدو وأهل الحيور لبيع منتجاتهم، ثم يشترون بضائع أخرى مختلفة لتباع في الذيد أو المناطق الأخرى، وكانت كل رحلة تستغرق ثلاثة أيام إلى الشارقة من ضمنها الذهاب والإياب، وكان الرجال يتحملون وعورة الطريق والبرد والأمطار والصيف الحار، وكان الكل يخرجون ضمن قافلة، فهم يؤمنون أن رزق كل واحد سوف يأتي به الله، ولن يمنعه وجود أخوة له يتاجرون بنفس البضاعة.
تعليم بالمذياع
في الستينيات نشطت الحركة الزراعية في الذيد كما دخلت بعض المهن الجديدة، ربما القليل من رجالها قد امتهنوا مهنة الغوص بحثا عن اللؤلؤ، وبدأ البعض بالالتحاق بالجيش الذي كون نواة له، لأن الراتب الذي يمنحه كان يوفر عليهم عناء ومشقة السفر لبيع منتجاتهم الزراعية وغيرها من المنتجات والماشية والماعز ومنتجاتها، وعندما بدأ علي مصبح يعي ما حوله عن المنطقة، علم أن والده كان يقتطع جزءا صغيرا من دخل الأسرة كي يتعلم هو عند المطوع. تعلم الطنيجي عند المطوع علي اليماني والذي كان أحد وجهاء قبيلة العويسات قد جاء به للمنطقة من اجل التعليم.
ما كان يميز التعليم عند اليماني أنه كان يخبر الطلبة أخبارا عن الدول الأخرى فقد كان يملك مذياعا وينقل المعلومات والأخبار للطلبة، وكان يجلس مع الطلبة تحت ظل شجرة ليعلمهم، وفي الأوقات الأخرى من بعد انتهاء الدروس عند المطوع، كانت قسوة المعيشة تفرض على الآباء الاستعانة بأبنائهم من أجل مساعدتهم في خدمة المزارع، والإشراف على رعي الإبل وتلبية طلبات المنزل، وفي ذات الوقت كانت كل أسرة تشجع أبناءها على الرماية من اجل الصيد، ببندقية أم سجبه، التي لم يكن أي رجل يستطيع شراء واحدة منها لأنها غالية الثمن، مقارنة بالدخل اليومي المعتمد في ذاك الزمن.
قسوة المعلم
اتفق اليماني مع مجموعة من رجال المنطقة على تعليم أبنائهم، وقد وجد علي الطنيجي ذلك المعلم شديد القسوة مع الطلبة، وفي ذات الوقت كان هناك شيخ هو راشد بن فاضل، وقد كان مثار إعجاب الأهل وأولياء الأمور لخلقه وطيبته، وقد عمل رحمة الله عليه فترة من الزمن في منطقة سويحان، وتعلم في إمارة عجمان ما بين 1935 الى 1940 وتتلمذ على يد العلامة عبدالكريم البكري، وأصبح فيما بعد إماما وفقيها ومرجعاً دينياً لكل سكان الذيد.
استمر الأطفال في الذهاب إلى اليماني حتى انتقل إلى مكان بعيد عن المنازل، وفي أحيان كثيرة كانوا يحملون معهم زوادة للطريق يتصبرون بها حتى عودتهم عند أذان الظهر، وفي عام 1963 تناقل الأهالي بشارة بناء وافتتاح مدرسة، وقد كانت من غرفتين واحدة للإدارة وأخرى للطلبة والطالبات ومستودع للكتب والمستلزمات، وتم تعيين معلمين وسميت مدرسة الذيد، وتم بناء المدرسة من قبل بعض الموسرين من إمارة الشارقة.
تشجيع التعليم
في مرحلة أخرى بادر سلطان العويس رحمة الله عليه بالتعاون مع حكومة الشارقة ومكتب الكويت، الذي كان يشرف على التعليم، لتشجيع الأهالي على تعليم أبنائهم، فتم تقديم مكافأة تعمل على حث الأهالي على عدم التسرب من الدراسة، لأن الأهالي كانوا يضطرون إلى إخراج أبنائهم من اجل السعي وراء الرزق، وكانت تلك المنحة عبارة عن أرز ودقيق وقهوة وبكميات تكفي لعام كامل، وقد سمعت المناطق الأخرى مثل مسافي والسيجي وفلج المعلا ومليحة، فبدأ الطلبة يتوافدون من اجل التسجيل في المدرسة.
بقيت المدرسة مركزية لكل المناطق المحيطة بالذيد حتى بداية الاتحاد، وقد صنعت إدارة المدرسة ومعلموها جيلا أسس وشيد وأعطى الكثير فيما بعد من أجل أن يبقى الاتحاد قويا، وكان المعلمون من البحرين ومصر وفلسطين، وقد ساهم ذلك في تقديم كوادر أصبحت عسكرية بسهولة لأن أولئك الرجال درسوا في مدرسة الذيد، ويتذكر الطنيجي أن طلاب الذيد كانوا يساهمون بشكل منتظم في إعداد الحدائق والملاعب، وكانت المدرسة عامل جذب بعد صلاة العصر، وقبل بداية الاتحاد قام بزيارة المدرسة الشيخ خالد بن محمد القاسمي حاكم الشارقة سابقا رحمة الله عليه.
إلى الشارقة
عمل الشيخ خالد على بناء صفوف إضافية، وقد تحمل الجميع صعوبة الحياة من أجل تخريج جيل متعلم، حتى أن المعلمين كانوا يسكنون في منزل ليس فيه خدمات كهربائية، وكانت الأسر تصنع الطعام وترسل اليهم، ثم تم حفر بئر لهم من اجل الماء، وأقيم لهم حوض كبير للسباحة ولو كان بنمط بدائي، كان المعلمون يذهبون كل أسبوعين إلى الشارقة من اجل شراء المواد التموينية، ويرسلون «فراش» المدرسة ليشتري لهم من الأهالي البيض والدجاج، وفي أحيان كثيرة عندما يزور أفراد من الأسرة الحاكمة الذيد، لأن لديهم مزارع مجهزة بمقر للسكن، فإنهم كانوا يكرمون المعلمين بدعوتهم إلى تلك المزارع لتناول الغداء والعشاء معهم.
عام 1969-1970 انهى الطنيجي المرحلة المتوسطة، والتحق بمدرسة العروبة الثانوية بالشارقة، في حين التحق بعض الشباب بالجيش أيضا لأنه كان بحاجة لكوادر وطنية، وكانت الرواتب من إمارة أبوظبي.
وبلغ المرحلة الثانوية مع الطنيجي أربعة فقط من زملائه في الصف، لأن الكثيرين تركوا التعليم بعد ثمان أو تسع سنوات من الدخول إلى المدرسة، وفي الشارقة وجد الطنيجي مجموعة من المعلمين، منهم عبيد حمد الخيال، وناصر خميس النقبي، ومحمد موسى جاسم رحمة الله عليه.
تم تجهيز سكن للطلبة في منطقة المريجة في الشارقة، وصرفت مكافأة تشجيعية لطلاب الذيد، وبالنسبة للوجبات فقد كانت تأتي لهم جاهزة كي لا ينشغلوا عن التعليم، ويتذكر علي الطنيجي أن طلاب المنطقة الشرقية والذيد كانوا خمسين طالبا، وكل صف في المدرسة مكون من ست شعب.
وقد وجد تطورا ملحوظاً في كل شيء في تلك المدرسة، وبعد ذلك قام علي الطنيجي بالتسجيل في معهد المعلمين في دبي.
مسار الحافلة
يتذكر علي الطنيجي أن الحافلة كانت تأتي من أم القيوين، وكان بعض زملائه يغادرها في حافلة من إمارة رأس الخيمة، ثم تحمل الحافلة طلبة عجمان ثم الشارقة لتذهب بهم إلى شارع مكتوم في دبي، وقد كان لمعهد المعلمين جزء في مدرسة ثانوية دبي، أما في نهاية الأسبوع فقد كان جميع أبناء الذيد الأربعة يذهبون إلى الذيد عن طريق لاندروفر لرجل من أعيان مدينة الذيد، أخذ على عاتقة أن يحمل الطلاب أسبوعيا من الذيد إلى الشارقة ثم العكس.
في المنزل الخالي
من الذكريات التي لا ينساها عندما كان في منطقة المريجة، أنه اكتشف مع الطلاب الثلاثة الذين كانوا معه، عندما وصلوا إلى مقر السكن أنه خال من المفروشات ولم يكن هناك سرير ولا خزانة للملابس فمشى الطلبة إلى السوق المطل على البحر واشترى كل واحد منهم مرتبة ومخدة وصندوقاَ معدنياً، استخدم فيما بعد مستودع للملابس وغيرها من المستلزمات الخاصة، وبعد عودتهم جاء فريق مرسل لخدمة الطلبة وهم يحملون الأسرة والخزانات وبقية متطلبات السكن.
من المدرسة وإليها
سنة 1976 تم تعيين علي مصبح الطنيجي مدرساً في مدرسة الذيد، واستقبله مدير المدرسة وشجعه على العمل وحثه على الصبر، وبعد عام ونصف تم فتح المنطقة التعليمية الوسطى وكان مديرها ناصر حميد الزري مدير مكتب الذيد، فقام باستدعاء علي الطنيجي وكلفه بإدارة الشؤون المالية والإدارية في المكتب التعليمي، فبقي الطنيجي في ذلك المكتب حتى افتتاح جامعة الامارات، حيث قام بأخذ إجازة دراسية لينضم للتعليم الجامعي كطالب وقد تخرج عام 1982 بامتياز.
عرض عليه أن يعمل معيدا ثم حصل على بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية لكنه اعتذر، وبعد عامين عرض عليه أن يسافر إلى جمهورية مصر العربية، ولكن عاد للاعتذار لأنه لم يرغب بالتضحية بمستقبل أبنائه الذين كانوا بحاجة لتربية وإشراف، وقد عاد الطنيجي مرة أخرى ليعمل في المنطقة التعليمية الوسطى حتى عام 1986 حتى تم الغاؤها، وأصبح الجميع يتبع للمنطقة التعليمية في الشارقة.
في الإدارة
حصل الطنيجي على منصب مدير مدرسة الصجعة وبقي في ذلك المنصب عامين، وبعد ذلك عاد مديرا لمدرسة الذيد وبعد عامين تولى منصب مدير الذيد الثانوية، وقد ترك العمل عام 2005، وأصبح فيما بعد مديرا لبلدية الذيد، وهو ممن يفتقد الماضي رغم قسوة الحياة في ذاك الزمن، لأن الماضي بالنسبة للكثيرين جميلا بسبب الجو الأسري الذي كان يسود كل منطقة، حتى كأن كل منطقة هي منزل كبير عملاق لأسرة واحدة، وكان يشغل وقته في مرحلة ما بقراءة مجلة آخر مساعة والمصور، فقد حرص المعلمون على جمع الأعداد، فكان يتركها كي يقرأها في الصيف.
من اجمل ذكريات علي مصبح السفر والترحال، ومن ذكرياته أنه بكى في مسجد قرطبة حين تذكر السلف من العرب الذين شيدوا وأسسوا حضارات عظيمة في كل مكان في العالم، كما أن من أهم ذكرياته تلك الرحلة التي قام بها في عمر السابعة عشرة مع صديق العمر سالم بن زايد إلى الهند من أجل العلاج، وهناك اكتشف إلى أي مدى يمكن للرجل المراهق أن يكون رجلا بكل معنى الكلمة في السفر، وأن يساند من معه في الرحلة وذاك أهم عنصر يمكن أن يجعل السفر ممتعا.
المصدر: الذيد