يقول رينيه ديكارت في الجزء الأوّل من كتاب «حديث الطّريقة»: «[...] إنّ المحادثة مع أهل القرون الأخرى تكاد تكون كالتّرحال، ومن المستحسن أن نعرف بعض الأمور عن أخلاق مختلف الشّعوب كي نتمكّن من الحكم بصدق أكثر على [أخلاق شعوبنا]، وحتّى لا نعتقد أنّ كلّ من خالف عاداتنا مُزْرٍ ومُضادٌّ للعقل، كما يفعل عادة من لم ير شيئا. إلاّ أنّ [المرء] عندما يفرط في التّرحال يصبح في النّهاية غريباً عن أرضه». (ترجمة وشرح وتعليق عمر الشّارني، ص55.).
غير أنّ المرء في «إشارات» أبي حيّان التّوحيدي يمكن أن يكون غريباً في أرضه وإن لم يمسك بعصا التّرحال. فهو يقول في بعض مناجياته: «هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهبّ أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار في وطنه غريباً، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محلّ قُربه». وقبل ذلك بقليل نراه يورد في نفس المناجاة وصفا للغريب يقول فيه «وفي الجملة [...] فوصفٌ يحفى دونه القلم [...] لأنّه وصف الغريب الّذي لا اسم له فيذكر ولا رسم له فيُشهر...» (الإشارات الإلهيّة، ص83). ولكن إن كان هذا الوصف يصدق على الغريب الّذي لم يغادر الدّيار فاندثر بمكوثه في وطنه اسمه ورسمه فإنّه لا يصدق على من أفرط «في التّرحال» فأصبح «في النّهاية غريباً عن أرضه». آية ذلك بعض المشاهير من الرّحّالة والمسافرين، كلّما أمعنوا في الأسفار، وتنقّلوا من دار إلى ديار، تكاثرت أسماؤهم على نحو مفرط. فالمقدسي يذكر في مقدّمة كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» ما طرأ على اسمه من كثرة مفرطة بلغت ستّة وثلاثين اسما.
يقول: «ولقد سُمِّيت بستّة وثلاثين اسماً دُعيت وخوطبت بها مثل: مقدسيّ، وفلسطينيّ، ومصريّ، ومغربيّ، وخراسانيّ، وسلميّ، ومقرئ، وفقيه، وصوفي، ووليّ، وعابد، وزاهد، وسياح، وورّاق، ومجلّد، وتاجر، ومذكّر، وإمام، ومؤذّن، وخطيب، وغريب، وعراقيّ، وبغداديّ، وشاميّ، وحنيفيّ، ومؤدب، وكرى، ومتفقّه، ومتعلّم، وفرائضيّ، وأستاذ، ودانشومند، وشيخ، ونشاسته، وراكب، ورسول، وذلك لاختلاف البلدان الّتي حللتها. وكثرة المواضع الّتي دخلتها». (ص43).
غربة الوزّان
وشبيه بحال المقدسي حسن بن محمّد الوزّان المعروف بليون الإفريقي. فقد وهبه التّغرّب والتّرحال أسماء كثيرة ذكر أمين معلوف بعضها في مطلع روايته «ليون الإفريقي» بقوله: «خُتِنْتُ أنا حسن بن محمّد الوزّان، يوحنّا – ليون دومديتشي، بيد مزيّن، وعُمّدتُ بيد أحد البابوات، وأدعى اليوم «الإفريقيّ»، ولكنّي لست من إفريقيّة، ولا من أوروبة، ولا من بلاد العرب. وأُعرف أيضا بالغرناطيّ والفاسي والزّيّاني، ولكنّي لم أصدر عن أيّ بلد، ولا عن أيّ مدينة، ولا عن أيّ قبيلة، فأنا ابن السّبيل، وطني هو القافلة، وحياتي هي أقلّ الرّحلات توقّعا [...] ولسوف تسمع في فمي العربيّة والتّركيّة والقشتاليّة والبربريّة والعبريّة واللاّتينيّة والعاميّة الإيطاليّة، لأنّ جميع اللّغات وكلّ الصّلوات ملك يدي. ولكنّي لا أنتمي إلى أيّ منها. فأنا للّه وللتّراب، وإليهما راجع في وقت قريب». (ص9).
تمثّل هبة الأسماء الكثيرة، أو «الأسماء الأخرى» الّتي التصقت باسمي «المقدسي» أو «الوزّان» صورة مخصوصة من الاسم الّذي مكث مسجّلا في مكانه ولم يُنتزع من مجاله. ذلك أنّ الاسم كاللّهجة يعقد صلة وثيقة بين الإنسان والمكان. فكما أنّ اللّهجة هي جَرس الكلام ورنينه الّذي به يُعرف أصل المتكلّم ومن أيّ أرض أتى فكذلك الاسم لا يسجّل الفرد في السّلالة عبر سلاسل النّسب فحسب، وإنّما بالحلف أو بولاء الاسم للمكان. فالاسم هو وسم المكان على طرف اللّسان، إلاّ أنّ هذا الحلف معرّض للانتقاض عندما يغادر المرء مجاله فيرحل إلى مواضع أخرى، فيخلّف وراءه اسمه، ليصبح مجرّد رسم زائل أو أثر. حينها يصبح ذاك الأثرُ دليلا مكانيّا. وهو دليل إن كان انتزاعه من مجاله مستحيلا فإنّ تمثيله وإعادة تسجيله يظلّ ممكنا. فبعض الأسماء تضحي مجرّد دلائل مكانيّة عند رحيل أصحابها. فإذا ما انتقلت إلى فضاء ثقافي جديد يُجرى عليها الكبت، كأن يُطلق على «ابن رشد» أو «ابن سينا» في العالم العربي الإسلامي اسميْ «Averroès » و«Avicenne » في العالم المسيحي اللاّتيني. في هذا المثال يُعتبر ابن رشد» أو «ابن سينا» الاسم المكبوت، أي الاسم الّذي مُنع من المرور إلى لغة أخرى والعبور إلى الثّقافة المستقبلة. فالكبت هو محو ونسخ في الآن نفسه. فقد مُحي اسم «ابن رشد» أو «ابن سينا»، وسُجّل في موضع الاسم اسمٌ آخر مختلف في لفظه وصوته هو «Averroès » أو«Avicenne ». وبعَمَلِ المحو والنّسخِ هذا، يصبح الاسمُ الجديدُ الاسمَ الكابت للاسم الأوّل. فهو يُمثّله بنسخه ومحوه وتسجيله باسم آخر غريب في أرض أخرى.
السرّ العظيم
وليس مثال المقدسي والوزّان أو ابن رشد» أو «ابن سينا» بحالات استثنائيّة. فتمثيل الاسم الأوّل باسم آخر عند الإقامة في حمى أو مجال آخر ظاهرة شائعة في ثقافات أخرى. ففي رواية «يرقص مع الذّئاب» لمايكل بلاك Michael Blake، لم تقبل بعض قبائل هنود السيو Sioux، بإدماج الملازم جون دنبار John Dunbar في حماها القبليّ، إلاّ حين أعادت تسميته باسم «يرقص مع الذّئاب»، « Danse avec les Loups » استلهم من حدث، لمّا رأته يلاعب أحد الذّئاب. ومعلوم أنّ الأسماء الّتي يطلقها هنود «السيو» على أفراد القبيلة مرجعها أحداث دالّة على كينونة الفرد وطبعه. وهذه القاعدة في التّسمية تؤكّد أنّ الجسد يمرّ ويعبر الحمى، ولكنّ الاسم الّذي يحمل ذاكرة المكان الأوّل يُكبت ويُمنع من العبور، فلا يُعاد تسجيله في المجال الجديد إلاّ باسم جديد يهبه له سادة المكان.
بيد أنّ الغريب ليس فحسب هو الّذي تغيّر اسمه الأوّل وعوّض باسم آخر يهبه له سادة المكان الجديد الّذي حلّ فيه، وإنّما هو الّذي يُحظر عليه أن يعرف أسماء من حلّ في أرضهم وأقام بينهم.
ففي كتاب «المداران الحزينان» ذكر عالم الإتنوغرافيا الشّهير كلود لفي ستراوس Claude Levi-Strauss، من جملة ما ذكر، لمّا تحدّث عن هنود نمبكوارة Nambikwara بمنطقة الأمازونيا، أنّ أفراد هذه القبيلة لا يستعملون في مخاطباتهم اسم العلم. ويفسّر هذا الامتناع على النّحو التّالي: «قبل كلّ شيء، يحظر عندهم (هنود نمبكوارة) استعمال اسم العلم. وللتّعرّف إلى الأشخاص، ينبغي أن نتّبع صنيع رجال الخطّ (يعني الخطّ التّلغرافيّ)، أي أن نتّفق مع الأهالي على أسماء مستعارة بواسطتها نعيّنهم، سواء أكانت أسماء برتغاليّة كخوليو Julio، وخوزي-ماريا José-Maria، ولويثا Luiza أم كُنى كالأرنب Lebre – Lièvre والسّكّر Assucar - Sucre. وإنّي لأعرف واحدا قد عمّده رندن Rondon، أو أحد أصحابه، باسم كافنياك Cavaignac بسبب عثنونه، وهو شيء نادر عند الهنود الّذين هم في الغالب جُرْد. وذات يوم وأنا ألاعب جمعا من الصّبيان، ضربت إحدى الصّبيّات صاحبتها، فأقبلت نحوي محتمية بي، وبكلّ سرّيّة، بدأت تهمس بشيء مّا في أذني لم أفهمه ممّا اضطرّني إلى أن أجعلها تعيده عليّ مرارا وتكرارا إلى حدّ أنّ خصيمتها اكتشفت مكيدتها فأقبلت بدورها وهي بادية الغضب لتودعني ما بدا كأنّه سرّ عظيم. وبعد أخذ وردّ وأسئلة بان لي بما لا يدع مجالا للشّكّ تأويل ما جرى. لقد أقبلت الصّبيّة الأولى بدافع الانتقام لتفشي اسم عدوّتها. ولمّا وقفت عدوّتها على جليّة الأمر أطلعتني على اسم الصّبيّة الأخرى على سبيل الاقتصاص.
ومنذ ذلك الحين، ورغم أنّي كنت متردّدا بعض التّردّد، أمسى من أيسر الأمور إثارة الصّبية بعضهم على بعض، ومعرفة أسمائهم جميعا. ومن ثمّة كانوا، وقد نشأ على ذلك النّحو تواطؤ صغير، يسلّمونني دون كبير عناء أسماء الرّاشدين. ولمّا تفطّن هؤلاء لتآمرنا وبّخوا الصّبية، فنضب معين أخباري». (ص326 والتعريب تعريبنا).
لا يفصح هذا النّصّ الجميل عن الأسباب الدّاعية إلى حظر ذكر اسم العلم عند هنود نمبكوارة، ولكن يفهم من النّصّ أنّ حضور الغريب ذاته شرط لوجود الحظر. فالغريب هو الّذي يجعل من الاسم سرّا يُمْنَعُ فضحه أو إفشاؤه. فليس المحظور عند أفراد القبيلة استعمالَ اسم العلم، وإنّما أن يطّلع عليه الغير. ولمّا كانت السّبيلُ إلى معرفة أسماء العلم هو سماعُها عند النّطق بها، أضحى الحظْر دائرا على منع تسرّبه إلى أذن الآخر، وجعل معرفته حكرا فقط على الأهالي وامتيازا لا يشاركهم فيه الغرباء. فاسم العلم وإن كان لا يُنطق به علنا عند التّداول والتّعيين والمناداة وغير ذلك من أغراض التّواصل يمكن أن ينوبه اسم آخر، اسم آخر حركيّ كما نقول اليوم، لا يستعمل إلاّ أمام الغريب حتّى يعرفه به. فالاسم الثّاني لا يحيل على اسم العلم، بل هو يغطّيه ويكنّيه، ويجعل بلوغه ممتنعا إلاّ بإفشاء السّرّ. ومعنى ذلك أنّ اسم العلم الحقّ، الّذي يُوهب للوليد بعد ولادته، غير قابل للتّبادل مهما تكن أنواع المبادلات. فالاسم الآخر، أو الكنية، أو الاسم المستعار، لا يُصنع في قلب القبيلة أو العائلة، ولا بمباركة الأهالي، إنّما يُصنع مع الغريب وبالغريب وللغريب.
كلّ ذلك يؤكّد أنّ الأسماء في الفكر السّحريّ أو البدائيّ ليست رموزا اعتباطيّة، لأنّها جزء حيويّ من أصحابها يتعلّق بحياتهم ومماتهم. وعلى ذلك النّحو كان سكّان أستراليا الأصليّون يتلقّون أسماء سرّيّة ينبغي أن لا يسمع بها أعضاء القبيلة المجاورة. ونجد عند قدامى المصريّين عادة مماثلة جارية بينهم، يتلقّى كلّ شخص اسمين، الاسم الصّغير يعرفه الجميع، والاسم الحقيقيّ أو الاسم الكبير هو الّذي يتعين إخفاؤه. يخفي البدائيّ اسمه، حتّى لا تجرى على هذا الاسم أعمال سحريّة من شأنها أن تجلب الموت، والجنون، أو الرّقّ على صاحبه.
كثرة الأسماء
وإذا كان إخفاء الاسم الأوّل على الغريب ومواراته باسم ثان مستعار طريقة في الاتّقاء من شرّه، فإنّنا نتساءل لماذا كثرت أسماء الله الحسنى؟ بأيّ اسم نناديه إذا صلّينا؟ وبأيّ أسمائه نذكره إذا ابتهلنا؟ أتكون كثرة أسمائه دليلا على عسر بلوغه وبعده عنّا؟ أم آية على قربه منّا؟ ألا تجعلنا مناجاته في موضع الغريب، أو البعيد، الّتي لا تُعينُه الأسماء وإن كثرت على بلوغه، لأنّنا لا نعرف الاسم الّذي يُقرّبنا منه، كما جاء في هذا الابتهال:
«هل تأتي إذا دعاك أحد باسم غير اسمك
بكيت لأنّه منذ سنوات لم يلجأ إلى أحضاني
لكنّني عرفت سرّا في يوم مّا:
لعلّ اسم الرّبّ الّذي نستخدمه
ليس حقّا اسمه:
لعلّه ليس سوى اسم مستعار.
«رابعة العدويّة»، (إليف شافاق، بنات حوّاء الثّلاث، ص5).
ولكن، إن كان الاسم الواحد كافيا لتورية الاسم وإخفائه على الغريب، فإنّ كثرة الأسماء تجعل المسمّى في مرتبة المجهول الّذي لا نعرف بأيّ اسم نناديه، لأنّه بحساب الاحتمالات تصبح إمكانات وقوع التّسمية على صاحبها الأصليّ ضعيفة. فكثرة الأسماء تجعل المسمّى غريباً أمام نفسه وأمام الآخرين. بيد أنّه ماذا يحصل إذا كثرت المسمّيات وتكاثرت معها الأسماء؟
هذه الحالة النّادرة تصادفنا في رواية «بهلوانيات كونفوثيوس الهوائيّة»، للرّوائي الصّيني الفرنسي داي سيجي Dai Sijie، الّذي استند في تأليفها إلى نصّ مخطوط مجلّد كتبه طومي بيراس Tomé Pires، وهو أوّل سفير أرسله ملك البرتغال إلى الصّين في بداية القرن السّادس عشر. كتبه بين سنتي 1513 و1515م. وقد وقع مؤلّف هذه الرّواية، وهو يقرأ هذا النّص، على هذه الجملة الّتي تتحدّث عن الإمبراطور زانغ دي Zheng De، جاء فيها: «وإنّي لأوكّد لكم [صحّة] الخرافة الّتي تروي أنّ للإمبراطور أصناء أربعة sosies quatre، وإنّي لأقسم لكم أن لا أحد يستطيع أن يفرّق بينها وبين الإمبراطور». وقد استغلّ المؤلّف هذه الملاحظة ليعيد بناء شخصيّة هذا الإمبراطور الصّيني على نحو لم يخل من عبث ولهو، بلغ فيه التّماثل بين الإمبراطور و«أَصْنَائِهِ» الأربعة حدّا مفرطا يصعب تصديقه. ومن آيات هذا الإفراط أنّ وباء الجدريّ الّذي كان يجتاح الصّين كلّ سنة، قد خلّف في الوجوه الإمبراطوريّة الخمسة العدد نفسه من الثّقوب الصّغيرة، بلغت ثمانية استقرّت جميعا في نفس الموضع من مسامّ الأنف. وهي، رغم هذه المبالغة المفرطة، تشهد على هذا التّناظر المثاليّ الّذي لم يتبيّن وجوهَ الاختلاف اللّطيفة فيه أحد سوى بعض الخصيان من الخدم المقرّبين. فقد لاحظوا بعد طول مخالطة أنّ «الإمبراطور الخامس» و«أَصْنَائِهِ» الأربعة لا يختلفون في شيء إلاّ في شرابهم. ولمّا كان التّمييز بينهم مستحيلا أطلقوا على كلّ واحد منهم اسم شرابه المفضّل مضافا إلى «الخامس»، لقب الإمبراطور. «فأطلقوا عليهم أسماء: ماء الخامس، شاي الخامس، خمر الخامس، لبن الخامس، عسل الخامس.». فالتّسمية ذاتها محكومة بمنطق التّناظر تكرّر فيها ذكر «الخامس» خمس مرّات، وافقت أربعة نظائر امتلكت الخواصّ الطّبيعيّة نفسها من النّظير الخامس: وهو الإمبراطور نفسه. ذلك أنّه حين تزول وجوه الاختلافات يصبح الأصل بدوره نظيرا. يؤكّد ذلك ما جاء في فاتحة هذه الرّواية لمّا «سأل الإمبراطور [الصّيني] ذات يومٍ كاهنه فقال: اليوم الّذي يتمكّن فيه أَصْنَائِي mes sosies من محاكاة أفكاري، أفلا أنعم فيه بالسّكينة؟ فأجابه كاهنه: كلاّ يا مولاي، ففي ذلك اليوم تصبح صِنْوًا لصِنْوَانِك un sosie de vos sosies.». ويوم أصبح الإمبراطور صنوا من «أَصْنَائِهِ» تحقّقت أمنيته القديمة. فقد طلبت منه أمّه، لمّا كان طفلا، أن يتمنّى على السّماء أمنية حتّى يتعافى من مرضه. فقال: «سأصنع دمى كثيرة تكون على صورتي. دمى بأجسام بشريّة. أَصْنَائِي».
فما الّذي تضمّنته هذه الأمنية؟ وما الّذي تحقّق فعلا بإنجازها؟
من النّاحية السّياسيّة، كان الإمبراطور يدمّر، بتحقيق هذه الأمنية، أساس مُلكه الرّمزي. فعندما يتكاثر الجسد الملكيّ في عدد من النّظائر تزداد حاجته إلى ألقاب ملكيّة جديدة. فقد سجّلت حوليات عائلة مينغ الملكيّة Les Annales des Ming أنّ الإمبراطور زانج دي Zheng De قد منح نفسه عدّة ألقاب مدنيّة وعسكريّة. من ذلك أنّه سمّى نفسه «جنرال جيش الأبطال»، وكلّف هذا الجنرال، أي كلّف نفسه، بأن يسير مع جيشه ويتفقّد الحدود في الشّمال. وأثار هذا القرار جنون جنرالات الجيش الّذين كانوا في حيرة من أمرهم: هل ينبغي الرّكوع أمام الإمبراطور أم المكوث واقفين لاستقبال زميلهم الجديد؟ فعاقبة هذا السّلوك أو ذاك (أي الوقوف لاستقبال الإمبراطور أو السّجود للجنرال) هي قطع الرّؤوس. في السّنة الموالية أنعم الإمبراطور على نفسه بلقب «دوق زانج جيو» duc Zheng Guo، ووهب لصاحب هذا اللّقب خمسة آلاف مكيال من الحبوب. بعد بضعة أشهر سمّى نفسه «المعلّم الكبير» Grand Précepteur وهو لقب يمثّل في إمبراطوريّة الصّين القديمة قمّة المراتب العليا المخصّصة للنّخبة المثقّفة، ويجعل من حامله أقرب أفراد الحاشية إلى الإمبراطور وأخطرها شأنا. وأغرب ما في هذا الأمر أنّ هذه الألقاب المتتالية الّتي وهبها زانج دي لنفسه لا تُمنح في العادة للإمبراطور، وإنّما الإمبراطور هو الّذي يهبها، ويُنعم بها على بعض حاشيته. ويؤكّد هذا كلّه أنّها ألقاب منحها «الإمبراطور الخامس» لأصنائه لا لنفسه.لا تنحصر أمنية «الإمبراطور الخامس» في أن تكون له دمى بشريّة على صورته فحسب، وإنّما أن يصبح بتلك الدّمى قادرا على الاختفاء وإن كان ماثلا للعيان، وغير مرئيّ وإن كانت العيون ترمقه وتراه. فعندما تتكاثر الأصناء في شكل نظائر متماثلة فلا يفرّق بينها شيء، تصبح حينئذ معرفة الأصل، وتمييزه عن أصنائه، عملا يكاد يكون مستحيلا. ذلك أنّ الأصل وإن كان موجودا قد صار غير مرئيّ. وحتّى تمييز كلّ صنو من أصناء «الإمبراطور الخامس» بالشّراب المفضّل إنّما هو إمعان في خداع العيون الّتي كلّما بحثت عن الفروق في «الأشباه والنّظائر» كانت في حقيقة الأمر تبحث عن أصل قد ضاع يعسر العثور عليه.
أدب الغرباء
ولكن إن كان الغريب هو ذاك الّذي لا نريده أن يعرف اسمنا، أو ذاك الّذي ضاع اسمه بين أسمائه أو مسمّياته الكثيرة، أفلا يكون الغريب كذلك هو الّذي لا نعرف اسمه؟ ولأنّنا لا نعرف اسمه فهو غريب. وهو حتّى تزول غربته يكتب اسمه على الحيطان ليدوم بعض الدّوام. هذا المعنى من الغربة المتّصلة بغياب الاسم أو حضوره، نجده تقريبا في كتاب «أدب الغرباء» لأبي الفرج الأصبهانيّ. وقد عرّف المؤلّف موضوعه بالعبارات التّالية: «وقد جمعت في هذا الكتاب ما وقع إليَّ وعرفته، وسمعت به وشاهدته، من أخبار من قال شعرا في غُربة، ونطق عمّا به من كربة، وأعلن الشّكوى بوجده إلى كلّ متشرّد عن أوطانه، ونازح الدّار عن إخوانه، فكتب بما لَقِيَ على الجدران، وباح بسرّه في كلّ حانةٍ وبستان، إذ كان ذلك قد صار عادةَ الغرباء في كلّ بلد ومقصد، وعلامة بينهم في كلّ محضر ومشهد، فأرى الحال تدعو إلى مشاكلتهم، وحيف الزّمان يقود إلى التّحلّي بسَمْتِهم». (أبو الفرج الأصفهاني، أدب الغرباء، ص21-22).
يجمع هذا الكتاب كلّ النّصوص الّتي خلّفها الغرباء، وهي نصوص تصوّر غربة الأدباء. فبين أدب الغرباء وغربة الأدباء مسافة عكست سلسلة التّحويلات الّتي أجريت على النّصوص المكتوبة على الحيطان قبل أن تصنّف في كتاب وتصبح أدبا. فنصّ الغريب ليس نصّا في الحقيقة وإن كان مثبّتا بالكتابة. إنّه نصّ عار، لأنّه كتب خارج مؤسّسة الأدب. فما هو النّصّ العاري؟
أكثر النّصوص في كتاب «أدب الغرباء» عارية مقطوعة السّند والنّسب. فمعظمها بلا مؤلّف. وإن وجد الاسم ولم تمحه الأيّام فإنّه لا يحيل في الغالب على مسمّى معروف. وهي نصوص لا تُقرأ بيسر لأنّها منتثرة مشتّتة لا يجمع شملها كتاب ما دامت قد كتبت على كتاب الطّبيعة. فحامل هذه النّصوص ليس الورق والأطراس، وإنّما الصّخور والحجارة والحيطان والأبواب والأشجار والأخشاب. وهي مبثوثة في الأماكن العامرة كالمساجد والمدن والأديرة وتكثر في الخرابات والأبنية الدّارسة وأوحش الأمكنة وأشدّها انقطاعا عن العمران ممّا يجعل قراءتها أمرا موكولا إلى الصّدفة حينما يمرّ بها غريب من الغرباء أو عابر سبيل أو أحد المسافرين. فنصّ الغريب غريب لأنّه نصّ فاقد لكلّ أسباب الوجود التّقنيّة الّتي تضمن بقاءه في الذّاكرة. فهو نصّ متوحّش يؤسّس بعريه الفاضح غربة الأدب. فماذا بإمكان النّصّ العاري أن ينقله سوى فراغ العلامات، وآثارٍ لا تحيل على شيء إلاّ على مرور عابر، ولا تؤسّس لشيء إلاّ لرحيلٍ مستمرٍّ، وهجرةٍ للمكان هي في حدّ ذاتها نفيٌ للمكان، مادامت هويّة الغريب هي هذا النّفي لكلّ ما يؤسّس الهويّة، ويثبّت الاسم على مسمّاه.