شاعر له ماهيّة إبداعية منفصلة عما قبله، وعمّا بعده، وبالتأكيد عمّا حوله من شعراء فلسطينيين وعرب. فلقد حرص الشاعر عز الدين المناصرة على أن يكون صوته الشعري دائماً فريداً، استثنائياً يتصف بالرجحان الملحمي والثقل التاريخي الحضاري والرشاقة الأسلوبية المنصهرة برؤياه المفارقة للحداثة الشعرية العربية كما عرفناها.
شاعر الجذور الحضارية للشعب الفلسطيني عز الدين المناصرة ومسجّل القصائد «الكنعانية المستجدة» ذات الأبعاد الدالة بقوة على عراقة هذا الشعب، ودائماً بتسديدات عميقة ذات مذاق خاص. ففي الوقت الذي كان فيه بعض الشعراء الفلسطينيين المركزيين في الشعر الفلسطيني الحديث «في النصف الثاني من الستينيات» يكتبون «شعرية المقاومة الملتبسة»: «سأقاوم»، «سجّل أنا عربي»، «باقون»... إلخ، كان هو يكتب قصيدته المغايرة للخطابة الشعارية السائدة، ويتجه إلى استنطاق الأمكنة والأزمنة والأسطورة وألواح التاريخ وجلال الرموز القديمة لفلسطين والمنطقة العربية المحيطة بها وما يربطها بالوطن العربي الشاسع، براً وبحراً. ولا غرو، فهو ولد كما يقول بين بحرين عريقين: «البحر الميت» و«البحر الأبيض المتوسط».

هكذا إذاً يركّز الشاعر عز الدين المناصرة على مناخات الكنعنة وعلى الطعم الشعري الخصوصي الذي يفيض منها منذ منتصف الستينيات من القرن الفائت وحتى اليوم، كيف لا وقد قرأ شاعرنا التاريخ الفلسطيني قراءة شعرية استبطانية متشعبة وقادته فكرة الكنعنة، كما يقول إلى «الأسلوب الملحمي» في تفاعل جدلية «الزمكان» في شعره، والذي دفعه إلى خلق إيهام قارٍ ودال من خلال مزجه لغة رعوية بمشكلات وقضايا عصرية مباشرة ومصيرية. لكن عمله الشعري ليس ملحمة بالمعنى التقليدي كما يفيد، بل هو عمل شعري ملحمي يحمل روح نضالات الشعب الفلسطيني ومآسيه.وفي نوع من ردّ الاعتبار لنفسه كونه رائد شعرية مغايرة في قلب المشهد الشعري الفلسطيني والعربي، يدعو الشاعر عز الدين المناصرة إلى مراجعة نقدية تحلل أسباب الشهرة وأسباب تعالق الشعر والسياسة، ويتساءل ماذا يبقى من الشعر بعد حذف السياسة؟. من جهة أخرى، هو وإن كان يعترف بأن محمود درويش شاعر كبير، إلا أن الذي لا يعترف له فيه هو أنه الشاعر الأوحد للشعب الفلسطيني منذ الثمانينيات. وقد قال ذلك ومحمود على قيد الحياة.وفي ما يشبه الاحتجاج الموضوعي منه على «الدراويش» كما يسميهم، وغير «الدراويش» ممن تفوتهم أمور ثقافية ونقدية وشعرية كثيرة، يقول عز الدين المناصرة غامزاً من قناة محمود درويش نفسه ومن هؤلاء جميعاً: الشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى بيت شعر مسروق من الشاعر الفيلسوف نيتشه: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».هنا حوار بانورامي مع الشاعر عز الدين المناصرة بعد طول غياب له عن المنابر الإعلامية الثقافية:

خاصيّة قديمة
* عز الدين المناصرة... لنتكلم عن آخر محطاتك الشعرية بعد طول هذه الرحلة العميقة والمجرّبة مع الشعر. بكلمات أخرى. أين أنت شعرياً اليوم؟ وعلى أي صورة تصفّت القصيدة لديك؟.
** صدر ديواني الحادي عشر بعنوان: «البنات البنات البنات» في العام 2010، وانطلقت عبره في اتجاه تعميق فهم شعري لعذابات المرأة الفلسطينية في الوطن والمنفى، وعذابات المرأة اللبنانية أيضاً من خلال فكرة «المقاومة الشعرية»، بعيداً عن الشعارات الوطنية التقريرية. وقد انتبهت منذ بداياتي الشعرية الفعلية سنة 1964 إلى فكرة الربط بين الحداثة الشعرية، والمقاومة الشعرية، بأسلوب «الغنائية الملحمية الدرامية». انتبهت إلى الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وتعمقت أيضاً في مسألة تجريب التقريب بين اللغة الفصيحة واللهجيّة، وهي ما يسميه بعض النقاد «تفصيح العاميّات» في شعري، وهي خاصيّة قديمة عندي ما زلت أعشقها. كما واصلت البحث في محاولة «استعادة الموشح»، كما في قصيدتي «موشح الانصراف». وحاولت الاقتراب من القصيدة - التوقيعة أكثر. واقتربت منذ سنوات إلى «فن البيرفورمانس».

* يجمع عدد من النقاد أنك المؤسس الفعلي لقصيدة «التوقيعة» منذ العام 1954.. وكذلك أنت رائد «قصيدة الهوامش»، وهي قصيدة بصرية بدأت بكتابتها في النصف الثاني من الستينيات.. هل نملك أن تحدثنا عن هاتين التجربتين؟
** مصادر «قصيدة التوقيعة» بالنسبة إليّ هي: «التوقيعات العباسية النثرية»، «الإبيجرام اليوناني»، «الهايكو الياباني»، «المقطّعات الشعرية الجاهلية»، «قصيدة البيت الواحد»، «الشذرة» عند الفيلسوف الشاعر نيتشه، ولاحقاً عند الشاعر الفرنسي «غيلفيك». كتبت في العام 1964 قصيدة «هايكو– تانكا»، وكتبت في العام نفسه قصيدة «توقيعات».. ولم ينتبه النقاد إلى محاولاتي العفوية آنذاك، لكنهم اعترفوا بريادتي لنوعين شعريين هما: قصيدة التوقيعة، وقصيدة الهوامش، والأخيرة هي قصيدة بصرية كتبتها عام 1969، وربما قبل ذلك. وقد جاءت فكرة قصيدة الهوامش، التي استوحيتها من «هوامش البحث العلمي»، بوضع شروح شعرية في هوامش القصيدة، شرط أن تكون مكمّلة لمتن النص الشعري. ومع صعود قصيدة النثر في دفقتها الثانية في التسعينيات من القرن الفائت، بدأ الاهتمام النقدي والبحثي، خصوصاً في الألفية الجديدة، بمنجزي الشعري، فقد كُتب ما يقرب من 42 كتاباً نقدياً، أغلبها رسائل ماجستير وأطروحات دكتوراه في الجامعات العربية والأجنبية. أما قبل سنة 2000، فقد صدر كتابان فقط، هما: «امرؤ القيس الكنعاني»، جمعه وأعده الناقد عبدالله رضوان و»البنية الإيقاعية في شعر المناصرة» لثلاثة من الباحثين المغاربة. كان مشروعي الشعري في منتصف الستينيات يتمركز حول «قصيدة التوقيعة - الهايكو العربي»، وحرصت على التنظيم التالي: مصطلح الهايكو العربي، أقل أهمية من مصطلح التوقيعة، لأنه مرتبط بحرفية الهايكو الياباني بتقليده، لهذا تولد قصيدة هايكو عربية تابعة وتقليدية، بسبب الالتزام بحرفية السطور الثلاثة، والالتزام بموضوع واحد هو الطبيعة.والحقيقة الأخرى هي أنني شخصياً لم ألتزم بضرورة الوزن، بل تركت الحرية الكاملة للتوقيعة أن يكتبها الشعراء موزونة حرة أو قصيدة نثر، كما فعلت في نصوصي. كما فكرت بأن مصطلح «التوقيعة» عالمي وعربي معاً، لأنه عندي، استفاد من المصادر التي ذكرتها كلها. والدليل أن المصدر العربي الذي أخذت الاسم منه، هو «التوقيعات العباسية»، وهي «نثرية»، وليست «شعرية!». ونلفت الانتباه الى أن بعض الشعراء الأنصاف كتبوا شعر «تفعيلة مكسور»، وسمّوه «قصيدة نثر!». وهناك من كتب قصيدة قصيرة، وعندما تدفق المديح النقدي لتوقيعاتي، ادّعوا أنهم كتبوا توقيعات مبكرة. والمضحك المبكي أن قصيدتي النثرية الطويلة التي نشرها أدونيس في العدد الثالث من مجلته «مواقف» عام 1969، علّق أكاديمي دكتور عليها بأنها «قصيدة تفعيلة حرة»، حيث لم يميّز بين الشعر الحر التفعيلي وقصيدة النثر!!. أقصد قصيدتي النثرية «مذكرات البحر الميت» - 1969.

الجذر الكنعاني
* ثمة نكهة خاصة أو طعم خاص يفوح من شعريتك، فيميزها عن شعريات المركزيين الآخرين من شعراء فلسطين، ولعل هذا الطعم يتجلّى أكثر ما يتجلّى في التفاعل مع تاريخ فلسطين الحضاري القديم، وحتى مشهدية «كنعان، والكنعنة» استلهاماً وأسطرةً، باتجاه «القصيدة الحضارية».. ماذا تقول؟
** عندما كان بعض الشعراء الفلسطينيين الأساسيين في الشعر الفلسطيني الحديث في النصف الثاني من الستينيات يكتبون «شعرية المقاومة الملتبسة»: «سأقاوم»، «سجّل أنا عربي»، «باقون»... الخ، كنت آنذاك أبحث عن الجذور الحضارية للشعب الفلسطيني، وأكتب «القصائد الكنعانية». أي «القصيدة الحضارية.. شعرية الجذور»، أي المعنى العميق لمقاومة الشعب الفلسطيني. والمعروف أنني من مواليد «الخليل» في فلسطين عام 1946، حيث لم تكن «دولة إسرائيل» على خارطة العالم. كنت طفلاً كثير الأسئلة حول الأشياء من حولي في المدن المقدسة الثلاث (الخليل- القدس- بيت لحم) أو (خِلّ إيل- أور سالم- بيت لخمو)، هذه المدن هي مرابع طفولتي. كنت عندما أسأل الكبار، كانت كلمة «كنعان ومشتقاتها»، تتردّد على مسمعي وكأن الآثار الكنعانية تتكلم يومياً لتعلق عن نفسها أنها باقية الى أبد الآبدين. وعندما كبرت في المنافي، قرأت مصادفة بعض كتب مفكر لبناني صار رمزاً لحزب سياسي كبير. اسم هذا المفكر أنطون سعادة، واسم الحزب: «الحزب السوري القومي الاجتماعي» كما هو متداول اليوم، فازددت قناعة أنني أسير في الطريق الصحيح، بل سميت ابني الثاني «كنعان»، وهو من مواليد مدينة تلمسان الجزائرية عام 1988.أما ابني الأول، وهو من مواليد بيروت عام 1979، فقد سميته «كرمل»، ولاحقاً ولدت ابنتي الوحيدة «دالية» في عمان عام 1992 تيّمناً بعنب الخليل. أما الكرمل، فهو أعلى جبل في شمال فلسطين، يطل على حيفا، قريباً من مسقط رأس والد زوجتي، (مدينة عكا)، وهي مولودة في بيروت. أما والدتها اللبنانية، فهي صيداوية الأصل، كانت تعيش في بيروت. كنت أؤمن بفكرة بلاد كنعان = بلاد الشام، وما زال كإحدى الكتل المهمة في الوطن العربي، لأنها غنية بالتعددية الدينية والعرقية والفكرية منذ ما قبل الميلاد وحتى اليوم. لهذا وصمني أعدقائي بـ«الوثنية الكنعانية»، وكنت أدافع عن نفسي، (من لا وثنية له، لا إسلام ولا عروبة له)، فالتاريخ الوثني، والثقافة الوثنية، هي طبقة من طبقات التاريخ البشري.
وختمت قناعتي الكنعانية الشعرية بإصدار كتاب «فلسطين الكنعانية» - 2009. وهو كتاب مقروء جداً، خصوصاً في دائرة جيل الشباب اليافعين. والسبب أنني هربت من دائرة «فخ الجدل مع التوراة» نحو «القراءة الاستبصارية»، معتمداً على معرفتي الشخصية بالأمكنة. وكنت قد أصدرت عام 1983 مجموعتي الشعرية النثرية «كنعانياذا» عن الدار العالمية -بيروت، مستكملاً فيه مساري في مجال قصيدة النثر، بعد مجموعتي الأولى «مذكرات البحر الميت» - 1969.
بلا شك، أنني كنت أفكر بملحمة يونانية قبل كتابة «كنعانياذا»، وكان في ذهني مسبقاً أنني أطمح الى اختراق الشعر الفلسطيني الحديث كله. ومن يقرأ شهادات الروائي نبيل سليمان والشاعر شوقي بزيع والشاعر الفلسطيني الراحل علي الخليلي والروائي الفلسطيني أحمد رفيق عوض وغيرهم، يتأكد أنني نجحت في الاختراق، تماماً، كما اخترقت الشعر الفلسطيني كله عندما صدر ديوان «مذكرات البحر الميت»، أي بمفهوم الحداثة وقياساً على زمنه، تجاوزت ما أنجز فلسطينياً آنذاك. وهكذا أيضاً، حققت مفهوم «الاختلاف»، لكن النقد العربي لم يكن آنذاك قد وصل إلى فهم الاختلاف، ولعب الموقف السياسي سلباً، لأنني كنت وما زلت محسوباً على تيار محاربة الفساد الثقافي، بعيداً عن التطبيل والتزمير للشعر السائد. لقد اعترفوا بِـ»الكنعنة الشعرية» متأخرين. هكذا، رسّخت «شعريّة الكنعنة»، منذ منتصف الستينيات وحتى اليوم، بفروعها المتنوعة، واعترفوا بقدرتي على توظيف «الأمكنة»، بجدلها مع التاريخ، و»التفاعل مع الأساطير»، فأنا ألاعب الأمكنة، والتاريخ بإصبعي الشعري. لقد أصبحت «الكنعنة»، تياراً فكرياً وشعرياً في الأوساط الثقافية الفلسطينية.

«الإلياذة الفلسطينية»
* يرى الناقد د. عبد الواحد لؤلؤة أنك استفدت في «كنعانياذا» من الشكل الملحمي لإلياذة هوميروس، وكذلك لغة الأدب الكنعاني الرعوي القديم الذي سبق التوراة بمئات السنين. أكثر من ذلك، سمّى البعض «كنعانياذا» بـ «الإلياذة الفلسطينية»، فكيف ولماذا نحوت صوب الأسلوب الملحمي في تعاطيك الشعري مع المكان والزمان الفلسطينيين؟.
** يقول الباحث د. خليل الشيخ (جامعة اليرموك) بأن المدخل الصحيح لقراءة شعر المناصرة، هو «مدخل امتصاص الأسطورة والتاريخ». هذه الجملة وما يشبهها، قيلت كثيراً. وقد سبق لي أن قرأت فكرة للشكلاني الروسي رومان ياكوبسون، وهو يتحدث عن «التوازي»، فانتبهت لقوله بأن الأدب الكنعاني القديم، كان سابقاً للتوراة بأربعة عشر قرناً، وبالتالي، فإن الأدب الكنعاني هو المؤثر الأصلي. وقرأت كتاب «الشريعة الكنعانية»، مترجماً إلى العربية، وهو يشمل نصوصاً كنعانية مهمة. هنا قادتني قراءاتي إلى فكرة «اللغة الرعوية». وقبل سنوات أنجز د. محمد بودويك، أطروحة دكتوراه متميزة وذكية. كما قادتني فكرة الكنعنة إلى «الأسلوب الملحمي» في تفاعل «جدلية الزمكان» في شعري، حيث خلقت إيهاماً من خلال مزج لغة رعوية بمشكلات وقضايا عصرية. لكن عملي الشعري ليس ملحمة بالمعنى التقليدي، بل هو عمل شعري ملحمي، يحمل روح نضالات ومآسي الشعب الفلسطيني، حيث قرأت التاريخ الفلسطيني، قراءة شعرية استبطانية. المسألة الأخرى، هي أنني أبدأ من الأسطورة أو التاريخ، ثم أبتدع أسطورتي الخاصة، لهذا قال الناقد المصري د.علي عشري زايد في الستينيات: «المناصرة، مبدع أساطير.. أما السياب فهو ناظم أساطير». كما اعترف د.محمد مشعل الطويرقي، بأن المناصرة، هو أول من أدخل الأسطورة التاريخية (زرقاء اليمامة - مجلة الآداب اللبنانية، عدد ديسمبر 1966) في الشعر العربي الحديث، فهي نبوءة مسبقة لكارثة 1967، بينما كانت قصيدة أمل دنقل (زرقاء اليمامة - مجلة الآداب، مارس 1968) عبارة عن وصف لما حدث. وقال د.أحمد جبر شعث في كتابه «جماليات التناص»، بأن «جدارية محمود درويِش» - 1999، تأثرت بقصيدة أدونيس «هذا هو اسمي» - 1969، وتأثر بوضوح بـ«كنعانياذا عز الدين المناصرة»- 1983 المنشورة قبل ذلك في مجلة «الكرمل» التي كان درويش يرأس تحريرها (العدد الرابع عام 1981)، وفي عناوينها الفرعية عناوين «عيد الشعير» و»عيد الكروم»، وقد وردت حرفياً في الجدارية، إضافة الى توظيف شخصية امرئ القيس، التي كان الشاعر المناصرة، أول من وظفها بكثافة، (35 مرة)، منذ قصيدة (قفا نبك - 1967). وهناك عشرات من الشعراء الفلسطينيين، قلدوا، أو ساروا في «تيار الكنعنة»، كما أشارت أبحاث كثيرة. لقد حاصرتني «الميديا» لأسباب سياسية غالباً أو شخصية، حيث منعت وصول نتائج البحوث العلمية الى الجمهور، بقرارات سياسية. أحياناً تجد صحيفة أو مجلة أو فضائية، تتعاطف مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة سياسياً، لكنها تترك «الثقافة» لمحرر جاهل بالثقافة الفلسطينية، وتاريخ تطور الشعر الفلسطيني الحديث. كما أن الشعب الفلسطيني، ليس بحاجة الى بيت شعر مسروق من الشاعر الفيلسوف نيتشه: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

«احتكار» الشعر
* أظن أنني أقول ما يشبه الحقيقة حين أقول: «احتكر» الشاعر الراحل محمود درويش الصوت الشعري الإبداعي الفلسطيني، ليس بسبب إبداعيته فقط، التي يقر بها كثيرون، وإنما لأسباب دخلت عليها السياسة الرسمية الفلسطينية، فمنحته سلطة ضاعفت من سلطته الأدبية، الأمر الذي أثر رمزياً، وربما إبداعياً، بشكل أو آخر على الأصوات الشعرية الفلسطينية الريادية الأخرى، وأنت في الطليعة بينها.. بماذا تعلق؟
** ما تقوله صحيح، ولكن لا بدّ من مراجعة نقدية لهذه المسألة. صحيح أنها رسّخت درويش كشاعر، لكني كنت أول من اعترض عليها. كنت أقول: هو شاعر كبير، لكنه ليس الشاعر الأوحد منذ الثمانينيات. هناك محاضرة طويلة نشرت في عددين من مجلة «الحرية» الفلسطينية عام 1988 بعنوان: «جنازة النص»، هزَّت «الدراويش»، لأنني طرحت فيها قضايا محرجة لهم، فقد زرع محمود درويش محررين ثقافيين من الموالين له في المجلات والصحف، هاجموني آنذاك. تساءلت: هل يجوز أن نقول: أدونيس ونزار قباني، هم كل شعراء سوريا، وبدر شاكر السياب هو الشاعر الأوحد في العراق، وفي لبنان شاعر واحد هو خليل حاوي، ومصر فيها شاعران أوحدان هما: صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، وفلسطين فيها شاعران أوحدان فقط: محمود درويش وسميح القاسم!!.
من جانب آخر، كانت صدرت أول إسطوانة غنائية لمارسيل خليفة، فيها قصائد لدرويش، وقصيدة واحدة لي هي «جفرا أمي». تنافست هذه القصيدة على المركز الأول عند الجمهور مع قصيدة محمود «أحنّ إلى خبز أمي». كان ذلك عام 1976، وظلت حتى اليوم، بفضل الإنترنت»، وغنّى لي مارسيل قصيدة أخرى عام 1984 عنوانها: «بالأخضر كفنّاه»، وما تزال تغنّى كنشيد قومي للشهداء حتى اليوم. وتسأل مذيعة تلفزيون جميلة المطرب البحريني خالد الشيخ بعدما غنّى قصيدتي.. «وكان الصيف موعدنا».. من هو شاعرها؟!، فيجيب أظن أنها لتوفيق زياد!!. وحتى «جفرا»، يكتب بعض القراء أنها لدرويش.
المطلوب اليوم إذاً إجراء مراجعة نقدية تحلل أسباب الشهرة وتحلل تعالق الشعر والسياسة. ماذا يبقى من الشعر بعد حذف السياسة. بعض دراويش درويش ومريديه، انقلبوا على أسباب الشهرة وادّعوا أن المرحلة الأولى من شعر درويش حتى مطلع التسعينيات، ليست هي السبب في شهرته. طيّب، لو حذفنا تلك القصائد الوطنية كما يريدون، ماذا يبقى من شهرة درويش؟، كما تساءل المفكر الفلسطيني منير شفيق في مقالته «كيف نقرأ درويش؟!».
وسبق لي أن قلت رداً عن سؤال: «درويش ليس شاعر كل الناس، وللحق لم يكن أيضاً الشاعر الخاص لعرفات ومحمود عباس، ولم يكن الشاعر الأوحد، ولا صنماً ليقدّس ويُعبد، كما فعلت سلطة وثقافة أوسلو!!.
لقد عرف درويش بذكائه وخبرته منذ أن انشقّ عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي والتحق بشعراء الثورة في بيروت، أن القيادة السياسية لفصائل منظمة التحرير بدأت منذ عام 1974 تتوجه للتسوية مع إسرائيل. ورأى أنه يصلح جسراً للوصول إلى «حزب العمل الإسرائيلي» عبر «راكاح» (أي الحزب الشيوعي الإسرائيلي) مقابل الاعتراف به «شاعراً أوحد». من هذه النقطة اكتسب ثقة القيادة الفلسطينية، فعينته «شاعراً عاماً لعموم الفصائل المسلحة وغير المسلحة»، ومات (2008)... مليونيراً، بفضل «صفقة نصف القرن الشعرية». هكذا، قلت جملتي «محمود ليس الشاعر الأوحد للشعب الفلسطيني»، وكان على قيد الحياة. قلت ذلك عام 2000 في جريدة «العرب اليوم»، وكذلك عام 2004. أي أن درويش كان في عمّان، عكس ما يتصوره البعض.

تصحيح متأخر
* قلت أكثر من مرة في حواراتك بأن «خطيئة» ارتكبت بشأن تاريخ الشعر الحديث الفلسطيني، ومعنى «المقاومة الشعرية»... الخ.. إلام كنت تؤشر بذلك صراحة؟
** هذا صحيح، لكن التصحيح جاء متأخراً، لهذا أطلق بعض المثقفين الفلسطينيين تسمية ساخرة مؤخراً بعنوان «صفقة نصف القرن الشعرية»، وهي كالتالي: أول من نشر أشعار الثلاثي: درويش، القاسم، زياد، في مجلة «الأفق الجديد» المقدسية، عام 1966 قبل غسان كنفاني، هو الصحافي إبراهيم أبو ناب القادياني وشخصياً كنت مدير مكتب هذه المجلة في القاهرة في الفترة ما بين 1964- 1966.
تأسست «منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد الشقيري في القدس بتاريخ (28/‏‏‏5/‏‏‏1964). وفي العام نفسه انتسبت شخصياً إلى إحدى نقاباتها أعني (الاتحاد العام لطلبة فلسطين- فرع القاهرة). ثم أصبحت عضواً في «اتحاد كتاب فلسطين»، بترشيح من الشاعر أبو سلمى، والروائي غسان كنفاني. ولم أستطع المشاركة في المؤتمر التأسيسي، الذي انعقد في غزة عام 1966، بسبب عدم منحي تأشيرة الدخول المصرية آنذاك، لكنني شاركت في مؤتمر اتحاد كتاب فلسطين الثاني في القاهرة عام 1969.
هذه هي الخلفية السياسية، آنذاك حدثت كارثة هزيمة عام 1967، حيث كنت أعيش في القاهرة.
قبل عام 1966 لم نسمع بأسماء «ثلاثي المقاومة الشعرية الملتبسة» إطلاقاً، أعني: «درويش، القاسم، وزياد». ولكن اعتباراً من هذا العام (1966)، أصدر غسان كنفاني كتاباً صحافياً عن هؤلاء الشعراء وغيرهم، وتلا ذلك صدور مجموعة من الكتب ذات الطابع الصحافي بعد 1967 عن هذه «الظاهرة الملتبسة». وقد جاء الالتباس من الانتماء الإيديولوجي لهؤلاء الشعراء إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، كذلك انتمى شاعر رابع الى حزب «مابام» الإسرائيلي، هو راشد حسين. وبالمقابل بدأت تظهر كتب مناوئة لهذا الشعر الذي يرفع شعار المقاومة الملتبسة: (شعراء يؤمنون بشرعية دولة إسرائيل إلى جانب ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة). وقد واجه هذه «المقاومة الملتبسة» كل من يوسف الخطيب وأدونيس وغالي شكري، حيث وصفوا هذا الشعر بأنه «شعر احتجاج ضمن النظام الإسرائيلي، وليس شعر مقاومة»!.
هذا هو الفرع الأول للشعر الفلسطيني الحديث في شمال فلسطين.
أما «الفرع الثاني»، فهو «شعراء الثورة الفلسطينية» في الضفة الفلسطينية، وقطاع غزة والمنافي، خصوصاً: الأردن وسوريا ولبنان. تبنّى هذا التيار أطروحات منظمة التحرير الفلسطينية، أي «الكفاح المسلح» و«فلسفة التحرر الوطني» ومنهم: عز الدين المناصرة ومعين بسيسو وأحمد دحبور ومريد البرغوثي وغيرهم، كما صنفهم الإعلام. هذا المقال هو أول تصحيح تاريخي لمسار الشعر الفلسطيني المقاوم والحديث. وأضاف المقال بأنه إذا أردنا الاختصار للعلامات المركزية، فهم، حسب الشاعر نمر سعدي، ثلاثة، أي ما تبقى من الشعر الفلسطيني الحديث: درويش، المناصرة، القاسم. أما كتاب «دراسات في الأدب الفلسطيني»، الصادر في رام الله عام 2003، فيقول بأن ما تبقّى من الشعراء الثمانية، هما اثنان فقط: محمود درويش وعز الدين المناصرة. أما محمود درويش في حواره الأخير مع فيصل دراج (جريدة «أخبار الأدب»، أغسطس 2008)، فقد قال حرفياً بأنه «معجب بالأعمال الشعرية لعز الدين المناصرة، والطور الأخير من شعر مريد البرغوثي»، قال هذا قبل أسبوعين من رحيله. وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، ومفادها أن الشاعر الفلسطيني الوحيد الذي حمل السلاح دفاعاً عن المخيمات والجنوب اللبناني في المرحلة اللبنانية للثورة الفلسطينية (1972- 1982)، هو عز الدين المناصرة. وكان قد انتمى مناضلاً في منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1964 تحت قيادة أحمد الشقيري. وهناك شعراء عاشوا في العواصم العربية دون أن يندمجوا في منظمة التحرير، وبعضهم اندمج في نظامه العربي أكثر من ولائه للثورة. وهناك من الشعراء من انتمى لفصيل فلسطيني من أجل الراتب، وكان يرفع شعار «تحرير فلسطين من البحر الى النهر»، ثم لحق بمؤسسة «اتفاق أوسلو»، وثقافة أوسلو، ومات بناء على طلبه على «سرير في مشفى إسرائيلي».

* ما الذي جعلك تدفع ثمن «استقلال صوتك الشعري»، فلسطينياً، وأنا أتكلم هنا عن مستويين متداخلين: إبداعي وسياسي، خصوصاً بعدما منعت من إلقاء قصيدتك «حصار قرطاج» أمام أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1983؟.
** أن تنحاز إلى طرف دون الآخر، مسألة سهلة ومربحة. أما أن تكون مستقلاً، أي أن تنحاز لنفسك وما تؤمن به، فمسألة صعبة. كثيرون في الثورة الفلسطينية ادعوا أنهم «مستقلون»، لكنهم كانوا يكذبون. عشت كجبلي خليلي وكفلسطيني من أصل فلسطيني كنعاني، صادقاً في مواقفي السياسية والثقافية، لأن الصدق هو طريق العدالة والحرية. دافعت عن قيم نموذجية في مستنقع الزمن الصعب. وقد توصلت إلى حقيقة تقول: «المثقف المستقل» هو الذي يواجه المشكلات دون حساب الربح والخسارة. قد يكون هذا الكلام مثالياً تطهّرياً نعاني من صعوباته، لكن في النهاية أنت تشعر بالراحة النفسية. كنت، يا صديقي، تلقيت برقية موقّعة بخط يد ياسر عرفات، وكنت في تونس، تضمنت دعوتي الى المشاركة مع محمود درويش، ومعين بسيسو في صباحية افتتاح دورة المجلس الوطني الفلسطيني (شباط، 1983، في الجزائر)، أي بعد خروجنا من بيروت بعد حصارها التاريخي الذي عشته كاملاً لمدة ثلاثة أشهر. التقينا نحن الشعراء الثلاثة: بسيسو ودرويش وأنا في المجلس الوطني في الجزائر، وفوجئت قبل انعقاد جلسة الافتتاح بقرار: «لا يسمح لعز الدين المناصرة بإنشاد قصيدته، لأنه عضو مراقب، وليس عضواً كامل العضوية». وكان من اتخذ القرار هو ياسر عرفات. قال لي مثقف صديق بأن درويش وبسيسو، هما من اقترح على عرفات هذا القرار، على رغم أنهما أنكرا ذلك لاحقاً. القصة أن أحد مستشاري عرفات، هو من وشى بي بالقول لعرفات «قصيدة المناصرة، هجائية لدور القيادة السلبي في حصار بيروت»، وامتدح المستشار قصيدة درويش «مديح الظل العالي»، وتبين أن درويش وبسيسو هما من حرّضا المستشار على إيصال مضمون قصيدتي «حصار قرطاج» إلى عرفات.
ذهبت مع المثقف الصديق الى الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب، وسألناه، بصفته عضواً في المجلس الوطني منذ الستينيات عن حادثة المنع، فدهش، لكنه لم يعلق. دخلنا جلسة الافتتاح، وجلست بعيداً عن منصة الرئاسة.
صعد معين بسيسو وبدأ بقراءة قصيدته، وهي في مديح ياسر عرفات، فجأة شاهد الجمهور الشاعر يوسف الخطيب يخلع معطفه ويقاطع معين، ويلقي قصيدته الشهيرة:
«أكاد أؤمن من شكٍ ومن عجبِ/‏‏‏ هذي الجماهير ليست أمة العرب).. وقرأها حتى النهاية.
صفّق له الجمهور خمس دقائق وقوفاً، وبعدها واصل معين قراءة قصيدته، كنت أراقب المشهد الدرامي دونما أي تعليق.
لكنني تفاجأت بحضور الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) يمسك بيد محمود درويش، ويتجهان نحوي، ويجلس أحدهما على يميني والآخر على يساري. كان درويش مكفهرّ الوجه. أما أبو جهاد فكان يضحك، وينظر إليّ دون كلام. فجأة لمعت في رأسي جملة، فقلت لدرويش: «اطمئن لن أقاطعك عندما تقرأ بعد قليل قصيدتك، لكن مبروك عليك وعلى معين وعلى المستشار».
بدأ أبو جهاد، وكنت أحبه، يرطب الأجواء، فاسترخى درويش وابتسم لأول مرة. ثم غادرنا متجهاً الى المنصة لقراءة قصيدته.