عالم اليوم يمكن تلخيصه في العالم الإلكتروني، فمن المعروف أن الكثير من الناس إذا أرادوا السفر فإنهم يدخلون إلى مختلف المواقع الإلكترونية للاستفسار عن أفضل أسعار التذاكر والفنادق وأفضل الوجهات السياحية وآراء المسافرين وأحوال الطقس وغير ذلك، ولا يختلف أدب اليوم عن ذلك، فهناك كثير من الكـُتّاب والناشرين ممن يستقرئون العالم الإلكتروني استقراءً شبه تام من أجل الحصول على أفكارٍ جديدةٍ، وقد لا يخفى على المتابع ما خرج في الساحة الأدبية الإماراتية من كتبٍ سُمّيت رواياتٍ وقصصاً قصيرة أو قصيرة جداً وكانت في أصلها تغريداتٍ على الموقع الشهير «تويتر»، وليس هذا بمستغرب، لأن ثمة أمثلةً عالميةً سبقت إلى ذلك اقتدى بها هؤلاء، ومن تلك الأمثلة الأديب العالمي باولو كويلهو الذي كان يناقش أفكار راوياته الجديدة مع متابعيه في «تويتر» فيُضيف ويحذف بناءً على تلك المناقشة. ولكن هنا لي وقفة مع هذا الأمر لأنه يُمثلُ قياساً مع الفارق، فالروائيّ باولو كويلهو أديبٌ لديه بعض الأفكار الفلسفية والأدبية التي يريد مناقشتها مع القارئ، وهو معروفٌ ببحثه عن الحكمة، لكن كثيراً ممن يقلدونه ليس لديهم أية أفكارٍ عميقةٍ يمكن لها أن تُضيف إلى الفكر الإنساني، ولذلك فإن كتاباتهم تفتقد إلى السمة الأدبية، وحينها لن ينفعها الانتشار الإلكتروني إلا كما ينفع الأغاني التي يطلبها السوق وتخلو من عبقرية التلحين. والشاهد على ما أقول بعض الروايات المحلية التي كانت قد أخذت من تغريدات في «تويتر»، فليس فيها سوى الجلوس على المقاهي/‏ الكافيهات، والحديث مع النادلة، وشؤون يومية أخرى ينساها القارئ بسرعة، وليس هناك أحداث تناقش قضيةً أدبية، ولا أقصد هنا أنه لابد في تلك الروايات من توفير عناصر القصة أو شكلها التقليدي من تصاعد أحداث وعقدة وذروة وتنوير وغير ذلك من التعليب الجامد؛ بل لعلي أوافق الروائي الأمريكي كورت فينيغت في أن القصة الأقرب إلى الحياة هي ما خلا من كل ذلك التكلّف، لكن تبسيط التوتر في القصة لا يعني الوقوع في السطحية.
وهناك عوامل نفسية واجتماعية أخرى تتحكم في هذه المسألة، فسهولة النشر الأدبي الإلكتروني يسمح بسهولة الرد والانتقاد من قبل القراء أيضاً، ومن هنا قد يتأثر هذا الطرح بالردود سلبياً، بمعنى أن الكاتب سيتأثر بهذه الردود لأنه يطرح إنتاجه الأدبيّ على عامة الناس، فإن لم يكن ما يطرحه متوافقاً مع العرف العام فإنه سيتلقى ردود فعل قد لا ترضيه أحياناً، والسبب في ذلك قد يعود جزئياً إلى أن الأدب الحديث نخبويّ بالطبيعة، وله أبجديةٌ في قراءته قد لا تتوفر لعموم جمهور القراءة الإلكترونية، ولكن ماذا عن القراءة التفاعلية غير النخبوية؟ أليس النشر الإلكتروني أحد العوامل الرئيسة فيها؟ بلى، لكن الأنشطة التفاعلية في أحيانٍ كثيرةٍ تنزعُ إلى السطحية، سواءٌ ذلك في الآداب أم في الفنون، ويعود ذلك إلى مشاركة متفاعلين ممن لا يملكون خبرةً أدبيةً أو فنيةً سابقة، فالإنتاج العظيم بحاجةٍ إلى خبرةٍ عظيمة، ومن جهةٍ أخرى في سياق العوامل النفسية والاجتماعية أقول: إن النشر الإلكتروني قد لا يُرضي البعض إذ يشعر بعدم «وجود» كتاباته في الساحة فيُصرّ على طباعتها ورقياً؛ الأمر الذي يسمح له بإقامة حفل توقيع، أو إهداء نسخ من إنتاجه، وهذه مشكلةٌ أخرى لمن يُحبون المظاهر، فالنشر الإلكتروني لا يساعد على ذلك.
وفي الحقيقة أرى أن عالم المعرفة الإلكتروني عالمٌ مدهشٌ لأنه يجمع كل شيء في شيء واحد، أو كما يقول الصوفية إنه الجمع في عين الفرق، فتقرأ فيه خبراً محزناً يليه مباشرةً خبرٌ مضحك، وبعده يأتي خبر خطيرٌ أو جادّ، وهكذا في الصور، ومقاطع الفيديو، والإعلانات، وكل ما يوجد في العالم الإلكتروني، وهذا التناقض أو التضاد المدهش أصبح سِمة في الشاشة الصغيرة جداً التي ندخل منها إلى العالم الإلكتروني، ومن هنا على الأديب والكاتب أن يُحسن استثمار هذا الأمر في رفد خياله الأدبي بما يذهب به وبقرائه إلى آفاقٍ أدبيةٍ أرحب، ذلك لأن الدهشة الأدبية انحسرت شيئاً في مواجهة الدهشة الإلكترونية، ومن هنا لا يُحبذ الكثيرُ من الجمهور قراءة النصوص الأدبية إلكترونياً لأنها ببساطة غير جذابة أو مثيرة في مقابل عالم الصور ومقاطع الفيديو و»السناب» وغير ذلك من المثيرات السمع ـ بصرية.
إن سهولة النشر الإلكتروني وسرعة انتشاره شيءٌ إيجابيّ دون شك، لكنه يظل مجرد وسيط، والسؤال: ما الجديد الذي لديك أيها الكاتب سواءٌ في كتابك الورقي أم الإلكتروني؟ وهل سيُغنيك النشر الإلكتروني شيئاً إن كانت كتاباتك تخلو من الصبغة الأدبية أصلاً؟