على مدى التاريخ كان هناك فريقان يتبنيان رأيين متعارضين. الأول يؤكد أن العالم يتغيّر بأمر خارجي، إذ لا يمكنه أن يتغيّر من تلقاء نفسه، وبما أن العالم مخلوق فلابد أن يخضع للخالق، فهو من صنع زيوس أو أهورا مزدا في معتقدات اليونان أو الشرق القديم... أما الفريق الثاني فهو يرى أن الكون يتغيّر من تلقاء ذاته. فطبيعته نفسها طبيعة متغيّرة. ولكن هذا الفريق نفسه له رأيان: رأي يذهب إلى أن العقل هو الذي يغيّر العالم، فهو الذي يدير كل شيء فيه. والرأي الآخر يرى أن القوى المنتجة هي التي تغيّر العالم: البشري منه والطبيعي، من دون أن يكون لها في الأساس هدف التغيير، فالمسألة مسألة تراكم كمي يؤدي إلى تغيّر نوعي.
ولو أردنا تقديم مثال عن كل فريق من المفكرين لاخترنا هيغل وماركس. فهيغل يرى أن الأفكار هي التي تغيّر العالم. وارتقاء الأفكار يعني ارتقاء العالم، بينما ماركس يرى العكس؛ أي أن الإنتاج هو ما يحدد طريقة التفكير.
والواقع يدل أن كل واحد من الاثنين على جانب من الصواب، لأنه لا فرق بين العمل والفكر... فالرأيان يتمم أحدهما الآخر، فكأن الخلاف كان حول الأهم والأسبق بين العمل والفكر.
مسارب
ليس من الضروري أن تغيّر الأحداث العالم، مهما كانت شاملة أو خطيرة. بعض الاجتياحات الكبرى لم تغيّر من عقليات البشر الشيء الكثير. فإذا انتهت تلك الاجتياحات، تابع الناس سيرتهم السابقة، وعادوا إلى ما كانوا.
والمسارب الفكرية كثيرة جداً، بيد أن المسارب الأنفذ تنحصر أو تكاد تنحصر في ثلاثة هي: التكوين والخلق والإنسان. وكل ما عدا هذه المسارب سيكون هامشياً، أو يعالج فرعاً من فروع هذه المسارب.
لننظر في عقائد البشر مثلاً. هناك عقائد كثيرة جداً في المجموعات البشرية. بيد أن كل هذه العقائد تكاد تتجمع في ثلاثة مسارب شمولية: التكوين والخلق والإنسان. والمقصود بالتكوين تصورات البشر لنظام الكون، والمقصود بالخلق تصوراتهم عن مظاهر الحياة من نبات وحيوان وإنسان. والمقصود بالإنسان تمايزه من بين جميع المخلوقات، وسيطرته الكاملة أو شبه الكاملة على هذه المخلوقات.
معظم قضايا الفكر الغربي منبثقة من هذه المسارب. ويصعب أن نعرض أفكارَ أي فيلسوف أو عالم أو مهندس أو طبيب أو حتى عالم آثار من غير هذه المسارب الثلاثة. فالمحدثون من المفكرين لم يزيدوا كثيراً على بعض العقائد القديمة، وبعضها ليس أكثر من تصورات لمجموعات بشرية عديدة ومختلفة ومتباينة عن التكوين - الخلق - الإنسان.
التكوين
في التكوين أن الكون وجد دفعة واحدة، بحسب عقائد هذا الشعب أو ذاك. والأرض هي مركز هذا الكون، فكل ما يحيط بالأرض يقوم بخدمة الأرض. وهو كون ثابت لا يتغيّر. في اليونان والرومان والفرس والهنود وأميركا الشمالية، وأميركا الجنوبية، وفي أوقيانوسيا.. التكوين واحد لا يتغيّر، عبارة عن أرض تقوم بخدمتها جميع الكواكب والأجرام السماوية.
لكن في القرن السادس عشر تغيّر كل شيء، عندما أعلن كوبرنيكوس معادلة كونية معاكسة تماماً. فالأرض ليست مركز هذا الكون، بل بالعكس، إنها كوكب صغير تابع ومقيّد الحركة بالمركز الذي تبيّن له أنه الشمس. وبهذا الإعلان الخطير انقلبت أساليب التفكير انقلاباً كاملاً، مما جعل الشكوك تتسرب إلى بعض التصورات الكوسمولوجية القديمة التي تتمسك بمركزية الأرض.
صحيح أن اليونان اعتبروا الأرض أم جميع «الآلهة» والمخلوقات، ولكنهم ذهبوا بتفكيرهم إلى المعادلة الخاطئة في تصوّرهم للتكوين، كما تجلى في أفكار بطليموس. وليس الأمر محصوراً بالعلم، بل شمل معظم نواحي التفكير البشري. كان لابد من أن تتغيّر طرق تمثُّـل العالم. وبظهور التصور الكوبرنيكي ظهرت ثورة تعتبر كبرى في تاريخ الفكر البشري.
كل التصورات التي كانت تعتمد على أن الأرض مركز الكون باتت محل سؤال، وبالأخص بعد أن وجدت النظرية الكوبرنيكية أنصارها الكبار، أمثال غاليلي وكبلر. وهذا يعتبر مسرباً كبيراًَ أحدث تغييراً في الفكر الغربي.
النشوء
الثورة الثانية جاءت بعد ثلاثة قرون تقريباً عندما أعلن داروين نظرية نشوء، أي توالد الشيء من أشياء. وقد أيّده لفيف من رجال الدين الإنجليز، ورأوا أن فيه تفسيراً لبعض النصوص المقدسة، التي كانت تخاطب الناس، في الغرب، بمفردات معتقداتهم القديمة.
كان الخلق في التصورات السابقة قائماً على أن الحياة في كل تجلياتها غير ناشئة، وجدت كاملة وغير خاضعة للتطور. ولكن الثورة الداروينية طرحت العكس، زاعمة أن بالإمكان توليد أنواع جديدة من المخلوقات، بتلاقح نوعين متقاربين. فلقاح الحصان للأتان ينتج البغل، ولا ينتج حصاناً ولا أتاناً.
وأدت هذه النظرية إلى تغيير فكري واسع، في الغرب، فطبقت هناك على كل شيء: الأدب يتغيّر ويتطوّر، والفن يتغيّر ويتطوّر، والنبات يتغيّر ويتطور... والعلاقات الاجتماعية تتغيّر وتتطور، ولا يمكن لنوع من أنواع الكائنات أن يبقى ثابتاً، وحتى الجماد يتغيّر ويتطور، فالجبال الشاهقة باتت اليوم أقل ارتفاعاً من الأمس... وهكذا. وقد تعرضت نظرية التطور لانتقادات ومآخذ كثيرة، بطبيعة الحال، أخذها خصومها عليها.
الإنسان
حتى القرن الثامن عشر تقريباً كان المعتقد، في الثقافة الغربية، أن الإنسان مخلوق نبيل، مفطور على الخير، والمحبة، والغيرية... ولكن المجتمع يفسده، فقامت دعوات تزعم بأن ترك الإنسان للطبيعة ينمو فيها ويحقق حريته بلا تعقيد ولا قهر، هو المخرج الوحيد لـ«الأزمة البشرية»، وسوف ينهي مشكلات الإنسان على نحو نهائي. ومن أبرز أنصار هذه النظرية جان جاك روسو.
ولكن المؤمنين المسيحيين في تلك الأيام لم يقبلوا بهذه النظرية، وأكدوا أن هناك كائنات خفية تحرك كوامن الشر في الإنسان.
وفي القرن التاسع عشر اتجهت الأبحاث اتجاهاً علمياً واقعياً فظهر علم النفس الحديث، وأعلن أن الإنسان مسؤول عن نفسه بوعيه الذاتي من جهة، وبالعمل الاجتماعي من جهة ثانية، وهو كائن من جملة الكائنات الحيّة، ولذلك أعلنت الفرويدية نوعاً من «إدانة الإنسان»، ليس كما أعلن ذلك توماس هوبز «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» من دون معرفة العمق الفيزيولوجي المكوّن للدماغ البشري، بل زعمت أنه في تكوينه الفيزيولوجي يخضع لاندفاعات جائحة وأحياناً مدمرة! فكل حضارة يبنيها قد يعيد النظر فيها، فيهدمها ويعيد البناء من جديد، دونما فلاح في تحقيق الغاية- النهاية. وبذلك سقطت هالة «القداسة» عن الإنسان بحسب بعض العقائد القديمة، في الغرب. فليس الطفل «ملاكاً»، بل «شيطان صغير» إن لم يسعفه المجتمع في التربية والتهذيب. ولذلك نلاحظ أن للحداثة وما بعد الحداثة، في الغرب، مرتكزاً أساسياً هو «إدانة الإنسان»، وهو بتصرفه قضى على نفسه، وظل في حالة اغتراب دائم، وانتهى الأمر بإعلانه «موته»، بل أيضاً موت النصوص التي يكتبها!
الحداثة
من تلك المسارب الكبرى انطلقت الحداثة، في الغرب، إلى جانب الكثير من المسارب الصغيرة الأخرى، وانتثرت شذوراً منذ أن ظهرت، فصرنا أمام حداثات لا ضابط لها، على الرغم من الغوص الفكري المجدي في كل فرع من فروعها. فليس لها تيار عام يجمعها. وربما اعتبرت هذا فخراً لها، لإيمانها بحرية التفكير المطلقة. بيد أن بعض المهيمنين على دفة التطور العالمي لا يأبهون إلا بالقوة، كأن نيتشه ينفخ في بوقهم!
صحيح أن الحداثة لا تقبل أي أطروحة إلا بالدليل الحسي الملموس وفق منطق صارم. لكن عندما ننتقل من التحليل إلى التركيب، فإن الحداثة لم تقدم الباراديغم المنشود لتمثُّـل إنسانية تتمتع ولو بالقليل من الانسجام والسلم والحرية الملتزمة بالقضايا الجوهرية. إنها لا تملك مشروعاً عاماً، ولو طوباوياً أمثال مشروع أفلاطون وكامبانيلا وبقية الطوباويين، ولم تقدم مشروعاً قائماً على عقيدة فكرية أو اقتصادية، كما فعل الاشتراكيون المثاليون في القرن التاسع عشر، أمثال سان سيمون وفورييه ولاسال. بل لنعد إلى القرن الثامن عشر لنجد مشروعاً عند الفيلسوف عمانوئيل كانط للسلم العالمي، أدى إلى ظهور عصبة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وإلى هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. ومع سخرية بعضنا بأن هاتين المؤسستين لم تمنعا حرباً، ولا وطّدتا سلماً، ولا قدمتا أمناً، إلا أنهما كانتا من نتاج الفكر الكانطي. إنهما محاولتان، وخطيئة المحاولة خير من النفخ في قربة مثقوبة.
أما بعد، وما بعد..
تستخدم عبارة «أمّا بعد» في العربية لقطع ما سبق والإفصاح بوضوح عن مطلب الكاتب الأساسي. لكن مصطلح «ما بعد» الذي أعقب فترة الحداثة لا يعني شيئاً، إلا في أن موضوعاً سابقاً أنهى مهمته، وأنه الآن بصدد مهمات جديدة. فما بعد البنيوية يعني ما تبقى فاعلاً من عناصر البنيوية. وهكذا الأمر بما بعد النسوية وما بعد الماركسية وما بعد الحداثة وما بعد الفرويدية. وهذا يشبه «الأفلاطونية الجديدة» التي تعني ما أضافه أفلوطين على أفلاطون. لكن الأفلاطونية الجديدة واضحة المعالم لدى جميع الأفلاطونيين الجدد، بينما نجد «ما بعد» أي مذهب حداثي مشتتاً، بحيث لكل نصير منحاه الخاص، ولا جامع بين المجموع، فنكون أمام ركام مبعثر، فلا نلمس المذهب الفكري أو الأدبي، كما كنا نلمسه في المذاهب السابقة.
أما بعد، فإننا نظن أن المسارب الثلاثة (التكوين والخلق والإنسان) هي المسؤولة الكبرى عن الحداثة في النسق الذهني الغربي، بعد أن قلّصت بعض التصورات السابقة، وأدخلت الشكوك إلى بعض النصوص القديمة، وقضت على عرائس البحر وحوريات الغاب، كما يرى إدغار ألن بو، مما ضيّق مجال الخيال الأدبي.
قدمت الحداثة وما بعد الحداثة الشيء الكثير في مجال العلم، ولكن الأمر غير ذلك في المجالات الأخرى، فمن منا اليوم يستمع لموسيقا جون كيج أو يأخذ بآراء سوزان سونتاغ؟!