أشرف جمعة (أبوظبي)
قبل العالم الرقمي، وقبل احتفاظ الهاتف بعشرات الأرقام، كان دليل الهاتف الورقي الصغير لا يفارقنا.. كنا نضع أمام الزائرين ألبومات الصور القديمة، كما كانت تتصدر الحائط نتيجة ورقية تتساقط أوراقها كل يوم كأوراق الأشجار في فصل الخريف، ومن ضمن الأشياء القديمة قبل طغيان العالم الرقمي الراديو «الجيب» رفيق السفر، أنيس الليل، ملح الوحدة والانزواء بعيداً عن الآخرين، وكذلك الرسائل البريدية المكتوبة بخط اليد وبهجة حضورها في المشهد الإنساني قديماً، والشيء الغريب في حياتنا قبل الهواتف المحمولة هو أننا كنا نلتقي الأصدقاء بالمصادفة حين نبحث عنهم في الأماكن والشوارع التي اعتادوا الذهاب إليها.. هكذا بدل العالم الرقمي الحياة جملة وتفصيلا، وترك لنا من الماضي ذكريات تتداعى إلى الذهن كلما عدنا بالذاكرة قليلاً إلى الوراء، حتى أضحى العالم الرقمي في نظر الكثير مجرد تقنيات بلا طعم أو رائحة.
اختصار المسافات
يقول الدكتور طلال الجنيبي خبير دولي في التنمية الأسرية: أصبح العالم الرقمي سلاحاً ذا حدين، فهو يذلل العوائق ويلغي الأسوار التي تفصل بين الآخرين، ويسهل الكثير من أمور الحياة فقد فاقت آلياته كل تصور، إذ يمضي قطاره سريعاً ليكتشف الفرد في المجتمع أن الكثير من التفاصيل سقطت منه، لافتاً إلى أن هذا العالم الرقمي مدفوع برغبة عملية لاختصار المسافات وبخاصة في تخليص المعاملات بشكل سريع، ويذكر أنه في ظل ثورات هذا العالم الرقمي اختفت أشياء أساسية من حياتنا كانت تمثل العمود الفقري لمجمل تصوراتنا عن الواقع آنذاك، فقد كان دليل الهاتف الصغير والراديو ونتيجة الحائط وغيرها من الأشياء التقليدية التي طمسها العالم الرقمي وقود الحياة، أما اليوم فافتقد أفراد المجتمع هذه الأشياء التي كانت تدعو للحركة والبحث عن الطريق والشعور بالفرح عند الوصول إلى الهدف مهما كانت المعاناة، كون كل هذه العناصر كانت تمثل الجمال وتجلب السعادة لكنها غابت في خضم العالم الرقمي وأصبحت في عداد الذكريات.
دليل الهاتف
يقول إبراهيم خالد: لا أزال أتذكر دليل الهاتف الصغير الذي كنت أضعه في جيب قميصي، وآخر كبير أضعه بجوار الهاتف الثابت قبل انتشار الهواتف المحمولة، وكنت على الفور استخرج الرقم الذي أريده من خلال النظر في تسلسل الأحرف وكنت أيضاً أحفظ الأرقام المهمة للأصدقاء والأقارب، لافتاً إلى أن أهمية دفتر الهاتف الصغير الذي كان يعد في ذاك الزمان مثل الهاتف المحمول، كانت تكمن في أنه المنقذ في السفر حيث كنت أتوجه إلى أي «سنترال» أو «بقالة» كي أجري مكالمة للاطمئنان على الأهل أو الأصدقاء، فضلاً عن أنني كنت أضطر للمبيت خارج البيت عندما تدعو الظروف للبقاء في مكان بعيد ساعتها كان دليل الهاتف هو المنقذ الذي يسهل عملية التواصل مع الأشخاص المهمين، ويرى إبراهيم أن العالم الرقمي سلب الكثير من الخصوصات الحياتية البطيئة التي كانت مبعث لذة، ورغم سرعة هذا العالم العجيب وتقنياته المذهلة فإن العودة للذكريات القديمة تترك علامات استفهام في النفس وتدعو للتأمل، إذ كيف تطورت حياتنا لدرجة أنها محت من الحياة عادات ومقتنيات أصيلة لا تنسى.
رنات «المنبه»
وتبين ساجدة الفضل، أنها كانت تستيقظ على رنات «المنبه التقليدي» كل صباح، خصوصاً في أيام الدراسة في المرحلة الإعدادية، لكنها بعد أن صار الهاتف المحمول هو وسيلة التواصل مع العالم ورفيقها الأهم، فإنه أصبح هو الوسيلة الوحيدة التي تنبهها للنهوض من نومها كي تستقبل يوماً جديداً ومن ثم تستعد للذهاب للعمل، موضحة أن الحياة قديماً كانت أحلى وأن العالم الرقمي سلبها أشياء تحبها كانت تشعر بسعادة حين تتعامل معها بكل بساطة، مشيرة إلى أنه رغم وجود تحذيرات من خطورة وجود الهاتف المحمول بالقرب من الفرد أثناء النوم، إلا أنه لم يعد باستطاعتي أو باستطاعة الكثير من الناس الاستغناء عنه في أي وقت، وترى أن العالم الرقمي مفيد ومهم لكن المقتنيات القديمة كان لها رونقها الخاص، حيث كانت تشعر المرء بأنه يتعامل مع الطبيعة والحياة من أبسط الطرق وهو ما نفتقده في الوقت الحالي.
جهاز «الراديو»
ويذكر نبيل سالم أنه لم يعد يتصور أن أحد الأشخاص باستطاعته أن يحمل جهاز «راديو» ويضعه على أذنه ويستمع إلى الأخبار أو أي محتوى آخر في غرفته، أو يحمله معه في إحدى الرحلات، خصوصاً أنه أصبح بالإمكان تنزيل تطبيقات لأي إذاعة في العالم وبمنتهى السهولة، ويشير إلى أنه كان من عشاق الراديو وأنه كان رفيقه في رحلات السفر الداخلية والخارجية، وكان يستمتع بالاستماع إلى بعض البرامج الليلية من خلاله، وأنه كان يسهر معه ليالي طوال، لكن العالم الرقمي غير هذه المفاهيم إذ وجود جهاز الراديو في الحياة أصبح مجرد «ديكور» يوضع في المكتبة أو على طاولة في مدخل البيت المهم أن يراه الزائر فيلقي عليه نظرة تستعيد الماضي بذكرياته الجميلة، ويبين سالم أنه يحن إلى الراديو أحيانا ويترك الهاتف المحمول ببرامجه الكثيرة ليرى العالم من منظور هذا الجهاز الصغير الذي كان في زمن ما الصديق والأنيس والصاحب في الخلوة والسفر.
ألبومات الصور
ولا يخفي وديع سعيد أنه كان شديد الحفاوة بألبومات الصور التي كانت تشكل عالمه في الماضي، حيث كانت تحمل هذه الصور التي يضعها فيها ملامحه في مراحل عمرية مختلفة، وأنه كان يضع هذه الألبومات في حجرة الاستقبال المنزلية ويفتحها أمام الأصدقاء، خصوصاً أنه كان تقليداً في ذاك الزمان، لكن العالم الرقمي قضى على هذه العادة التي كان لها بريق وجمال خاصان، مشيراً إلى أن هذه الألبومات أصبحت راقدة في أحد الأدراج مثل أشياء كثيرة مهملة لم تعد تتسع لها الذاكرة لكنها تقفز إلى الذهن فجأة فيترحم المرء على ذكريات قديمة، ويبين أن العالم الرقمي ممتع ومفيد لكنه كاد ينسي المرء نفسه من كثرة الارتباط به، إذ أضحى هو محور الحياة والشيء المبهر الذي قرب المسافات بين البشر، لكنه قتل بعفوية الألفة الغامرة والسحر الذي كان ولا يزال يكمن في الأشياء التقليدية، وأن الذاكرة القريبة تحتفظ بأشياء بسيطة دمرها العالم الرقمي كونها محفورة في سجل الذكريات تنتظر اللحظة التي تثب فيها للحاضر.
حكايات قديمة
ويستعيد فاضل أحمد حكايات قديمة تدلت من شجرة الذكرى عندما كان يلتقي بعض الأصدقاء دون موعد، حين كانت الهواتف الأرضية التي تدور الأرقام في حناياها عبر القرص الدائري هي حلقة الاتصال بين الناس، والتي لم تكن متوفرة في كل البيوت، مشيراً إلى أنه كان يذهب إلى أحد المقاهي بعد صلاة المغرب طلباً لصديق، والعجيب أنه كان يجده جالساً في أحد الأركان، موضحاً أن هذه الفكرة تكررت كثيراً وأنه كان يلتقي أصدقاءه في الشوارع التي اعتادوا المرور منها، وكأن الزمن يمنح كل فرد الإحساس بالآخر، ويوضح أن العالم الرقمي مهم لكنه أزاح عادات أصيلة في الحياة تحن لها القلوب، حيث كانت تشكل الواقع قبل حلول العالم الرقمي.
الكتابة الورقية
يورد الشاعر محمد البريكي أنه كان إلى عهد ما مرتبطاً بالكتابة على الورق ويجد لذة في ذلك، وأنه كان يكتب قصيدة ويمحو منها ويشطب ما يريد ثم يكتبها مرة أخرى على ورقة جديدة حتى يصل إلى النسخة التي يرضى عنها، ثم يدفع بها إلى أحد مكاتب الكمبيوتر لكي ينسخها ويطبعها، وأنه كان مستمتعاً بهذا النسق، لكن العالم الرقمي سهل عليه كل هذه العمليات فأصبح يكتب قصيدته في الملاحظات ويمحو ويثبت كلمة مكان أخرى دون الاعتماد على القلم والورقة، ومع مرور الأيام أصبح هذا اللون من الكتابة هو ديدنه لكنه يترحم على زمن الكتابة على الورق، ويرى أن النمط التقليدي للكتابة كان أفضل نظراً لتوافر عامل السرعة ومن ثم الشعور بالسعادة الحقيقية مع النسق التقليدي للكتابة، ويلفت إلى أن الكتابة على الورق لم تندثر لكنها أصبحت ضئيلة في ظل العالم الرقمي الذي أتاح خواص الإملاء بالصوت والكتابة من دون قلم وورقة وغيرها من الخواص الأخرى، التي يستخدمها الكثير من الأدباء في هذا العصر.
رسائل خطية
يقول الكاتب عبد الله الهدية: لا أزال أحتفظ برسائل خطية كان قد أرسلها لي أصدقائي الأدباء قديماً، فهي تحمل ذكريات لا تنسى، خصوصاً أن هذا النوع من الرسائل يفتح آفاقاً من المودة حيث لهفة انتظار الرسائل ومن ثم فتحها للتعرف إلى ما تحتويه، وأنه يذكر أن أهم ما كان يميزها جمال الخط وتزيينها بأشكال معبرة فضلاً عن العبارات التي تحمل معاني عميقة تدعو للاندهاش، لافتاً إلى أن العالم الرقمي لم يدع مجالاً لبقائها في الحياة حيث إنه من خلال ضغطة زر تصل الرسائل لجميع المسجلين على الهاتف، لكنها من دون رائحة أو طعم.