محمد نور الدين أفاية
يسكن النظرة المتبادلة بين العرب وأوروبا التباس أصلي، يُكرسه قلق مسترسل في الزمان، وتأرجح بين النزوع إلى الاعتراف والميل إلى الحذر والتحوط. كان ذلك في العصور الوسطى، وما زالت هذه النظرة تتخذ، في كل مرة، أبعاداً جديدة، على رغم كل أشكال التلاقي والاحتكاك والتثاقف. ويمثّل الدين، في ذلك، عاملاً حاسماً، ويلعب الرأسمال العاطفي والمتخيّل الرمزي دوراً في تعزيز الالتباس، كما يشكل الجموح الوحشي الجارف لكسب المصالح سبباً في تعميق الحذر ومشاعر الاستبعاد.
مع ذلك يجد المرء في الماضي والحاضر لحظات تشوّش على هذه اللوحة المرتبكة العناصر، وتُكثّف نزوعاً إنسانياً لا يرتهن لمرجعية مُغلقة أو لفهم متشنج للذات وللآخر. ولا جدال أن ابن رشد يمثل إحدى أكثر اللحظات قوة في هذا النزوع العقلاني التحرري، قياساً إلى إكراهات زمنه. وتشكل دعوته إلى الحقيقتين أحد أهم الاختراقات التي تمت في عصره؛ وتكشف الامتدادات اللاتينية لهذه الدعوة عن عمق الرؤية التي أسسها للدين والفلسفة، وللفارق المنهجي الدقيق بين حقول العقل وعوالم الإيمان. لقد أقام تمييزاً واضحاً بين مجالين يختلفان من حيث المصدر والمنهج وآليات التفكير والتخيل، لكنهما يلتقيان، في نظره، من حيث الغاية. إذ تستند الحكمة إلى المفاهيم والبرهان المنطقي، ويمتح الدين مقوماته من التسليم والإيمان بالله وبالوحي المنزل على النبي، صلى الله عليه وسلم. وبدون تصنيف تراتبي بين المجالين ترمي كل من الحكمة والشريعة إلى بلوغ الحقيقة. لم يخلق تأكيد ابن رشد على هذه القاعدة لديه أي شعور بالتعارض أو التنافر، بل ولّد لديه وعياً حادّاً، في زمنه، بتلازم الإيمان والعقل دون الخلط بين مستويات اشتغالهما.
علامة فارقة
وبمقدار ما تعرض ابن رشد، في التاريخ الفكري الفلسفي، لتجاهل تنفضح خلفياته يوماً عن يوم، يجهر باحثون أوروبيون باعتباره علامة فارقة في الفلسفة الوسيطية؛ إذ جسد، طيلة أربعة قرون، «العقلانية الفلسفية في الغرب المسيحي»، كما يقول «ألان دوليبيرا» Alain De Libera. بل إن هذا «المثقف» يمثل الحلقة المركزية في الجهاز الفكري الذي أسعف الفكر الأوروبي في بناء «هويته الفلسفية». وهو بذلك يعبر عن «دَيْن لامفكر فيه»، وعن «إرث منسي» يجعل من الدور التاريخي لابن رشد، «عرَضاً لمرض التاريخ الغربي المرتبط بعملية التمويه عن القسط العربي فيه».
لا يعبر إقرار هذه الحقيقة عن نزعة مشوشة للاحتفال بشؤون الذات والانتقاص من التاريخ الانتقائي للآخر، إذ في الوقت الذي هاجرت فيه الرشدية الى الضفة الشمالية للمتوسط في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، بما خلقته من جدل وتثاقف، تعرضت في الفضاء العربي الاسلامي لأفظع أنواع الهجوم والحصار. كما أن الإقرار الرشدي بثنائية الحقيقة لا يعني، بداهة، إنتاج التمييز بين القدسي والزمني، أو بين الديني والسياسي في التاريخ الأوروبي، لأن الصيرورة التي أفرزت هذا التمييز أعقد مما تبشر به بعض الكتابات العربية في الموضوع. لكن ما هو مؤكد هو أن ابن رشد جسّد، وبدون حرج يذكر، ذلك التثاقف الرائع الذي حصل في زمنه بين المرجعيات الدينية والثقافية الثلاث، الإسلامية والمسيحية واليهودية، وأنتج فكراً حيوياً يراعي، بإحكام رفيع، ضرورات التوازن بين الذات والآخر، بين الارتباط بمقومات الهوية والانفتاح على عطاءات الاختلاف. ولهذا السبب ينزع بعض الباحثين الأوروبيين إلى اعتباره «وجهاً عربياً للعقلانية الأوروبية». فهو يكثف الارتباط العميق بين الثقافات وثراء التثاقف المنفتح على الآخر دون المساومة على أصول الانتماء.
ولعل استحضار هذا النمط الفكري، في السياق الثقافي الراهن، ليس بريئاً. فالفكر الرشدي انبنى داخل الصراع، ومن خلاله صاغ تمييزه الشهير، ودعا إلى استنبات تثاقف عقلاني نشط في الثقافة العربية الإسلامية، ضداً على النزعات الارتكاسية والاتجاهات المنغلقة. ولا عجب إذا ما لاحظ المرء كيف أن بعض البلدان العربية والأوروبية تجعل من الاحتفال بفيلسوف قرطبة ومراكش، مناسبة لإبراز الإرث العقلاني المتفتح في التراث العربي الإسلامي، وفرصة لاستحضار قيم التفاهم والتحاور الندي وإرادة المعرفة.
تحرير ابن رشد للأرسطية مما أحاط بها من مؤثرات وتأويلات أفلوطينية، ودفاعه المستميت عن استقلال الفلسفة قياساً إلى عالم الشريعة جعل منه لحظة معرفية ذات مفعول عميق في تاريخ الفكر العقلاني. فاستنبات الفلسفة في التربة الفكرية العربية الإسلامية دليل على وجود مشروع تنويري يحتفل بالعقل، ويواجه ما عداه بالحجة والمناقشة الهادئة، ولاسيما أن الرجل كان ملماً بالعلوم الشرعية بمقدار إلمامه بالفلسفة، الأرسطية بالخصوص، وهو ما أسعفه في منح مشروعية «ثقافية»، إذا صح التعبير، للاشتغال بالفلسفة، حتى ولو لم يعمل التاريخ الفكري العربي الإسلامي على إنتاجها، إذ لا تهم ملة من يسهم في اقتراح أدوات وأفكار ذات صدقية برهانية في النظر والتفكير، كما يؤكد على ذلك في كتابه «فصل المقال».
رؤية بابوية
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لابن رشد في الزمن الوسيط، فإن المؤسسة البابوية اتخذت طيلة تاريخها الوسيط والحديث، موقفاً مُتبرماً، إن لم نقل عدائياً، من الفلسفة. صحيح أن توما الأكويني في القرن الثالث عشر، والقديس أغوسطين في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، أكدا، كل بطريقته، على أن «الإيمان لا يخشى العقل، ولكنه يبحث عنه ويثق فيه». ولكن المؤسسة، على رغم ذلك، كانت، وما تزال، تتضايق من تأثير الفلسفة على الإيمان الديني، وحاربت النزعات العقلانية كلما شعرت بالخطر على توجهاتها وتحركاتها. ولعل أكبر تحدٍّ شهدته هذه المؤسسة تمثل في الفصل بين القدسي والزمني بفضل الحركية التاريخية للنهضة والأنوار والثورات السياسية. كما تبرمت من الاكتشافات العلمية كلما رأت فيها تجذيراً للنزعة الوضعية.
خلافاً لهذا التوجّه المبدئي، وفي الرسالة البابوية بعنوان: Fides et ratio، التي نشرها البابا يوحنا بولس الثاني (نشرتها جريدة لوموند يوم 16 أكتوبر 1998) حول علاقة الإيمان والعقل؛ دعا الحبر الأعظم إلى ضرورة التأمل في الأزمنة الفكرية والأخلاقية للعالم المعاصر، وإلى خلق إطار تصالحي بين أهل الإيمان وأهل النظر الفلسفي. كما نبّه إلى وجوب مناهضة المخاطر الجديدة المتمثلة، عنده، في النزعات الارتيابية والنسبية واللاعقلانية والعدمية والأصولية.. الخ.. ويؤكد البابا على أن سبب الأزمة الفكرية والأخلاقية التي يتخبط فيها العالم المعاصر يعود إلى «مأساة» الفصل بين الإيمان والعقل بوصفهما نظامين معرفيين يسعيان إلى الحقيقة. لقد أنتج ذلك، في نظره، انحرافاً في تاريخ الفلسفة، وتشوشاً في علم اللاهوت؛ وتشذرت الفلسفة إلى مجالات، هي بدورها، تتعرض إلى التوزع والانقسام. فضلاً عن سقوط العالم المعاصر في نزعة وضعية تفتقد الأساس الأخلاقي والديني، ولا تكف عن توليد النزعات الارتيابية والنسبوية التي لا تستقر على حال.
إدانة البابا لهذه النزعات سبقتها محاولات بابوية لاستنكار ما تنعته الأدبيات الكنسية بـ«الانحرافات» الفكرية، من قبيل العقلانية، والماركسية، والوجودية، والفرويدية.. الخ. غير أن ما ميز الرسالة البابوية ليوحنا بولس الثاني هو دعوتها إلى تصالح العقل والإيمان، وحث الفلسفة على ابتكار مقاربات خصوصية في تفسير تناقضات ومفارقات العالم المعاصر، والمساهمة إلى جانب الكنيسة، في إنتاج المعنى واقتراح بعض المخارج للتخفيف من القلق العام. وعلى رغم عدم تطابقهما واختلافهما فإن الفلسفة والدين يمكن أن ينير كل واحد منهما الآخر، بدون تعالٍ أو إدانة مسبقة أو تبادل الاتهامات التقليدية. وبمقدار ما يحتاج مجال الدين إلى تعقل ومعقولية لتجنب الارتكاس إلى أصوليات يغلب عليها الانفعال والتشنج، وإرادة الإلغاء والقتل، يتعين على الفلسفة أن تقر بحاجة الإنسان إلى مرجعية متعالية، وإلى مصدر قدسي يساعد على إنارة دروب الحياة المعقدة.
بعد تقديم أسباب تحرير هذه الرسالة البابوية، والوقوف عند «مأساة» الفصل بين العقل والإيمان، واستعراض الانحرافات التي حصلت في مجال الفلسفة وعالم الدين، ونقده للنزاعات التي تشوش على عملية التصالح المرجوة بين هذين الحقلين، أكد البابا على ضرورة الاعتراف بتنوع الثقافات، والانتباه إلى أنماط الاختلاف التي تنتجها المجتمعات في العالم. فالدعوة إلى التصالح بين الإيمان والعقل لا تهم «الغرب» وحده، على اعتبار أن كل ثقافة تختزن ما يمكن أن يتجاوز حدودها الخاصة لتلتقي مع الإنسان في أبعاده الكونية.
المشروعية والاعتراف
لا جدال في أن النظرة التي وجهت كتابة هذه الرسالة البابوية حكمتها خلفية دينية واضحة، ومن هذا المنطلق كتب عما يشوش على التصالح بين العقل والإيمان، ودعا إلى تخطي «مأساة» الانفصال بينهما، والاعتراف بمشروعية دور كل واحد منهما في حياة الإنسان.
غير أن البابا «بينيديكت السابع عشر» في خطابه الشهير في جامعة «راستبون» يوم 12 سبتمبر 2006 خلق بلبلة فكرية في موضوع موقف الكنيسة من علاقة العقل والإيمان، مما اعتُبر تراجعاً «مذهبياً» قياساً إلى موقف يوحنا بولس الثاني. وفي هذا السياق، يمكن للمرء أن يعقد ما شاء من مقارنات بين هذا النوع من التفكير واجتهادات فكرية سابقة. وليس من شك أن صورة ابن رشد تحضر، بقوة، في إطار هذه المقارنات، ولاسيما أن فيلسوف قرطبة صاغ موقفه النظري من العلاقة بين الفلسفة والدين استناداً إلى إلمام بمبادئ وأصول كلا المجالين، فضلاً عن الخلفية السجالية التي حركته. أما رسالة البابا يوحنا بولس الثاني بعنوان: Fides et ratio فيسكنها حنين لحالة متخيلة تصور الإيمان والعقل وكأنهما في تناغم تام قبل حدوث «الانفصال التراجيدي» بينهما.
وإذا كان ابن رشد يقول بضرورة التمييز المنهجي بين المجالين، واستبعاد أي نزعة توفيقية تبسيطية فإن الرسالة البابوية تدعو الى شكل ما من أشكال التوحيد بين نزوعين إنسانيين يتعين الإقرار بوظيفتهما التكاملية في زمن «الاستلاب» المادي واللامعنى. بل إنها-أي الرسالة- تُشعر قارئها بنوع من عودة الوعي بالطاقة التجديدية التي تمتلكها الفلسفة، وبقدرتها على الارتقاء بالعقل الانساني الى مستوى التقاط الحقائق الأكثر سمواً. أما ابن رشد، فضلاً عن تكوينه القضائي والعلمي، وإحاطته بأصول الشرع، وإلمامه بمبادئ الحكمة، فلم يكن في حاجة الى منح الشرعية لمجال فكري كان منبوذاً في السابق، ولم يكن يتعلق الأمر لديه بعودة الوعي، وإنما بموقف فكري منسجم من الإيمان والعقل، وبالتزام مبدئي بأهمية النظر البرهاني في بناء الذات، والانفتاح على كل ما يسعف في التفكير في الزمن، سواء كان ذلك آتياً من صميم الإرث الثقافي الخصوصي، أو عمل الآخر على اقتراحه.
ومجمل القول إنه لا مجال للتقوقع داخل أصل مطلق، أو التفكير في العلاقة بين العقل والإيمان من منطلق تهديد متبادل، أو تجاوز خصام كان ممثلو هذه الأطراف قد عملوا، طوال تاريخهم، على تأجيجه. صحيح أن للنص الرشدي، في هذا الموضوع، طابع الرد على الآخرين، لكنه صاغ هذا الأفق لبناء تركيب نشط بين العقل والإيمان، ولإقرار وجود متوازن بين الذات والآخر.