محمد قنور
في البدء، اشتهر كريبكه كأستاذ محاضر في الفلسفة؛ يقدم محاضرات مفصلة من دون استعمال ملاحظات أو مسودات، سواء في الفصول الدراسية أو في اللقاءات الفكرية، فحاضرَ حول الهوية وفلسفة اللغة ونظرية المعرفة والحقيقة والرياضيات.. وفي كل حالة كان وضوح وعمق فكر كريبكه مثيراً للإعجاب ومتجدداً.
لقد شرحَ القضايا المعقدة والدقيقة بطريقة مبسطة على مدار أزيد من خمسة عقود، ونشرت نصوص عديدة لمحاضراته إلى جانب كتبه التي باتت مرجعاً مهماً لفهم الفلسفة المعاصرة والمنطق، ما أدى إلى ظهور تفسيرات وقراءات عديدة في فكر كريبكه جعلته أكثر الفلاسفة مناقشة عبر العالم في الوقت الحالي.
صاؤول أرون كريبكه، أحد أكثر الفلاسفة تأثيراً في الوقت الحالي، ليس من قبيل المبالغة القول إنه ساعد على تغيير وجه الفلسفة التحليلية والمنطق في النصف الأخير من القرن الماضي بأعماله المميّزة. وُلد في نيويورك في العام 1940، وترعرعَ في نبراسكا. في طفولته، أظهر موهبة عظيمة في الرياضيات على غرار الاهتمام بالفلسفة، كما عُرف عنه قراءة الأعمال الكاملة لشكسبير وهو في الصف الرابع. ونشر ورقة حول اكتمال المنطق الشرطي، كان لها تأثير جوهري على الفلسفة عندما كان عمره 18 عاماً.
عُيّن في جامعة هارفارد في عام 1963 أستاذاً مساعداً في الفلسفة، ودرّسها في جامعة روكفلر، في نيويورك وجامعة برينستون. وفي عام 1973، بدأ إلقاء محاضرات عن جون لوك في أكسفورد، ونشر مقالات عدة في الصحافة بعنوان «حدود جديدة في الفلسفة الأميركية». وأخيراً، أصبحَ أستاذاً فخرياً في جامعة برينستون منذُ العام 1998.
طريق الفكر
بدأت مسيرة كريبكه كطالب في المدرسة الثانوية، عندما نشر عمله الرائد الأوّل في منطق التراكيب اللغوية واكتمال أدلة الأنظمة الشكلية المألوفة وغير المألوفة. ثم ظهر عمله الأساسي «التحليل الدلالي للمنطق الحدسي»، ليترقب العالم ظهور فيلسوف له ميزته الفكرية الخاصة. وبعد فترة وجيزة، أسّس نظرية الرياضيات (الارتداد الموغل - Transfinite Recursion) في ورقتين، «الارتداد الموغل حول الأعداد الترتيبية المقبولة» و«الارتداد الموغل والتسلسل الهرمي التحليلي». وإذ لم ينجز أي شيء آخر في حياته الفكرية، لكان كريبكه قد اشتهر فعلياً بأعماله الأولى، لكن أفكاره نمت أكثر. لقد كان لديه الأفكار الأساسية عن عمله المهم: «التسمية والضرورة»، والذي أحدث ثورة في مجال الفلسفة. وكشف العمل -الذي أصبح السمة المميزة لكريبكه- وضوحه الفكري الفريد. وبينما واصلَ تطوير أفكاره في المنطق الرياضي، قام بتطوير العديد من الأفكار المهمة في الفلسفة. فعمل على نظرية جديدة للحقيقة لمجاراة مفارقة كريت (Liar Paradox) أو (المفارقة الدلالية للكذاب)، ولغز الاعتقاد، وذلك من خلال تفسيره لفلسفة لودفيتش فيتغنشتاين حول القواعد واللغة الخاصة.
أحد التغييرات الرئيسة التي طرأت على توجه الفلسفة في الثلث الأخير من القرن العشرين هو إعادة تنشيط الميتافيزيقا كمجال للبحث. فقد انتهت الميتافيزيقا تقريباً في ظل الهجمات المستمرة للوضعيين المنطقيين ومدرسة الفلسفة للغات المعتادة والمذهب اللفظي عند كل من كواين وغودمان -على الرغم من أن عمل كواين كان معنياً بقضايا الميتافيزيقا. كريبكه، أولاً بتفسيره الرسمي للمنطق الشرطي ولاحقاً بمحاضراته عن طبيعة الضرورة واللغة، كان له دورٌ رئيس في تغيير اتجاه الفلسفة المعاصرة؛ فتناظر قائلاً: «إن العديد من وجهات النظر الفلسفية التي رفضت الميتافيزيقا لم تكن مخطئة فحسب، ولكنها خاطئة للغاية». وأكّد على المسألة قائلاً: «إذا رفض المرء النظرية التقليدية المرجعية لصالح نظرية مباشرة، فقد يتم التشكيك في الحالة المعرفية للبيان ووضعه الميتافيزيقي». إن الإطار الذي طوره كريبكه لدراسة هذه المسألة قد وسّع النقاش الفلسفي، وأدى إلى نتائج مدهشة جعلت المنطق والفلسفة الرياضية أكثر بساطةً ووضوحاً، ووسعت مجال البحث في الموضوع.
مطرقة كريبكه وإنجازاته
لقد اعتبرت الضرورة أم الاختراع، لكن في الفلسفة، يُسلّط الضوء على مفهوم الضرورة -بعد كريبكه- بشكل مختلف وأكثر إثارة للجدل. ففي بعض الدوائر الفلسفية، تبدو الضرورة على أنها جذر بكثير من الأخطاء الفلسفية، إن لم تكن كلها. في النصف الأخير من القرن العشرين، اعتبر كواين أن منطق الضرورة، الذي يشار إليه بالمنطق الشرطي، قد صور كخطيئة: في هذه البيئة الفلسفية، نشر صاؤول كريبكه أعماله حول المنطق الشرطي ليزيح غبار الوهم عن الفكرة. فأثر عمل كريبكه في تطوير منطق الوسائط، كما كان الموضوع هذا الأساس لكثير من الأعمال الفلسفية اللاحقة لكريبكه. ولفهم عمله، يلزم البداية من خلال مراجعة مختصرة للتطورات في المنطق خلال القرن العشرين.
تشمل إنجازات كريبكه عدة مجالات في الفلسفة، بما في ذلك نظرية المعرفة والميتافيزيقا وفلسفة اللغة والمنطق والرياضيات والعقل، وكذلك مجالات المنطق الرياضي، ولاحقاً في اللغويات أيضاً. امتدّ عمله كذلك إلى دراسات مهمة في تاريخ فلسفة القرن العشرين وفي تاريخ المنطق ونظرية المجموعات في علم المنطق الرياضي.
في أول أعماله في الفلسفة «التسمية والضرورة»، يقارعُ كريبكه أسلافه، ستيوارت ميل وغوتلوب فريج وبرتراند راسل، ويحلل معنى الأسماء العامة وعلاقتها بحامليها مراعياً مرجعها الثقافي والتاريخي. ويدافع عن رأي، حول مرجعية هذه المصطلحات، شبيه بوجهة نظر ميل ضداً على الرأي المهيمن آنذاك لفريج وراسل، لكنه يضيف تصوّره الخاص لكيفية تحديد هذه المصطلحات ومرجعياتها. هذه النظرية الجديدة حلت محل وجهة نظر فريج وراسل. فغيّرت هذه الصورة الكريبكية الكثير من الأفكار حول المعنى والمرجعية والاتصال بين المفاهيم.
قد يكون كريبكه له تأثير فلسفي أكبر في «التسمية والضرورة» من خلال مناقشته لمنطق الأشكال. على وجه الخصوص، يوضح فكرة الإدراكية من اللامركزية والفكرة الميتافيزيقية للضرورة والتمييز بينهما. على عكس وجهة النظر الكلاسيكية، يقول: «ليس كل الحقائق الأولية هي حقائق ضرورية والعكس صحيح». لقد غيّر تحليله لهذه المفاهيم حتما التفكير الفلسفي الذي لازمها لعقود من الزمن.
ولم يكن المنعطف اللغوي الذي اتخذته الفلسفة في بداية القرن العشرين بادياً على أنه مصدر قلق للمنطق فحسب، بل تجلى أيضاً في تحقيق مكثف في طبيعة المعنى اللغوي. «واحدة من وظائف اللغة هو التمثيل والبحث في المرجع»، كما يقول كريبكه، وتستخدم الرموز اللغوية للدفاع عن أو تمثيل أي كيان في العالم مثل الشخص أو الحدث. في حين أن نظريات المعنى التي تم تطويرها بالاقتران مع المنطق من قبل فريج وراسل، تختلف اختلافاً كبيراً في مقاربتها للغة عموماً، إلا أنها اتبعت أساليب مشابهة لشرح معاني الأسماء. لم يكن كريبكه بمفرده في حل المشكلات المتعلقة بالرأي الأرثوذكسي لعلاقة التسمية، لكن كان لعمله التأثير الأكبر على كل التطورات اللاحقة في فلسفة اللغة ونظرية التسمية.
ينهي كريبكه تسمية وضرورة بتطبيق استنتاجاته، مشيراً إلى ضرورة استخدام فلسفة العقل. ويقدم علاجاً جديداً للديكارتية مع نقد للطبيعة في فلسفة العقل.
في كتابه «فيتغنشتاين حول القواعد واللغة الخاصة»، يقدم كريبكه وجهة نظر جديدة لتحدي لودفيتش فيتغنشتاين للصورة التقليدية للغة باعتبارها شروطاً للحقيقة. ثم يقدم تفسيراً جديداً لرأي فيتغنشتاين بأن اللغة لديها شروط توكيد. يربطُ كريبكه هذا بمذهب الشك لديفيد هيوم. ويكشف الكتاب عن فهم عميق لفكرة فيتغنشتاين عن العلاقة بين اللغة والعقل والعالم. ويوضح كريبكه في كتابه «متاهة حول الاعتقاد» كيف تؤدي الطريقة المألوفة التي نعزو بها الاعتقاد إلى متاهاتٍ في الفهم وصعوبة الإدراك، «وتظل المتاهة متاهة كنتيجة طبيعية،» كما يقول، فتشكل عُسراً في الشرح لأي شخص يحاول فهم الاعتقاد وتبقى الحلول مجرد تكهّنات. كما يكشف هذا العمل الهام عن مزيد من الصلات بين العقل واللغة، إذ غيّر النظرة الفلسفية حول ما يسمى بالمواقف الافتراضية أو «المنطق الفلسفي»، ليس هناك ببساطة فكرة أكثر أهمية وتأثيراً في الحياة أكثر من الاعتقاد باعتباره كمتاهة، إن عمل كريبكه في دلالات المنطق والحدس ومخططه لنظرية الحقيقة كان الأساس لكل ما هو حديث في المنطق الفلسفي الآن.
وتقدم مقالات كريبكه، التي كتبها مفكرون متميزون بناءً على محاضراته، صورة أوسع عن الحياة الفكرية لعمل كريبكه. تشمل المواضيع الجديدة التي تتناولها هذه المقالات: كريبكه والأسماء التي بلا معنى والأسماء في الأدب، والمنطقية ومواقفه تجاه الأرقام، والتهافت حول تبنّي المنطق، وانتقاد الوظيفية. لا تقدم هذه المقالات حجج كريبكه الأساسية فحسب، ولكنها تتعامل أيضًا مع الحجج والخلافات التي أثارها عمله، حيث توفر التحليل الأكثر شمولاً لفلسفته وكتاباته المتاحة. حتى أصبحت هذه المجموعة من المقالات أهم ما يميز الفلسفة التحليلية المعاصرة.
تأثير كريبكه
هناك العديد من اختصاصيي المنطق الموهوبين، لكن لا أحد منهم يعارض حكم كريبكه الحازم فيما يتعلق بطبيعة المنطق وتداعياته الفلسفية، خاصة فيما يتعلق بالحالة المعرفية للمنطق. في مواجهة الآراء المشهورة، يظهِرُ كريبكه مشاكل عرض المنطق كعلم تجريبي، ليصلَ إلى نقطة مفادُها يمكننا «تبنّي المنطق»، سواء لأسباب تجريبية أو لغوية.
لا يمكن القول إن كريبكه فيلسوف مؤسس مثل كانط، لكن أسلوبه الخاص يجعله صاحب نقطة تحول هامة في تطور الفكر الفلسفي. فيتمثل أسلوبه في إيجاد لغز أو مشكلة للكشف عنها، ثم تعقب المسار الذي تم كشفه بغية إيجاد نتيجة منطقية. عند قراءة كريبكه، يجد المرء أفكاراً عميقةً ومثيرةً للحيرة. لعدة أسباب، ما زال من السابق لأوانه تحديد بالضبط كيف سيكون تأثير فلسفة كريبكه على تاريخ الفلسفة. أولاً، لا تزال القضايا والأسئلة التي أثارها كريبكه في فلسفته قيد المناقشة. وثانياً، لا يزال الكثير من أعمال كريبكه غير منشورة وغير متاحة لعامة القراء. إن كريبكه، أحد أعظم فلاسفة اليوم والأكثر قراءة ومناقشة. يمزج بين التحليل الدقيق والتفسير الجازم، وكل كتاب له ومقالة تمنح وصولاً واضحاً وشاملاً لأفكار هؤلاء الفلاسفة السابقين الذين قدموا مساهمة أصلية في مواضيع المنطق ولم يتم إدراك معظم أفكارهم. لقد ساهم في تطوير فهم المنطق المتشنج، والمنطق الحدسي والرياضيات، ونظرية العودية العليا والمنطق ذي الصلة، وكان لعمله في المنطق الشرطي تأثير على علوم الحاسوب النظرية. إنه في الوقت الراهن عبقري حقيقي في الفلسفة. وسيستغرق الأمر سنوات عديدة لقراءة كل ما كُتب عن آراء كريبكه، ناهيك عن كل الأعمال التي تأثرت بفكره.