رضاب نهار
حتى أثناء كتابته للأدب المسرحي لم يستطع الفيلسوف والكاتب الفرنسي جان بول سارتر أن يتخلّى عن فلسفته الوجودية، فجاءت نتاجاته الأدبية كخلاصاتٍ فكرية على هيئة قصصٍ وأحداث تجسّدها شخوص من دمٍ ولحم، وتتصارع على خشبة المسرح وفق مرجعيات اجتماعية وتاريخية ونفسية وفلسفية لإبراز صراعها الأبدي.
لماذا كتب سارتر؟
لعلّ سارتر من أكثر الكتّاب الذين واجهوا نقداً لاذعاً في تاريخهم الإبداعي، ليس بما يخص الأسلوب الفني فحسب، إنما بما يخص مفهوم الكتابة الأدبية لديه، حيث إنّه كان يدعو إلى ما أطلق عليه «الأدب الملتزم» الذي وجد البعض أنه قد يفقد الكتابة الأدبية خصوصيتها وشاعريتها ويحوّلها إلى شعارات ونظريات جامدة لا أكثر، عدا عن كونه يخلط بين الدراما والميتافيزيقيا في أعمال يصعب تصنيفها.
الفلسفة والأدب
ونجده قد ألّف كتاباً عنوانه «ما الأدب؟» ليفسّر ويجيب عن التساؤلات المطروحة حول هذا النوع الأدبي في كتاباته المسرحية والروائية من خلال سؤالين أكثر أهمية ووجودية هما: لماذا نكتب؟ لمن نكتب؟ دون أن ينسى تسليط الضوء على موقف الكاتب من العالم. وفي الكتاب يقول ناقداً نقّاده: «كم من حماقات! ذلك أنهم يقرؤون مسرعين دون أن يتدبروا، ويحكمون قبل أن يتثبتوا».. ثمّ يؤكّد أصالة منهجه الأدبي وضرورته طارحاً النظرية التالية: «إذا كان على الأدب أن يتحول إلى دعاية محضة، وإلى مسلاة محضة، يردي المجتمع في حمأة الأمر المباشر، أي الحياة بدون ذاكرة، حياة الحشرات والزواحف. ويقيناً ليس كل هذا من الأهمية بمكان، فيسير كل اليسر أن يستطيع العالم الاستغناء عن الأدب، ولكنه يستطيع خيراً من ذلك أيضاً أن يستغني عن الإنسان»!
في ذات الخصوص، يرى الدكتور زكريا إبراهيم، في مقدمته لمسرحية سارتر «جلسة سرية»، أن من يعيبون على سارتر خلطه بين الفلسفة والأدب، يغفلون العلاقة والوثيقة التي جمعت بين الاثنين. مؤكداً أن سارتر وأمثاله من الكتّاب الوجوديين حينما يقاربون بين الاثنين فإنهم لا يريدون بذلك أن يقحموا الخيال في دائرة التفكير الفلسفي، وإنما هم يريدون أن يعبّروا عن شتى المواقف الميتافيزيقية، التي يمر بها الإنسان بالأسلوب الروائي الذي يتناسب مع الطابع الدراماتيكي التاريخي للوجود البشري.
كذلك لعبت المعطيات السياسية والاجتماعية دورها في اختيار سارتر لمواضيعه. لكنه أعاد تقديمها بعد معالجتها وتعريتها في كثير من الأحيان، مخضعاً إياها لمحاكمة أيديولوجية اتكأت على نظرياته الفلسفية. ولعلّه من الضروري تسليط الضوء على ما أوضحته مقدمة د. رحاب عكاوي لمسرحية «أسرى ألتونا»، حيث أشارت إلى أن البعد الاجتماعي في فكر سارتر قد اتضح بشكل تدرجي بعد فترة تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، مما أدّى إلى وجود فوارق جوهرية بين أعماله الدرامية التي وضعها خلال المقاومة وبين تلك التي أنتجها بعد ذلك.
الحرية والمسؤولية
يسعى سارتر في أعماله المسرحية، إلى شرح فلسفته بطرق لا يكاد يستعصي فهمها. وهو يبسّطها إذ يقوم بتطبيقها على أحداث وظواهر تحدث فعلاً على أرض والواقع وعلى خشبة المسرح من بعدها. وكأنه يطرح الأسئلة ويعطينا الأجوبة باللجوء إلى أمثلة مجسّدة بشخصياتٍ تساعده وتساعدنا على فرز الظواهر الحاصلة وإدراك المعاني والأفكار، ومن ثم استيعاب ما يحرّكنا في الوجود بأكمله ودراسة معطيات الواقع كما هي عليه وكما يجب أن تكون.
لكن وبقدر ما يحاول سارتر توجيهنا نحو أفكار ونظريات فلسفية محددة داخل مسرحياته، تراه يسعى دوماً إلى جعلنا نتساءل حول كل ما يحدث. ويترك لنا مساحةً كافية من الحرية الشخصية، لنوازن الأمور كما نراها بالفعل. إنه بهذا، يحترم ذكاء المتلقي ويراهن على خبراته المتراكمة.
ومن يقرأ أدب سارتر المسرحي، سيكتشف دعواته الأخلاقية وانحيازه إلى احترام العقل الإنساني وما قد ينتج عنه من أفكار ومصائر. وكثيراً ما نراه يؤكّد بين السطور كيف أن الأخلاق الإيجابية من شأنها بناء الحضارة البشرية، وكيف يقودنا انعدام هذا النوع من الأخلاق إلى الدمارين الضمني والخارجي. وبشكلٍ أساسي، تصبّ مواضيعه في مسؤولية الإنسان عن أفعاله وعن جميع العواطف الصادرة عنه. وبالتالي مسؤوليته عن التغيير في المجتمع حاضراً ومستقبلاً. وبهذا يسجّل سارتر موقفه الفلسفي والإنساني والسياسي والاجتماعي من خلال الكتابة الأدبية.
وإنّ هذا الالتزام الذي يبديه سارتر ضمن مسرحياته، حول المسؤولية وضرورة أن يمتلكها الإنسان، لا تتعارض أبداً مع مفهوم الحرية التي هي إحدى أهم أفكار فلسفته الوجودية. على العكس تماماً، فالعلاقة بين المسؤولية والحرية لديه، هي علاقة حتمية ومنطقية. وهو يشرحها في كتابه «الوجودية مذهب إنساني» كالتالي: «إن الإنسان محكوم عليه بالحرية: محكوم عليه لأنه لم يخلق ذاته، وهو حر لأنه قد صار مسؤولاً عن كل ما يفعل بمجرد أن تواجد في العالم». كما يؤكّد أن الإنسان عندما يختار إنما يختار لكل الناس، فيقول: «مصطلح الذاتية يعني حرية الفرد الواحد من جهة، وأن الإنسان لا يستطيع تجاوز ذاتيته الإنسانية من جهة أخرى. والمعنى الثاني هو المعنى الأعمق في الوجودية».
ونرى كيف أن الأحداث في مسرحياته تقوم على مجموعة من المفاهيم التي اشتغل عليها في نهجه الفلسفي، مثل العدم، الوجود، المسؤولية والحرية وغيرها. ولكنه يحوّلها داخل النصوص الأدبية إلى مفاهيم أو مواضيع مستوحاة من الواقع الإنساني المعيش واليومي مثل: الجريمة، العقاب، الندم، الخوف، مصير البشر، ثنائية الحياة والموت. وما بين المستويين من المفاهيم تكمن الحياة الحقيقية التي نمارسها جميعاً.
ونذكر على سبيل المثال ما جاء على لسان جموع الأطفال في مسرحيته «الذباب»، حيث تمّ تكثيف الحوار ليختزل عدداً من المفاهيم الفلسفية في عبارات بسيطة:
«الأطفال: الرحمة! إننا لم نقصد أن نولد، ويخجلنا كثيراً أن نكبر وننمو. فكيف كان بإمكاننا أن نذلّكم؟ انظروا، إننا نكاد لا نعيش، فنحن هزيلون، مصفرون، قصار، إننا لا نحدث ضجة، ونحن ننساب حتى من غير أن نهزّ الهواء الذي يحيط بنا. ونحن نخشاكم، أوه، نخافكم خوفاً شديداً».
أيضاً نتوقف عند مفهوم «المواجهة» المتغلغل في نصوصه، إذ إنه يسعى دائماً إلى وضع الشخصيات في مرحلة المواجهة وفق مستويين، الأول مواجهتها لذاتها فترى ما تستطيع فعله وتختار من الخيارات ما تشاء، والثاني مواجهتها للمحيط من حولها بما فيه من تناقضات لتتعرف بعدها على جوهر فكرة الوجود.
وفي مسرحية «أسرى ألتونا»، كان التالي:
«فرانتز: ليس لي إلا حياتي، أنا. (بجنون) ليس لي إلاها. لن يأخذوها مني. ثق أنني أكرهها، لكني أفضّلها على لا شيء».
ثمة علاقة وطيدة في مسرحيات سارتر بين الخوف والحرية. فأن تكون حراً يعني أنك لا تخاف. لكن الحرية هنا لها سياق خاص يقود إلى الفقدان. وبالتالي أنت حر عندما لا تملك شيئاً تخشى فقدانه.
وقد كتب في مسرحيته «جلسة سرية»: «إن الخوف صالح قبل، حين كنا نحتفظ بالأمل».
بينما جعل شخصيته «كليتمنستر» تقول في «الذباب»: أخاف؟ لئن ربحت شيئاً في فقد نفسي، فهو أني لا يمكن بعد أن أخشى شيئاً الآن.
البساطة والحدّة
احتفظ سارتر -نوعاً ما- بالأطر الدرامية القديمة في مسرحياته. وكأنه اهتمّ بالمضمون أكثر من اهتمامه بالشكل، أو بمعنى آخر، اتجه إلى استخدام شكل فني بسيط يستطيع إيصال المعنى وإيضاح الحدث ويمنح الشخصيات أدوارها المرسومة. وهنا نعود لعكاوي في تأكيد أن «سارتر وأضرابه من الكتّاب الوجوديين، ومن حذا حذوهم وتأثّروا بهم بدرجة أو بأخرى، آثروا الشكل الفني التقليدي ذا الطابع الأرسطي، وإن أعادوا دون شك تأسيسه في سياق فلسفتهم ورؤاهم الجمالية. ففي دراما سارتر مهما بلغت من التركيز والتكثيف كما نجد في «جلسة سرية»، أو أصابها شيء من التطويل والتهلهل نتيجة تكنيك «الفلاش باك» كما في «الأيدي القذرة» أو «أسرى ألتونا» التي يتداخل فيها الزمن الحاضر مع الاسترجاع، نجد بناءً مألوفاً في تطوير الشكل الفني، فمن مرحلة المقدمة (البرولوغ) أو العرض، التي تخصّص لتعريف الشخصيات والعلاقات بينها والموقف الذي يجمع خصائصها، إلى الحدث الحافز أو نقطة الهجوم التي تولّد المفارقة الدرامية مما ينشّط الفعل في إطار من التناقضات يتكثّف معها الصراع في خط صاعد بر سلسلة من التعقيدات تنتهي إلى ما يعرف بمشهد الذروة، ثم مشهد التعرّف، أو الاستنارة، الذي تنفض معه المفارقة وتدرك الشخصية ما كان مجهولاً عنها». ومن هنا يبدو كيف يتجّه الخط البياني للحبكة بعد هذا الإدراك نحو الهبوط وبالتالي الانقلاب في المواقف الذي يمهّد للنهاية الدرامية أو الحل الدرامي.
غالباً ما يكون الصراع في أعمال سارتر المسرحية، شديد الحدة، حيث إنه يضع الشخوص وسط دائرة من التجاذبات والانقسامات النفسية أثناء محاولتها للخروج من مأزق كبير. وفي حين تكون هذه الشخصيات هي السبب في خلق هذا المأزق وهي المسؤولة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عن الورطة التي هي فيها، يكون الحل صعباً جداً ويتطلّب من الجهد ما لا يستطيع الإنسان وحده أن يبذله.
اللغة الأدبية التي استخدمها سارتر في كتابة مسرحياته، أبسط بكثير من تلك التي كتب بها مؤلفاته الفكرية الخالصة، ويكاد يكون لها تأثير أشدّ من تأثير النظريات الفلسفية الجافة. وهنا لا نقول إنها لغة مجردة من معانيه ونظرياته الفلسفية، وإنما نؤكّد اقترابها من الحوارات اليومية التي تصبّ في إشكاليات محدّدة، لكن بصيغة درامية عفوية إلى حدٍ ما دون أن يسقط عنها الخاصية الشعرية الأدبية.
إذن، لقد سمح سارتر لجميع شخصياته أن تتحدث بأصوات متفردة ومتفاوتة حسب منطقها الاجتماعي والسياسي والثقافي والنفسي، لتجسّد فلسفته المسماة بالوجودية. ومع العلم أن كل مسرحية على حدة لها خصوصيتها من حيث الموضوع والفكرة والأحداث والشخصيات وغيرها من عناصر الكتابة المسرحية، إلا أنها جميعها تتفق في البحث العميق داخل الذات الإنسانية بعلاقتها مع الوجود الكلي من حولها.